حركة رجل الدين الألماني مارتن لوثر

حركة رجل الدين الألماني مارتن لوثر

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

هذا البحث   مستل من كتاب الاستهلال والاستكمال

دراسة في الفكر السياسي المقارن

الرفديني / الإغريقي

العربي ـ الإسلامي / المسيحي ـ الليبرالي

والر اغبين في الاستزادة الاتصال بمؤلف الكتاب

[email protected]

*******************************

تأتي دراستنا لحركة القس الألماني مارتن لوثر في إطار تحليل العناصر الأساسية التي مهدت لبزوغ عصر جديد في أوربا مما سيكون لها آثارها الخطيرة على صعيد الفكر، بتصاعد مد تيار تحرري عام سيفضي إلى ليبرالية تشيع في الحياة الفكرية/ الثقافية، والسياسية/الاجتماعية، ثم إلى عصر التنوير الذي سيتوج نهائياً بالعلمانية(انفصال الدين عن الدولة) وعلى الصعيد المادي ستكون الثورة الفرنسية أولى المنجزات وفاتحة لمرحلة جديدة، وكذلك الثورة الصناعية التي ستكرس دور البورجوازية ودورها على كافة الأصعدة وستبرز الطبقة العاملة في المجتمعات الصناعية في عملية تبلور اجتماعية تفرز ظواهر وآثار مهمة تتعدى القارة الأوربية إلى أرجاء المعمورة. ولكن كل ذلك لم يكن ليحدث بتقديرنا إلا بتظافر جهود وقوى، أو عوامل ثلاثة سنعرضها باقتضاب لتحقيق الفائدة:

1. التحولات الاجتماعية على ما اشتملت من حركات وانتفاضات وثورات وتبلورات اجتماعية / اقتصادية.

2. تيار وحركات الإصلاح الديني داخل الكنيسة.

3. أعمال المفكرين والفلاسفة الإنسانيين والأدباء والفنانين والعلماء.

وكانت حركة الإصلاح الديني(اللوثرية خاصة) قد فاقت في نتائجها ما هو متوقع، إذ أطلقت مجموعة واسعة من التفاعلات من بينها الأفكار السياسية، وأهمها أفكار لوثر وكالفن التي اعتمدت ثلاثة أسس هي:

آ . تبسيط العقيدة المسيحية مع التشديد على نظرية الخلاص ووسائلها.

ب. التشديد الفردي على الخلاص، واعتبار الدين أمراً شخصياً داخلياً عميقاً.

ج. ما يترتب على الأمرين آ و ب من إهمال لنظام الطقوس الدينية الذي عرفته الكنيسة في العصور الوسطى وما رافقه من تسلسل في مراتب الكهنة، وإلغاء أو تقليص لدورهم في التوسط بين الفرد والكنيسة والله.

لقد عرضنا أن حركة الإصلاح اللوثرية هي محاولة ملائمة أو تكيف Adaptation مع التحولات التي سادت الفكر والثقافة والعلوم، ولم تمس جوهر المسيحية. وبرأي الأستاذ الطعان " أن حركة الإصلاح الديني بمضمونها تعبر عن التوفيقية، بين متطلبات عصر النهضة ومتطلبات العالم القديم".(1)

ولا نختلف كثيراً مع رأي الأستاذ الطعان، إلا إننا نعتبر حركة الإصلاح الديني سهم أفلت من رماته فتجاوز ربما المدى، بحكم أملاءات التوليفة الاجتماعية/ الاقتصادية / الثقافية، نعم أنها أساساً حركة اضطرت إلى مجاراة عصر النهضة والذي تمثل قبل كل شيء بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وبروز متصاعد للبورجوازية في حين مثلت الكنيسة عائقاً حقيقياً أمام التقدم الاقتصادي بعد أن مثلت لقرون خلت العائق أمام التقدم الفكري / الثقافي. ولكن الآفاق التي مضت صوبها مسيرة التحرر لم تكن تعرف الحدود.

