المنصف المرزوقي تباين في فهم المؤدى للنصوص والدلالات

المنصف المرزوقي

تباين في فهم المؤدى للنصوص والدلالات

مأمون احمد مصطفى*

[email protected]

في المقالة المعنونة " التباين والتوافق مع صديقي الشيخ راشد " يحلل المنصف المرزوقي نقاط الالتقاء والاختلاف بينه وبين الشيخ راشد الغنوشي من الكتاب الصادر عن دار الشروق بعنوان " الحريات العامة في الدولة الاسلامية"، وكلمة تحليل يمكن ان تكون كلمة كبيرة او مبالغا بها، لان المنصف المرزوقي لم ينحو نحو أي اسلوب تحليلي علمي او استدلالي او منطقي او استقرائي ليستدل على صدق توجهه او فهمه للأمور المختلف عليها بينه وبين الشيخ، بل انطلق من رؤية ذاتية خاصة وفهم خاص وفردي غير مدعوم باي دليل يمكن الركون او الرجوع الى منطقه من اجل محاولة فهم نظرته او تصوره للأمور.

واتخمت المقالة بنقل صور من التاريخ بشكلها العام المؤطر بصورة رؤية خارجية تدعم توجه غير مبني على أي اساس من اسس الاستدلال العقلي، او أي منهجية لقراءة التاريخ، وحتى أي دلالة تستطيع ان تؤصل لمقالة يمكن الركون اليها او الرجوع لمحتواها من اجل محاولة فهم أي قيمة من القيم الحضارية التي يمكن ان ينشدها مجتمع من المجتمعات، بل ونستطيع القول بكل ثقة، ان هناك تباينا واضحا في المصطلحات والتفسيرات للنصوص، والاحداث التاريخية يصل الى درجة القصور المطلق عن فحوى المصطلحات التي استخدمها الكاتب نفسه.

وبما انه حدد مفردة "النقد" في التوجه لتحليل المقالة، فقد الزم نفسه بصورة دقيقة وواضحة ومطلقة بتقديم الدليل النابع من الرؤية النقدية الخاضعة للتحليل المنطقي بأسلوب النقد وادواته التفكيكية للفكرة المطروحة في الكتاب استنادا لما بين الشيخ راشد او ثبت في كتابه، دون اللجوء الى أي اسلوب شخصي او رؤية شخصية تتباعد وتفترق عن الفكرة المطروحة في الكتاب الذي يود نقده وبيان نقاط الالتقاء او الاختلاف بينه وبين الكاتب.

لكن المنصف المرزوقي ومن اول نقطة من نقاط الاختلاف كشف بصورة واضحة عن قصوره المرعب ومخادعته البينة في اسلوب النقد، بل ونستطيع ان نقول بانه تعمد اقصاء فكرة الغنوشي المطروحة في الكتاب، من اجل استدرار راي القارئ وتشتيته ليقول له ما يود ان يقول.

وهذا ما دفعني الى التعليق على نهج المقالة التي هي بأحسن الاحوال يمكن ان تسمى قراءة غير منطقية او واعية لمفهوم النقد الفكري، او بصورة ادق بانها خالية من أي فكرة يمكن الاخذ بها او الاعتماد عليها.

ينقل المنصف المرزوقي عن الشيخ راشد الغنوشي ما فحواه " في الجزء الأول (ص 37) يكتب الشيخ "وبذلك كانت حجة الواقع أبلغ من كل جدل في الرد على دعاوى العلمانيين ومساعيهم في علمنة الإسلام وتفريغه من جوهر رسالته" ويواصل نفس الفكرة (ص 38) "هذا دون الغض من قيمة الجهود الكبرى التي يبذلها علماء الإسلام ومفكروه في التصدي لتيار العلمانية ودحضه بحجة المنطق".

ثم يقول المنصف المرزوقي معلقا " لا أريد العودة لنقاش المفهوم (انظر على الجزيرة نت: "العلمانية مفهوم للترك أو للتبني") أذكر فقط أنه يعني في منظوري حماية الدولة من المستبدين باسم الدين (أفغانستان طالبان) وحماية الدين من المستبدين باسم الدولة (تونس بن علي)... أنه لا علاقة له بالإلحاد... إنه من الأحسن تفاديا للخلط أن نتحدث عن الفكر المدني.

