لو كنتُ علويًّا....

لو كنتُ علويًّا....

محمد عبد الرازق

كتبَ الله لهذه البلاد أن تكون متعددة الأعراق، و الطوائف منذ القدم، و قد تقبَّل الشعب هذه الإرادة الإلهيَّة، و تعاملوا معها بواقعيَّة أذهلتْ من أرادَ لها أن تكون شوكة في الخاصرة، و من تلك التلوينات الفسيفسائية العلويون، و هم مِلَّة ينسبها البعضُ إلى قوم من قبائل ( تَيْم ) العربية، اِستوطنوا جبال الساحل، و قد كانوا في ضَيْمٍ و قِلَّة، شأنُهم في ذلك شأنُ أبناء سورية عمومًا، و لمَّا جاءتنا فرنسا محتلَّة لهثَ مجموعةٌ منهم وراء مخطاطاتها في تقسيم سورية إلى دويلات طائفية، و عرقية، و لكن شعبنا بعمومه أحبطَ ذلك، و لمَّا أُجبِرَتْ على الجلاء لم تنسَهُم؛ فاشترطت على المفاوضيين أن يتألَّف جيشُ سورية الفتيّ من قوات ( الدرك، و الجندرمة ) المشكلة أصلاً طائفيًّا؛ فعلا كعبُ العلويين حينها، و أحكموا شيئًا فشيئًا قبضتهم على مفاصل الجيش و الأمن في ظلِّ غفلة، و إعراض من أهل السُّنة، و لا سيَّما من أبناء مدينتي حلب و دمشق، و أخذ نفوذهم يزادد تأثيرًا بعد بسط سيطرتهم على اللجنة العسكرية في حزب البعث، و صعود الثلاثي ( عمران، جديد، أسد ) في سُلم السلطة، و كان ما كان من علو راياتهم بعد إمساك الأسد مقاليد الحكم، فذاقوا حلاوة السلطة، و سال لعابُهم، و لم يَعُد يقنعهم ما خُصُّوا به. بل طمعوا بما في أيدي الناس، و سهَّل لهم الأسد ذلك حتى يُمكِّن لسلطته من خلالهم، و أصبح ليُّ اللسان بلهجتهم مدعاة للنشوة، و إلقاء الذُّعر في النفوس، و أصبح من لا يعرف عشائرَهم، و تاريخهم، و عاداتهم، يبحث لاهثًا من أجل الإحاطة بنصيب من ذلك، عسى أن ينال من القوم بقيَّة فُتات، و بعد أن جاء الأسدُ (الابن ) بدأ نفوذ الطائفة العلويَّة بعمومها يتقلَّص لصالح عوائل معيَّنة فيهم ( الأسد، مخلوف، شاليش، ...).

 و كان حريًّا بعقلاء الطائفة أن يُجروا مراجعة نقدية جريئة لعلاقتهم مع النظام؛ حفاظًا على مصلحة الطائفة التي بدأت تتقزَّم لصالح حكم تحالف العائلة الأسدية، و لكنهم عوضًا عن ذلك صَبُّوا جام غضبهم على من فكَّرَ منهم بتلك المراجعة النقدية كما فُعِل مع المعارض العلوي البارز( د.عارف دليلة )، الذي حُكِم عليه بالسجن عشر سنوات، في حين حُكِم على ( أنور البني ، من أهل السُّنة) بخمس سنوات فقط، و الجرم نفسه.

 و لمَّا هبت رياح التغيير على سورية فيما أطلق عليه ( الربيع العربي )؛ أعاد النظامُ سيرته الأُوْلَى، و نفخ في أبناء الطائفة ريح الطائفية النتنة، و استدعى رجالات الحرس القديم من ضباط العلويين، و جنَّد فتواتهم أصحاب العضلات السِّمان الذين عاثوا في البلاد فسادًا أيام الثمانينات، و قد عُرفوا حينها بـ ( الشبيحة )، و استدعاهم النظام على عجل، و ضخَّ في عروقهم دماء الطائفية من جديد، إلى جانب أصحاب السوابق، و تجار الممنوعات ، و خلعَ عليهم لقبًا مُعدَّلاً ( شبيحة الأسد ).

 لقد فاحت منهم رائحة الطائفية حتى زكمّت الأنوف، و عَرَفَهم الأقربون، و الأبعدون، و أعادوا إلى الذاكرة فِعال ( الحشاشين، و فرق الموت، و الباسيج )، هذا فضلاً على ما تكفَّلت به قوات النخبة من الجيش المكوَّنة أساسًا على نحو طائفي ( الفرقة الرابعة، الحرس الجمهوري، المخابرات الجوية، و العسكرية).

 لقد كان حريًّا مرة أخرى بعقلاء العلويين أن يُعيدوا النظر فيما هم ماضون فيه من الاصطفاف إلى جانب حكم العائلة، و الانحياز إلى سورية ( شعبًا، و تاريخًا، و ثقافةً ) ، و لاسيَّما أن هذه الهَبَّة الشعبية جاءت ثالثة بعد ( ثورتي: الدستور، و الثمانينات )، منذ إحكام الأسد سلطته على سورية بقبضتين قويتين ( قبضة البعث، و قبضة الطائفة ) المصبوغتين بالصبغة الأمنية و العسكرية، و هي هبَّةٌ تختلف عن سابقتيها؛ لأنها جاءت في ظل متحوِّل داخلي تمثَّل بالتلاحم الشعبي لكل مكونات الشعب؛ فضلاً على التحولات الإقليمية، و الدولية الأخرى التي جاءت متزامنة معها؛ ممَّا أثمر عنه اِنحسارٌ واضحٌ لقبضة النظام الأمنية التي كان فيما مضى يُسيم الناس الذلَّ و الهوان بها، و تبعَ ذلك فشلٌ في الحسم العسكري لما يحدث، و تتابعت الأزمات الداخلية التي تحيط بالنظام (سياسية، و أخلاقية، و إقتصادية، و ثقافية، و حزبية، و طائفية، و حتى عائلية ).

 و عليه فإنِّ على العلويين أن يُعيدوا حساباتهم ، و قراءة المشهد بعيون أخرى ، فالزمن قد تغيَّر، و وعي الناس، و إدراكهم للأمور قد تبدَّل، و سلاحُ الأمس ما عاد مجديًا اليوم، لقد أصبح رجلُ الأمن يبحث عن جحر يتوارى فيه، و جيش النظام ( حُرَّاس الوطن يتوسلون النجاة من مقاتلي الجيش الحُرّ) ، و الناس قد خرجوا و لسان حالهم يقول: ( ما في رجعة )، و جنائز الشهداء تحدوهم إلى المُضيِّ في طريقهم، و عاثر الحظ منهم من ستنتصر الثورة و ليس في عائلته شهيد.

 لذلك أقول: لو كنت علويًّا مُحبًّا لطائفتي، و أهلي، و وطني لاتخذتُ قراري الجريء بالاِنحياز إلى خيار الشعب، و الانفكاك عن حكم الأسد، الآنَ الآنَ، و ليس غدًا، ؛ فالأيام ذاكرتُها مشحونة، و الناسُ تتناسى و لا تنسى، و عندما تشرق شمسُ الحرية لا ينفعُ نفسًا إيمانُها ما لم تكن قد آمنَتْ من قبل، و عندها لاتَ ساعةَ مَندَم، فاليومَ ثورةٌ، و غدًا نصرٌ مُؤَزَرٌ إن شاء الله.

اللَّهُم هل بلَّغْت؟ اللَّهُم فاشهدْ ,,,