لن نتمكن من فهم حركات الإصلاح الديني، وأبرزها الحركة اللوثرية فهماً دقيقاً ما لم نتبين بدقة العوامل الجوهرية، الظاهرة منها والكامنة والتي تراكمت عبر قرون وتفاعل الأزمة خارجياً بين الكنيسة والأطراف كافة. والتناقضات التي سادت علاقاتها مع محيطها بدرجات متفاوتة. فتناقض الكنيسة مع الملك والسلطة المدنية كان اشد من تناقضها مع الإقطاع مثلاً الذي أتسم بكونه تناقض ثانوي لا ينطوي على مخاطر الانفجار، ولكن تناقض الكنيسة مع الفقراء والكادحين، كان تناقضاً رئيسياً، ولطالما تفجر هذا التناقض على شكل ثورات فلاحية وتمرد في الريف وتمثلت الأسباب غالباً بالامتناع عن دفع الضرائب والإتاوات لرجال الكنيسة أو العمل بالسخرة في مزارع الكنيسة وأطيانها، أو الضرائب المرتفعة التي كانت تجبى للدولة برعاية الكنيسة ومباركتها، وما شابه ذلك من الفعاليات التي كانت تنطوي على التعسف. لكن الكنيسة ومن ورائها السلطة وقواها النظامية المسلحة والإقطاع، كانت قادرة على التصدي وسحق هذه الثورات بسهولة ويسر نسبياً.

ولكن ومنذ القرن الرابع عشر والخامس عشر طرأ على الموقف الاقتصادي / الاجتماعي تحول مهم، إذ بدأت أولى أجنة الإنتاج الرأسمالي بالظهور في المدن الإيطالية، إذ بلغ مستوى تطور القوى المنتجة حداً جعل من الممكن نشوء علاقات رأسمالية في أحشاء الاقتصاد الإقطاعي على صعيد المجتمع بأسره. وكانت هذه بداية لتشكل البورجوازية كطبقة مالكة لوسائل وأدوات الإنتاج، ونتيجة لذلك بدأت تنشأ القيمة الزائدة التي يملكها الرأسمالي وهو القانون الأساسي للرأسمالية.(2)

وسوف تلعب هذه التحولات الاقتصادية / الاجتماعية دوراً تاريخياً بالغ الأهمية، تمنح التحولات على كافة الأصعدة الثقافية والسياسية أهمية بما يمثل انعطافة مهمة بحيث يمكن اعتبارها أحد أبرز ملامح عصر النهضة ذو التأثيرات الشاملة على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في أوربا والعالم بأسره.

ومن ابرز معطيات هذه النهضة أنشاء الفرن العالي(في مجال الصناعة) في القرن الخامس عشر، مما مكن من أنتاج الفولاذ، ومن ثم أمكن بناء سفن أكثر إتقانا تصلح لشحن حمولات كبيرة لمسافات بعيدة، كما اخترعت الطباعة وبها أمكن انتشار وتبادل الأفكار بسهولة ويسر واتسعت عملية التعليم، وتطورت الزراعة على أساس من إتقان صناعة أدوات العمل، فازدادت المساحات المزروعة وزيادة أنتاج المحاصيل الزراعية، وتحسنت أنظمة الزراعة بصفة عامة، وأدى عزل الصناعة عن الزراعة إلى بروز اتجاهات جديدة في الإنتاج الزراعي، كما أن تطور التجارة أكثر مما كان عليه الحال في القرن الماضي، ساعد على تفسخ الإنتاج الصغير ونشوء العلاقات الرأسمالية.

أما ملامح عصر النهضة ثقافياً، فقد " أيقظ الإنتاج الرأسمالي الناشئ اهتمام بدراسة الظواهر الطبيعية وهذا ما يفسر تعاظم نهوض التكنيك والعلوم الطبيعية الذي كان قد بدأ في القرن الخامس عشر. وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر، حدث انعطاف جذري في تطور العلوم الطبيعية، فخلافاً لعقائد الدين بدأت دراسة الطبيعة استناداً إلى التجربة وأحرزت نجاحات باهرة بالنسبة لذلك الوقت في ميدان معرفة قوانينها، وتمت الاكتشافات العلمية في جو من النضال العنيد ضد النظرة الإقطاعية/ الكاثوليكية القديمة على العالم وتطرقت إلى جميع وجوه حياة الإنسان الروحية إلى العلم والأدب والفنون، وكان ذلك انقلابا تقدمياً بالغ العظمة، فأخذ ممثلوا ثقافة النهضة يرمزون إلى جوهر الظواهر الأيديولوجية الجديدة باصطلاح الإنسانية، فقد أزداد التأكيد على الطابع الدنيوي للثقافة الجديدة وتحررها من التبعية الاقتصادية والدينية كما ابرز الإنسانيين قيمة الشخصية إنسانية في تمجيد شخصية الفرد، ووضع النجاح الشخصي فوق أي اعتبار، فأنها كانت قيم بورجوازية للعمل والنجاح".(3)