هنا يقع المرزوقي في خلط يودي بمحاولته نقاش الفكرة المطروحة بكتاب الغنوشي، فهو حين يقول: " ان العلمانية بمنظوره تعني كذا وكذا، يقرر مصرع النهج العلمي للفكرة، ليزج بها عن طريق المخادعة والتزييف بين هلالين لم يكونا موجدان ضمن فكرة الشيخ الغنوشي، وبهذا يكون قد الغى الفكرة المطروحة بالكتاب للشيخ واوجد لذاته فكرة خاصة به لا علاقة لها بالحقيقة الاستقرائية التي كان عليه التعامل معها.

وبهذا كانت الفكرة التي من منظوره هي التي خضعت للمناقشة والتحليل، ليرتقي بها كحجة ضد فكرة الغنوشي التي تم الغائها من طرفه حتى لا يضطر الى الوقوع في فخ الاعتراف بمنهجية تحكم طريقة التعامل مع الفكرة الاساسية.

وهذا امر يدل على الانتقائية التي مارسها المنصف المرزوقي كي يبعد نفسه عن المواجهة مع الفكرة الاصلية بالكتاب.

ان الناقد، لا يملك أي حق، من ناحية الامانة العلمية، ومن نهج الاستدلال ان يلغي النقاش في الفكرة الاصلية ليناقش قضية من بنات افكاره او من خيال منتزع من طريقة اقل ما يقال فيها انها مخادعة بصورة لا يمكن ان ترتقي الى فكرة النقد او محاولة النقد.

ما يثبت ما ذهبنا اليه، انه يعود في الفقرة التالية ليؤكد انه ينتمي الى المجموعة الفكرية العلمانية، وهو بهذا ينفصل مرة اخرى عن قدرته التحليلية في التعامل مع الفكرة، لان المجموعة الفكرية التي ينتمي اليها لم تحدد مفهوم العلمانية بالطريقة التي قال بها من منظوره الشخصي، وهنا يبرز تناقض واضح، فهو حين يريد توصيف الفكرة التي نقدها الشيخ، يتنصل من مواجهة الفكرة المطروحة والتي يجب ان تكون هي محور النقاش، ليدعي نقاش فكرة مغايرة للمطروح، وكأني به يمسك الجُمَلْ من ذقنها ليضعها عنوة وقسرا في المكان الذي يريد، ثم يعود ليترك منظورة محتميا بفكرة المجوعة التي كتب عنها الغنوشي، وهذا عين المداورة والالتفاف والخداع حين تكون الحجة قاصرة، او يكون الكاتب اكثر قصورا من ادراك ما يكتب عنه.

فالعلمانية وفق المجموعة التي ينتمي اليها المنصف المرزوقي، هي العلمانية التي قصدها الشيخ الغنوشي، وهي التي تبرأ منها المنصف حين وضع منظوره الشخصي، وهي ذاتها التي عاد ليدافع عنها ويلغي منظوره الشخصي حين حدد انتماءه اليها.

ثم ان هناك امرا مهما كان على المنصف المرزوقي ان يدركه، وبتواضع، انه ليس هو من وضع تعريف العملمانية ودلالاتها في المجتمعات، بل هي نتاج ظروف تاريخية ومجتمعية ادت الى ظهورها، وهو ظهور وجد واخذ مداه في الترسخ والثبات، والمنصف المرزوقي لم يصل الى مرحلة من التأثير العالمي في الحياة التاريخية والمجتمعية ليصل الى حد الادعاء وتقرير معنى جديدا للعلمانية وفق منظوره الشخصي.

لأي عاقل او منصف للحقائق، واقصد هنا الحقائق التي خلط المرزوقي فيها بين الفكرة الاصلية للعلمانية، والتي كتب الشيخ الغنوشي عنها، وبين تحديد العلمانية بمنظور شخصي من ناقد يحاول تغيير فهم القارئ عن الفكرة الشخصية من اجل توزيعه بين فكرة ذاتية لا اصل لها في موضوع الكتاب او النقد، ولا صلة لها بالمفهوم العالمي المتفق عليه عالميا، وبين المنظور الشخصي الذي زجه المرزوقي قسرا وخداعا وربما ايضا غرورا، فان العاقل او حتى القارئ العادي يتلمس تماما خواء النقد وشلله وكساحه من النظرة الاولى، وهذا ما يمنحنا حق القول بان الناقد الذي يأتي ليناقش فكرة غير مطروحة بموضوع النقد، فهو كمن يرقم على ماء او يرسم على هواء.

