الهموم والنحوس والخطوب والشرور والعذاب والحفر

الهموم والنحوس

والخطوب والشرور والعذاب والحفر

د. أحمد الجباوي

من منكم نسي ترديد قصيدة الصبا: سقف بيتي حديد ركن بيتي حجر؟ ما مررت بمدرستي إلا رددها فؤادي قبل أن يرددها لساني. لا يقل أحدكم إنني أحب أن أعود للماضي لأنسى الحاضر فإن ذكر الماضي هو الجزء المهم من الحاضر. ولطالما تذكرت خروجي من مدرستي متوجهاً إلى بيتي فإذا لفحة عنيفة من عواصف "الشمال" تعاجلني لتنفذ إلى أعماق بدني رغم طبقات الصوف التي كانت والدتي لا تدعني أغادر المنزل دون أن أرتديها. و لرب مرات و مرات كنت أخرج فيها من المنزل خلسة حتى لا تراني والدتي وتجبرني على لبس ما ثقل حمله وأربك مسيري و سعيي، فما ألبث إلا أن أباغت بصوتها ينبعث من بعيد أن ارجع فارتد معطفك أو قبعتك، أتريد أن تصيبك الحمى كما أصابتك في العام المنصرم؟؟ وتأبى مشاعر الحمية في قلوب اليافعين و الأطفال إلا أن تتحدى الصعاب و أن تتباهى بعبورها بحر المخاطر غير عابئة بالعواقب. ويالها من ساعات طوال كان فيها أقراني يسيرون زرافات و وحدانا تحت زخات المطر وبين زمهرير العواصف في طريق عودتهم إلى بيوتهم وهم يرددون قصيدة الشاعر: 

سقف بيتي حديد** ركن بيتي حجر

فاعصفي يا رياح ** وانتحب يا شجر

واسبحي يا غيوم ** واهطلي بالمطر

واقصفي يا رعود ** لست أخشى خطر

باب قلبي حصين ** من صنوف الكدر

فاهجمي يا هموم ** في المسا والسحر

وازحفي يا نحوس ** بالشقا والضجر

وانزلي بالألوف ** يا خطوب البشر

وحليفي القضاء ** ورفيقي القدر

فاقدحي يا شرور ** حول بيتي الحفر

لست أخشى العذاب ** لست أخشى الضرر

 

ظن الصغار أن الشاعر قصد من أبياته الرائعة بيوتهم المبنية من أحجار البازلت الحصينة التي ملأت أرض الشام، ويالها من لبنات قوة في البناء وحفظاً من أبواب السماء من كل ماء منهمر. وما زال الصبية يخاطبون الرياح والغيوم والمطر والرعود ويفخرون ببيوتهم المنيعة من كل أذى وما هي إلا دقائق معدودات حتى تنفتح لهم تلك الأبواب الحصينة التي افتخروا بها فيهجعون إلى أسرتهم ليهنؤوا بدفء فرشهم ويغطوا في نوم عميق لا يضيرهم ما يرون من التقاء الماء و لا ما يسمعون من هدير الرعود. كنت أصدح بإنشادي معهم و كل أمنيتي أن تفقه أمي ما نقوله ونؤمن به. كنت أعرف ما تفعله الرياح والغيوم والأمطار والرعود، ولكن بقية الظواهر الكونية التي وصفها الشاعر بقيت ضرباً من الطلاسم في عقلي وعقول من كانوا يرددون معي. ومازالت الهموم والنحوس والخطوب والشرور و العذاب و الحفر هي الظواهر الطبيعية التي كنا نظنها تشبه غيرها مما ذكره الشاعر و نجزم أنها تصحب الأجواء الباردة. وأن بيتنا الحصين المبني بتلك الحجارة البازلتية سوف يمنعنا منها. 

نظرت إلى أطفال مخيمات اللجوء وسرت معهم في صورهم من خيامهم المملوءة جليداً إلى أزقتهم المملوءة طيناً وسألت نفسي ماذا يفعل مدرسو المخيمات بهذه الأبيات من الشعر عندما يصل تلاميذهم إلي هذه القصيدة؟؟ فأين سقف البيت المبني من حديد وأين ركنه المبني من حجر؟ وهل لهم أن يتجاهلوا عصف الرياح وهل حولهم شجر ؟؟ و كيف لا يأبهون عند رؤية الغيوم و هطول المطر؟ وماذا يعني لهم قصف الرعود إذا علموا أنه هو الخطر؟ و لاسيما عندما تذكرهم بالبرميل الذي سقط عليهم ثم انفجر؟؟هل مازالت أبواب قلوبهم حصينة من صنوف الكدر؟ هل عرف صبية بلاد الشام معنى الهموم وهجومها في المسا والسحر؟ و هل أدركوا زحف حظوظهم في الشقا والضجر؟ وهل هم بانتظار مزيد من خطوب البشر؟ كيف سيشرح مدرسو اللغة العربية القصيدة لطلابهم؟؟ أم إن الصبية لا يحتاجون إلى شرح؟ أم أنهم سيتفوقون علينا بإدراكهم معنى الهموم والنحوس والخطوب والشرور و العذاب و الحفر التي وردت في بقية الأبيات والتي تعسر علينا فهمها يوم طفولتنا وصبانا فيعلموننا و يعلمون أقرانهم ما لم نكن نعلم؟؟؟