من يحمل أحزان حزيران ؟!

من يحمل أحزان حزيران ؟!

إبراهيم جوهر - القدس

... هذا الوجه أعرفه . نعم أعرفه ! لكن ، أين التقيته ؟ اين التقاني ؟ من هو بالتحديد ؟!!!!

إنه الأول من حزيران !! نعم 1 حزيران . الآن تذكّرت ، أذكره جيدا ! ؛

وجه حزيراني يحمل الحزن منذ ذلك اليوم البعيد القريب ... يوم بدأت أستعد لعام دراسي سيقدم بعد ثلاثة أشهر .

استعرت كتب الصف الرابع الابتدائي من ابن جيراننا ( هشام سرور ) بل بادلتها بكتب الصف الثالث الابتدائي ، كتبي ، التي رافقتني فاحتفظت بها . ( لم نكن نمزّق الكتب كما يفعل عديد من الطلبة هذه الأيام .)

استلمت كتب الصف الرابع وبدأت بفرح غامر يطل على مستقبل حالم بالقراءة . قرأت كتاب ( وطني الصغير ) المقرر للصف الرابع ، وكتاب القراءة العربية ، ورحت أحلم بالصف القادم بحب وابتسام .

لم أكن أدري وقتها أن انقلابا كليا سيكون ، وأن ( وطني الصغير ) سيصغر أكثر فأكثر ، وأنني في الصف الرابع الذي بدأ بعد خمسة أشهر لا ثلاثة بسبب إضراب المعلمين والأهالي احتجاجا على الوضع الجديد ( الاحتلال ) سأتعلم ( مدنيات اسرائيل ) واللغة العبرية ، وأن معلمة بتنورة قصيرة ستعلمنا نحن أبناء القرية التي تلبس أمهاتنا وجداتنا فيها ثوبا بطول مضاعف يتم ثنيه من وسطه ....

هذا الوجه الحزيراني عرفته الآن . حضر بكل حزنه وذكرياته وأوجاعه ....

حزيران شهر الحزن فلا عجب أن تكون أحرف الحزن من مكوّناته ...

الجمعة ؛ اليوم الأول لرقدة الشهداء قريبا من أمهاتهم وترابهم الذي اشتاقوا ( التمرمغ ) فيه ... يوم بمشاعر مختلطة بين فرح وحزن ، وابتسامة ودمعة ...أليس حزيران شهر الحزن ؟!!

اليوم لم أخرج من المنزل . بقيت على حوار مع ذاتي أستعيد ذاكرتي البصرية التي تحجرت أمس مع مشهد تقبيل العظام ....

عظمة المشهد ، وحزنه ، و " لذّة " غريبة تنتاب الذاكرة التي تستحضر ذاتها ...

وقعت في ( حيص بيص ) . لم أقدر على الخروج ولم تفارقني العاطفة .

صديقي الشفاف ( محمد خليل عليان ) ذهب إلى رام الله أمس ، وعاد بحزن ، وارتفاع حاد بالسكّر ، وضغط شرايين ، وبقاء في مشفى المقاصد .

( ابو خليل ) سأل ، أو لعله أجاب ، تعليقا على المنظر المهيب لحملة النعوش الملفوفة بأعلام الحلم الملون :

من يحمل من ؟

سؤال فلسفي ، أدبي ، فكري ، وطني بامتياز ...من يحمل من ؟؟؟

( قال  " شنّ " لأبي " طبقة " وهما سائران في الطريق : أتحملني أم أحملك ؟ وسأله : أتظن أن صاحب هذه الجنازة المحمول جثمانه حيّ أم ميت ؟ ) .

تصفّحت سريعا مشاركات أصدقائي  فكتبت لصديقي (عيسى القواسمي ) : ماذا يقول الزعتر لو نطق ؟ تعليقا على صورة الزعتر البلدي والبهارات ...وقلت ل ( أبي خليل )تعليقا على قوله ( لن يهزمني المرض ) : ليأخذ المرض حصته منك ، وليبق لنا حصتنا الأكبر ...ليبق لنا إنسانيتك ، وبراءتك ، وشفافيتك ... لن يقدر المرض اللعين على الأرواح النقية .

قرأت رسالة من ( عبد المجيد حمدان ) جاء فيها : مرحبا ابراهيم ، أتذكر أيام " الطليعة " ؟

( أبو وديدة ) نكأ جراحي وهو يعيدني إلى أيام الشباب الفوّارة بالحلم والصدق والإيثار .

وقتها كتبت سلسلة ( حزيرانيات ) وقررت متابعتها . الفكرة الحزيرانية جاءت مع (حزيران) بيروت 1982 م .

( حزيرانيات ) حملت السياسة ، والأدب ، واللغة . حملت الجمال ، والدمعة ، والنبرة الواثقة ..... اليوم نبرتي ( حزينة ) كاسفة البال . الحلم تشظّى ...لكن ناره تنوس تحت الرماد .

يجب أن أزور ( أبا خليل ) . اتصلت به مطمئنا سائلا فطلب مني ألا ( أغلّب حالي ) !! من ( يتغلّب ) إذا ؟!!

قرأت مقالا / قنبلة ( !! ) نشره على صفحتي صديقي ( جمال غوشة ) جاء فيه إن تكاليف مفاوضات المصالحة بلغت بالتقريب ( خمسين مليون دولار ) بين تذاكر سفر ، وإقامة في الفنادق ....الخ ( الرقم للتأكيد : خمسون مليون دولار ) !! وسأل : لماذا لم تقم خمسون مدرسة بهذا المبلغ ، أو خمسون عيادة .......ولماذا لم تتم المصالحة بعد ؟

( المليون !! ، تعلمنا عنه في صفوفنا البعيدة ونحن أطفال بأنه واحد وإلى جانبه ستة أصفار ؛ أي : 1000000 ، ولم تستوعب عقولنا الغضة قيمة الرقم وقتها ...وما زلت إلى اللحظة على ما كنت عليه وقتها ....!!! مليون ؟!!! لا بل 50000000 )

... وما زالت المفاوضات متعثرة !

والمصالحة تحبو ،

والملايين الخمسون ستزداد ...

من يحمل من ؟

( من يحاصر من ؟)

صديقي الكاتب ( محمد خليل عليان ) في الطابق الثالث في غرفة العناية المكثفة بمستشفى المقاصد . من مكانه يطل على القدس والسور يحتضنها .

القدس ممنوع الإنفاق على بنيتها الثقافية التحتية والفوقية ؛ الدول المانحة تمنع ، والهيئات المانحة تمنع ، و ( نحن ) لا نجرؤ ! أو لا وفرة في الميزانية ...فالتكاليف باهظة ؛ المصالحة وسفرياتها ،

والفساد وسرقاته ،

فلتنتظر القدس حتى ( تعود ) في نعش من عظام ...لكن : من سيحملها آنذاك ؟؟