وفي نقطة الخلاف الثانية، يبدو المنصف بصورة من يقدم مجموعة من الافكار المتداخلة بفعل ظروف العصر، ويربطها بالتداخلات التاريخية التي حصلت في العالم الاسلامي وانتجت مجموعة من الرؤى، التي شكلت بدورها شرخا في البنية التاريخية للمجتمع الاسلامي، وليس في الرسالة الاسلامية او البناء العقدي والفكري لمفهوم الدين من حيث كونه رسالة اممية تتضمن مجموعة متكاملة من الدعائم والاسس التي يبنى عليها المجتمع وفق رؤى العقيدة والتعاليم المنبثقة عنها.

يقول المنصف: " ثمة أيضا دور العوامل الخارجية، أي تأثير المجتمعات بعضها على بعض، إذ هي لا تنفك تتبادل الجينات والمعلومات والقيم، إن سلما وإن حربا. هذه التعددية هي التي أعطتنا في الماضي السنة والشيعة وداخل كل مذهب المدارس الفقهية المتنافسة. هي التي تفجر اليوم المنظومة الإسلامية إلى إسلام دعوي وإسلام سياسي، وهذا الأخير إلى إسلام سياسي معتدل وآخر متشدد، وداخل المتشدد إلى سلفية دعوية وسلفية جهادية، والكل يشكك بفهم الآخر للإسلام أو حتى يكفره".

من هذا الطرح البسيط الى حد السذاجة في قراءة التاريخ وحشره في فقرة صغيرة تدل طريقة صياغتها على ممارسة الاقناع التي يحاول الكاتب فرضها بشكل كامل على القارئ من خلال مجموعة من الجمل الغير مترابطة، والتي لا تقدم دليلا واضحا بينا على ما قال، فانه ايضا يقع في مطب القصور في فهم الفرق بين الرسالة الاسلامية، كرسالة قادرة على تقديم الحلول للمجتمع الاسلامي، وبين الاحداث التاريخية التي نتجت عن تكون مجموعة مناهضة للرؤية الاسلامية منذ بدايات الرسالة، ولتبيان القصور الهائل الذي وقع فيه، جملة ان التعددية هي التي اعطتنا السنة والشيعة، ونقض ذلك لا يحتاج الى حجة عميقة او قساوة في استخراج الشواهد والدلالات، فكلمة السنة تحديدا، لا تعني مذهبا داخل العقيدة الاسلامية، وانما هي ثابت من ثوابت تلك العقيدة، ويمكن ملاحظة ذلك والاستدلال علية من الآيات القرآنية الكريمة، والاحاديث النبوية الشريفة، التي اعطت المسلم منهاج اتباع التعاليم الواردة في القرآن وما ورد في الحديث، أي الدين برمته، ولم يكن في تلك الحقبة التي عاشها الرسول مصطلح اهل السنة بما يحمل المصطلح من وجود مقابل ومغاير له في تلك الفترة.

لكن حين تكونت مجموعة من المجتمع بفعل ظروف كيديه وخارجية من اجل الوصول الى قلب العقيدة ومحاولة طمس العديد من قواعدها، ونادت تلك المجموعة بتشيعها الى علي بن ابي طالب رضي الله عنه وارضاه، اصبحت تعرف بالمجوعة الشيعية، وهم من نظر الى المسلم نظرة فيها تحزب واختلاف، ومن عمق رؤية المجموعة المتكونة خرج لفظ اهل السنة ليكون تعريفا للمسلم الذي لا يعترف بما ادخلت تلك المجموعة من اشياء لم تكن ضمن قواعد الايمان والدين والعقيدة.

هناك حادثة طريفة تبين ما ذهبنا اليه تنسب الى احمد ديدات، ولا اعرف صحة النسب هذه، لكنها سواء كانت تنسب اليه او لغيره فإنها تؤدي المفهوم الذي اود تثبيته.

دعي احد علماء المسلمين الى ايران من اجل مناقشة لبحث الاختلاف بين السنة والشيعة، وحين وصل العالم الى المكان خلع حذاءه ووضعه تحت ابطه وهم للدخول به، فسأله احدهم: لماذا تحمل الحذاء معك؟ فأجاب: انه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان المسلم يحمل حذاءه معه حتى لا يتصرف به الشيعة. فأجاب الاخر: لكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك شيعة. فتراجع العالم وقال انه لا حاجة اذن للنقاش، لنعد على ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وينتهي الخلاف.

ما اقصده هنا ان التسميات لم تخرج من ثوب الاسلام، بل خرجت من التشكيلات السياسية التي برزت لتفعل بالإسلام ما فعلت السياسة الاوروبية في الدين المسيحي.

