من ذاكرة شعب ثائر

من ذاكرة شعب ثائر

هل تصحو الكرامة لتثأر من ذل السنين؟

د. سماح هدايا

هذا سؤال أجابت عليه الثورة السورية بدمها في كل مدن سوريا. ولكلّ مدينة قصّتها الخاصة مع ثورة الحريّة  والكرامة، ولكلّ حي حكايته. ولمنطقة جسر الشغور قصتها . كان قدرها أن  يكتب أهلها ثورتهم الباسلة بأصابع من جمر وسط مأساة التّقتيل والتّهجير.

  بدأوا الحكاية في بداية الثورة، وكانوا ثلة من الأحرار، لم تطعن الخيبات عميقا في ضميرهم. خرجوا في مظاهرة من خمسين شخصا، تضامنا مع  أطفال درعا المعتقلين والمعذبين ومع أهلها المنكوبين؛ فوقف رجال الأمن لهم بالمرصاد قمعاً وترهيباً، ثمّ احتيالا بوعود إصلاح كاذبة، وأحبروهم على الصمت.

 لكنّ الصّمت أصبح أمراً صعباً بعد صحوة الرّوح الثائرة وانتفاض الجسد الموجوع.  فالغضب سرعان ما تحرّر من إساره، وعادت الحناجر تطالب  بالحرية والكرامة بعد  أسبوعين من التظاهرة الأولى، وذلك عندما جرى الاعتداء على ثلاثة من جسر الشغور كانوا عائدين  إلى عائلاتهم وأطفالهم من أعمالهم في لبنان، وصادفهم في طريقهم من بانياس التي كانت تشتعل انتفاضا حاجز أمن سوري؛ فهاجمهم  رجال الأمن ولم ينج من الموت إلا شخص واحد، بقي، بالمصادفة حيّاً ليسرد لأهل الجسر تفاصيل  حادثة الاعتداء الإجراميّة. وكانت الشرارة الثانية للتظاهرات، التي اتسعت وتصاعدت، وأصبح عدد المشاركين  2000  تقريبا.

و لم تكن التظاهرات لتنجو من القمع والإرهاب؛ فقد نالها  من رجال الأمن الرصاص والغازات المسيلة للدموع، من اجل إخماد الحق وإسكات صوت الحريّة.  ثمّ  برز التحايل والخداع، للقضاء على ثورة الشعب وثائريه في جسر الشغور. واضطر الناس  للصمت والسّكوت، لكيلا تتكرر مآسي الثمانين التي مازال إرهابها حاضرا في الآذهان . لكنّ أسبوعين لاحقين غيّرا واقع جسر الشغور؛ فحين اشتعلت حمص بالثورة، امتدت النار إلى الجسر، بإقدام قوات أمن النظام  على قتل عمال من جسر الشغور قادمين من لبنان إلى الجسر على متن حافلة قرب حاجز أمن في حمص. لم ينج من الركاب أحد؛ فثار غضب جسر الشغور الذبيحة واندلعت التظاهرات  السّلميّة حاشدة غاضبة، واتّحد حراك مدينة جسر الشغور بحراك ريفها، وصارت الحناجر تنادي بإسقاط بشار"مابدنا بشار"

    وأخذت المأساة تحفر حروفها في مصير أهل جسر الشغور، وصار الرقم التظاهري الشعبي عشرات الالاف...وازداد مع الرقم المتصاعد عدد الحواجز الأمنية في الجسر وماحولها، ودخل الغرباء المخبرين، وصار الأمن في كل مكان. يلاحق الثوار، ويتابع  تشييع الشهداء والجنائز.  وأصبح  رصاص الأمن الغادر الكلمة الفصل..وتعقّدت الأوضاع، وازداد النزيف، عندما هجم  الأمن برصاصه الحاقد على المشيعيين في جنازة، وقتل في نصف ساعة حوالى تسعة أشخاص. وكانت الحادثة نقلة نوعية، جعلت الشباب الأعزل المسالم الثائر والمفجوع يفكر بالتسلّح  دفاعا عن النفس والأهل  والعرض وثأرا لدم الشهداء.

    وتدخّل في الأمر  وزير الخارجيّة لتطويق الانتفاضة الشعبيّة، وهدّد بالضرب الشديد؛  فكان الرد الشعبي قويا بخروج أهل الجسر متنفضين  ضد  تهديد الوزير..وبالطبع تدخل الجيش للحسم؛ فهرب الناس إلى القرى القريبة من الحدود التركية.

    ما كان أحد يفكر بالنزوح إلى تركيا، ولم يكن الشعب متآمرا على الخريطة السوريّة؛ لكنّ قدوم جيش النظام  إلى الجسر لمحاربة المنتفضين، جعل جموع الناس تخاف وتهرب وتنزح إلى تركيا...ودخل النازحون في تيه حقيقي؛ فلم تكن وسائل المواصلات موجودة. وليس هناك كهرباء  ولا مأوى،  ولا  طعام  ولا شراب. حتى الماء سممته قوات النظام. ...ولم تكن المخيمات موجودة.. .واشتد الخوف والقمع وازدحم الطريق بموكب النزوح إلى تركيا...ومن رحلة الألم والقهر في الوطن المحتل إلى رحلة الشقاء في المخيم وفي الاغتراب. لكنّ الشعب الثائر صاحب القضيّة المحقّة مازال يبحث عن مفردتي الحرية والكرامة، يعاني ويقاوم ويجرّب ويخطيء ويصيب. ويبقى الحلم والأمل والصمود والكفاح جذوة النصر على الرّغم من قهر الفجائع وذل النزوح.

.............

" اعتمادا على ذاكرة  رشا حاج رمضان:( شابة ناشطة ونازحة في المخيمات التركيّة وأخت لشهيدين ومعتقل)".