تلكم هي المقدمات الحقيقية والجوهرية النهضة، وكانت حركة الإصلاح الديني اللوثرية أحد ملامحها البارزة. فقد بدا أن التحولات الثقافية الجديدة بدأت تتغلغل في قناعات الناس، والحقائق العلمية كانت ساطعة يبهر نورها حتى أعماق الظلمة، وكان الناس والعلماء والمفكرون والفلاسفة، مجبرون على التعامل مع الحقائق العلمية الجديدة. ونبلاء الإقطاع بدا عليهم مرغمين لا مخيرين بقبول المنافس الجديد الذي ظهر في المدن على هيئة مانفكتورات (ورش صناعات يدوية)ومعامل صغيرة وحرفيين، بدأ أنتاجهم يتسع، وتجار بدأت تجارتهم تمخر بواسطة السفن الحديثة التي وفرتها الصناعات الجديدة، كانت تمخر أعالي البحار تنقل سلع المصانع وتدر الأرباح الوفيرة، بدا على نبلاء الإقطاع أنهم مجبرون على التعامل مع هذه المعطيات المادية، فيما مضت البورجوازية تشق طريقها بقوة، تفرض نفسها في المجتمع كقوة اقتصادية أولاً، هيمنت أولاً على السوق المحلية، ثم على التجارة الخارجية، ثم بدأت تخلق قيم ثقافية ومعنوية جذابة وتخلق بالتالي قيماً سياسية.

الكنيسة فقط كانت لا تريد الإقرار بهذه الحقائق، وترفض نتائج التحولات، ومضت تحاول وبأساليب بالية الاستمرار بفرض هيمنتها على السلطة الدستورية والناس، وإن كان ذلك يبدو عسيراً ويواجه مشكلات جدية، فقد بلغ التناقض حداً يصعب احتوائه، فكان لا بد من توما أكويني جديد، يصلح ويعدل، ولكن الأمر كان بحاجة إلى أكثر مما فعله الأكويني، فلم تعد الأطروحات التوفيقية تفي بالحاجة، فالأمر كان يتطلب عملاً كبيراً(أصلاحياً كبيراً)، ووقفة جدية بوجه قيادة الكنيسة ومقرها القيادي(الفاتيكان والبابا) وإلى قائد من بين أوساط الكنيسة نفسها، وكان ذلك المصلح هو مارتن لوثر Matin Luther 1483 ـ 1546 الذي ولد في مدينة أيزليبن Eislleben بألمانيا وفيها توفي بعد 62 عاماً.

فقائد حركة الإصلاح ألماني، وتجمع مصادر التاريخ على تسميته بالمصلح Refomer وهي تسمية يستحقها فعلاً. ومن البديهي أن ذلك لم يكن مصادفة، فألمانيا المجزأة على إمارات لم تكن لتثير هماً للكنيسة الكاثوليكية وللبابا، فالبؤس الذي كان الفلاحون يعانون منه لم يكن ليمنع مندوبي البابا من جمع أموال الضرائب بنهم، وبذرائع شتى.