وكذلك التسميات الاخرى، كالوهابي، ومحاولة اثبات ان هناك تيار او مذهب اسلامي يدعى بالمذهب الوهابي، وهذا خلط قاتل للفكر او الدراسات النقدية، فالوهابي كما يوصف فيه المسلم الان، هو لفظ اتى من المجموعة ذاتها التي ذكرناها، من اجل وصم فكر الشيخ محمد عبد الوهاب بوصمات تتوافق مع نهجهم، لا لشيء، سوى ان الشيخ محمد عبد الوهاب رضي الله عنه قد وضع حدا اعلن فيه ان التوسل بالقبور والشخصيات مهما كان عظمها في التاريخ، انما هو محض افتراء على القرآن والسنة، وان كان هناك من يتنطع بقول غير هذا، فعليه العودة الى كتابات الشيخ ليعرف ان كتاب التوحيد الذي كتبه، كان من افضل الكتب التي كتبت في العقيدة الاسلامية. وانا ادعي بقوة الحجة التي تتمتع بها كتب الشيخ بانه ليس هناك مسلم واحد يؤمن بالقرآن العظيم وسيرة الرسول الكريم بشكل فطري ومتوافق مع معطيات الرسالة، يدعي بان هذه التسمية خارجة من الاسلام او ممن يؤمنون بالتعاليم الواردة في السنة والكتاب. وكذلك السلفية، فهي ليست حركة دينية حزبية داخل التاريخ او الدين الاسلامي، بل هي امتداد للسلف الصالح الذي مكن الرسالة وحملها وضحى من اجلها، لكنها كتسمية لا تملك التغيير في قواعد العقيدة وما هو ثابت في القرآن والسنة.

المنصف المرزوقي، كان بحاجة الى فهم الاصول بقوة الحدث التاريخي، لكنه كغيره، لم يكن معنيا بتقديم حقيقة او حتى تجشم قراءة التاريخ بشكل جيد من اجل ان يقدم لنفسه اولا خدمة عدم الوقوع بجهل لا يقع فيه الا من لا يود فهم التاريخ، او عناء البحث والتفكير. والمثل الحي على ذلك الائمة الاربعة رضوان الله عليهم، فهم شكلوا مذاهب فقهية تم الاختلاف فيها والتوافق، لكنها في النهاية مذاهب فقهية لم تتطرق الى العقائد والثوابت في القرآن والسنة، لكن الشيعة، لم تكن مذهبا فقهيا، وانما حركة سياسية تدخلت في الثوابت التي ارساها القرآن الكريم والسنة النبوية، وهي ثوابت منع المسلم من الاقتراب اليها او التعديل فيها. وهذا ما يدفعنا الى الظن بان المنصف لم يعرف الفرق اللغوي والدلالي بين كلمة مذهب، بما تحمل الكلمة من فحوى متسع، وبين الحركة السياسية التي تختلف اختلافا عن شكل المذهب الديني وتكوينه.

وما يثير اكثر، ويجعلني افكر الف مرة، ادعاء المنصف المرزوقي بان الغرب منذ تأسيسه العلمانية كفكر يملك من الارث الديني الكثير، وما يثير اكثر انتقاله لاستلال الوجود الديني من معمار الكنائس والكاتدرائيات، ومن موسيقى بيتهوفن وغيرة.

اليس من الغريب ان يتوقف المنصف عند الفن المعماري دون ان يتوقف عن تبيان السلوك الاجتماعي الذي رافق فترات تلك البنايات، وتجاوزا اود فقط ان اقول: بان الحضارات لا ينظر لها من خلال ما قدمت من بنايات وصروح، وان كانت تلك البنايات والصروح تستحق التقدير والاحترام كفن من فنون العمارة العالمية، لكن التاريخ الذي يغلف المجتمعات تلك، هو الفيصل بيني وبينه، المجتمعات الغربية برمتها ودون ادنى استثناء، التي رفضت الحكم الديني المتطرف هناك، لم تنتقل الى حكم اسمى وانقى واصفى من الحكم الذي انقلبت عليه.

لنأخذ المجتمعات الغربية التي اتخذت من العلمانية والديمقراطية مثلا ونبراسا ودليلا، ففرنسا قتلت وسفكت ودمرت في افريقيا والوطن الاسلامي ما لا يعد ولا يحصى من التدمير والخراب، وكذلك ايطاليا، اما المانيا، فإنها لم تدخر وسعا بتعريف الاسود على انه اقل من انسان، وان استعباده خير له من البقاء خارج العبودية، وفرنسا ايدت الفكرة وتبنتها، استراليا، قامت بإبادة السكان الاصليين، وعاملتهم معاملة الشياه والكلاب والحيوانات، وكذلك كندا، اما الاسبان فانهم لم يدخروا وسعا من تدمير حضارات الشعوب الغارقة بالقدم في امريكا الجنوبية، بل وقتلت من تلك الشعوب فوق ما يمكن التصور او التخيل، بريطانيا، لم تترك مكانا تقريبا على الكرة الارضية لم تمارس فيه الذبح والسلخ والقتل والتدمير والابادة والاقصاء، امريكا، الدولة الحديثة التي قتلت وابادت واقتلعت من الجذور الهنود الحمر، وافردت لذلك القتل والدمار في مخزونها التاريخي ملاحم من بطولات مسجلة. ثم حركة العبيد التي اقترنت اقترانا كاملا بعهود الحرية والانصاف والديمقراطية والعلمانية التي مارستها دول اوروبا وامريكا كلها وبدون استثناء، حتى وصل الامر الى اقتلاع مجموعة من الاجيال المتعاقبة من افريقيا ليكونوا متساويين مع الحمير والكلاب في ظل العبودية، ان لم تكن مرتبة الكلاب والحمير افضل منهم، نحن نتحدث عن شعوب كاملة تم اختطافها من ارضها، من تاريخها، من عاداتها وتقاليدها، من توادها الاجتماعي والعاطفي والاسري، من كل ما يمت للإنسانية بصلة.

ما حدث سابقا ما زال يحدث وان اختلفت الصور وتفرعت الاساليب، فلسطين، العراق، افغانستان، صور حاضرة في الذهن، كما كانت صور فيتنام وكوريا واليابان، وكما حدث مع الفكر الشيوعي الذي استأصل الدين وبيوت العبادة وقتل كل من فكر ان يحمل مصحفا او يصلي فرضا لله جل شأنه، وكذلك الصين التي منعت المسلمين تحت سطوة السلاح والقتل والتدمير من التسلل فكريا لقراءة سورة قرآن او نطق شهادة او الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

وحتى في ظل العلمانية التي انتجت اتباع لها في الوطن الاسلامي، مثل المنصف الذي يريد منا ان ننظر للتاريخ من كوة يرى منها هو ما يريد وليس ما يدرك، الم تقم فرنسا بمنع الحجاب؟ الم تقم سويسرا بمنع بناء المآذن؟ الم يتهم المسلم بالتخلف والرجعية؟ الم يعرف على انه اس الارهاب وصانعه؟ الم تحرق المصاحف في كل مكان تواجدت فيه العلمانية والديمقراطية؟ الم تهان المصاحف في اكثر الدول الموصوفة بحرية الرأي والعبادة؟ الم يساء الى رسولنا الكريم من قبل اناس تبنت الحكومات مواقفهم ودعمتهم وحمتهم باسم الديمقراطية وحرية الرأي؟

لو اردت الاسترسال في طرح الامثلة المعاصرة، لملأت صفحات وصفحات، لكن اليس هذه هي الحقائق التي كان اولى ان ينظر اليها المنصف بدل ان ينظر الى موسيقى بيتهوفن والبنايات؟ ان قيمة أي فكرة، او أي مبدأ، تنبت من قيمة الانسان واعتقاده، من قدرته على توطيد فكرة العدالة التي تتوافق وتتعانق مع قيمة الانسان ووجوده وهدفه.

الاسلام ادرك ذلك، لذا، فلم يكن هناك متسع من الوقت للنظر في المجتمعات وما هي عليه بصورة تتناقض مع قيمة الانسان، فمنعت العبودية، وحررت المرأة من كونها متاع ورُفعت الى مرتبة لا تستطيع حضارة اخرى عبر التاريخ ان تدعي انها منحت المرأة ما منحها اياه الاسلام، ألغي الوأد، وسُحبت هالات القدسية السيادية من ايدي سادة الصحراء، وانزلوا الى مستوى من كانوا عبيدا عندهم، وتساوى الكل امام ارادة الله، وبقي السباق سباق التقوى الذي يقود الى العدل والرحمة.

اما الدولة الاسلامية التي يتساءل المنصف عنها، فإنها دولة الاسلام التي قامت بالمدينة المنورة، تحت سيادة العقيدة دون ان تتدخل في اعتقادات الناس الذين لم يؤمنوا بالإسلام، ومنحتهم حق العبادة المظللة بحماية الدولة التي يقيمون فيها، وهي ذات الدولة التي قامت بمكة بعد فتحها دون ان تسيل دماء وتستباح اعراض او تقتحم بيوت، وهي ذات الدولة التي كانت في عصر الخلفاء، والتي تحققت فيها عدالة التشريع وحرية العبادات وحقوق المواطنين، وهي ذات الدولة التي توج الامويين فتوحاتهم بالعدل والرحمة، وهي ذات الدولة التي خاض المعتصم فيها حربا من اجل امرأة مسلمة، وهي ذات الدولة التي بنت الحضارة في الاندلس، واكرمت العلماء دون النظر لدينهم او مذهبهم، وهي ذات الدولة التي اعلنت الحداد ثلاثة ايام يوم وفاة العالم اليهودي ابن ميمون.

اما التساؤل عن الدول المعاصرة التي تتسمى بمسمى الاسلام، ومحاسبة الدين من خلال اداء زعمائها، فانه تساؤل ينقصه الاساس الاول من المعرفة والادراك لطبيعة الدولة الاسلامية كوجود واقعي مجتمعي يحكم باسم الدين ووفق منهجياته. لان الدين والواقع الاسلامي لا يتمثل بعظيم او قائد فذ او تاريخ من العظماء والقواد، بل ان كل ما سبق هو من يتمثل الدين والواقع الاسلامي.

فقط للتذكير، بان اندنونسيا وغيرها من الدول الاسلامية، والتواجد الاسلامي في الغرب والشرق والشمال والجنوب، هؤلاء كلهم اعتنقوا الاسلام بعيدا عن الفتوحات والحروب، وكان الاعتناق ايمانا بما قدمه المسلم من خلق ومن صدق في التعامل مع المجتمعات الاخرى التي كانت قائمة.

وللتذكير فقط، فان العلمانية والديمقراطية الحديثة، هي التي اسست ايضا الى انهيار الانسان كقيمة حقيقية لمجموع العلوم والتطورات، فهي التي اباحت الاباحية بكل ما يرافقها من قلق واضطراب وتشويه لكرامة الانسان، اوروبا وامريكا، هم من وطدوا العلاقات الجنسية المحرمة حتى في الانجيل، وهم من وصلوا بالمرأة والرجل ضمن هذه الحرية الى مرتبة لا يمكن للحيوان النزول اليها، فصناعة الجنس التي تروج الان عبر شاشات الرائي ودار الخيال والشبكة العنكبوتية، والتي تتمثل بانحطاط لم يتحصل مثله في المجتمعات البدائية، هي التي الغت قيمة الانسان وخلعت كرامته ومحقت حياءه، اضف الى ذلك الزواج المثلي، أي اللواط والسحاق، الذي افردت له جمعيات واقيمت له اندية، ووقع تحت حماية الانظمة والقانون كحق من حقوق الشعوب في ممارسة الانحطاط بالطريقة التي ترأتيها وتختارها دون البحث عن قيمة الانسان وما يتوافق مع فطرته.

المنصف المرزوقي، لم يكلف نفسه عناء البحث في التاريخ او حتى عناء تحديد الفهم للمصطلح الذي ينتمي اليه، ووضع نفسه كشاهد وكمقرر وصانع ومحلل ومعرف لذاك المصطلح، وقام بفرض رؤيته " الضعيفة الى حد عدم الابصار" على اللفظ ومعناه الحقيقي، وكأنه يحدد ليس للقارئ فقط معنى المصطلح، بل وكأنه يحدد المعنى بتبني الماضي والحاضر والمستقبل كله من خلال فهمه، مع العلم وانا هنا لا اقصد الاساءة لشخص المنصف، بانه لا يملك حتى القدرة على تعريف المصطلح اثناء العملية النقدية تعريفا صحيحا.

وفي النهاية، فإنني اود ان انهي الرد هذا بالاستغراب والاستهجان والذهول من عدم اللباقة واللياقة والحشمة والحياء التي استخدمها المنصف بطريقة تثير اللوعة والاشمئزاز والتقزز حين قال: "الأفكار تبلى أو تتسخ ومن ثمة غيرها كما تغير ثيابك الداخلية"، لماذا اختار الكاتب هذا التشبيه؟ الم يكن بإمكانه اللجوء الى لغة راقية سامية تبعده عن الاقتراب من الملابس الداخلية كمثل؟

               

*فلسطين- مخيم طول كرم