وقد تضمن خطاب لوثر الإصلاحي معاني سياسية إلى جانب المعاني الدينية، فقد كان خطابه موجه إلى " نبلاء الأمة الألمانية المسيحيين" وهي كلمة لم تكن قيد التداول بعد، فقد كانت ألمانيا تركيبة لرئاسات دينية وعلمانية. وفي عام 1512 فقط، أي قبل أن يعلن لوثر بيانه الأول بعنوان (فقط من خلال الكتاب المقدس) ضد البابا بخمسة سنوات أقام الدايت الألماني لمدينة كولون Kölen بتوسيع الأسم " الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية"، هكذا يشاء بعض كتاب التاريخ الألمان المعاصرين أن يعتبروا مارتن لوثر أحد أبطال الأمة القومية.(4)

ولكن هل كان مبتغى لوثر أن يكون بطلاً قومياً ؟ بالطبع أن هذا الافتراض مستبعد في المقام الأول، بل أن مؤرخاً ألمانيا معاصراً قد يبلغ به الحد اتهام لوثر بأحداث انشقاق في الكنيسة الألمانية، وبالتالي في ولاءات الناس ومنها السياسية ولكن " الانشقاق كان قد اسعد لوثر كثيراً، إذ كان مقتنعاً بأنه المدافع عن (الدين الحق)وكل ما خلا ذلك فهو ثانوي".(5) ونعتقد أن هذا التقييم اقرب إلى الصواب، فالشاغل الديني كان هاجس لوثر الأول، ولكن لا شك أن ذهنه كان يعج بقضايا أخرى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.

وكانت المسائل التي شكلت الاعتراضات الرئيسية لمارتن لوثر على سياسة الكنيسة الكاثوليكية وتوجهاتها الأيديولوجية قد ضمنها في بيانه الاحتجاجي الشهير ذو الخمسة وتسعون فقرة، التي نشرها في 31 / أكتوبر ـ تشرين الأول / 1517 التي علقها على باب كنيسة فيتنبيرغ       Wittenberg وتضمن الاحتجاج على صكوك الغفران، وهي عبارة عن مبالغ من المال لقاء صكوك، كان المركز القيادي الكاثوليكي (البابا) يبيعها للناس مقابل الوعد بالتوسط بإعفائهم من ذنوبهم عند الله، ثم رفضه لنظرية عصمة البابا وقوله أن البابا هو إنسان عادي يمكن أن يخطئ مثله مثل أي إنسان، وكذلك اعتباره الإنجيل المصدر الوحيد للتعاليم الدينية.

ولكن جوهر الاحتجاج على صكوك الغفران ( وفي كلمة احتجاجProtest، أطلق عليهم كلمة البروتستانت أي المحتجين) الذي كان يثير سخط الناس لا سيما الفقراء, فالكنيسة الكاثوليكية كانت أكبر مالك للأرض في ألمانيا، وبواسطتها كانت تتدفق مبالغ طائلة إلى خزانة البابا عن طريق أشخاص(وكلاء لبابا) جمعوا في أنفسهم بين الإقطاعيين وخدام الكنيسة عن طريق ما أطلق عليه بصكوك الغفران.(6)

والأمر لم يكن يتعدى خداع عقول بسطاء الناس واستغلال عواطفهم الدينية الساذجة، وكذلك فرض هذه الإتاوات على الناس بالإرهاب عن طريق وكلاء يجدون في الإقطاعيين عوناً لهم على الفلاحين.

كانت أساس حركة لوثر حتى قبل إعلانه لبيانه عام 1517، كما جاء في تصريحه " إن كلام الله ملك الجميع ويمكن فهمه" و(7) وهو بذلك يريد أن يجرد المقر البابوي من حق التسلط بواسطة كلام الله(الإنجيل) على المسيحيين في كل مكان دون تخويل من أحد.

وأطروحة لوثر هذه، كانت تلغي أو تضعف إلى حد بعيد المكانة الفائقة التقديس للفاتيكان وللبابا، كما تسدد ضربة خطيرة لهيبة البابا ونفوذه الديني والسياسي، فطالما كانت الكنيسة تعرض وتقدم نفسها كقائد لا شك في شرعيته للفعاليات الدينية، بل وحتى الدنيوية إذا ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وإذا بلوثر والمذهب اللوثري الإيفانجيلي، أو البروتستانتي، كما كان يطلق عليهم،  بقوله " أن الإنسان يتصل بالله اتصالا مباشراً وأن اللاهوت لا داعي له ".(8)

وكانت هذه الآراء حتى في بداياتها، تمثل خطراً مستقبليا محدقاً بنفوذ الكنيسة، فهو لا يسلبها نفوذها السياسي فحسب، بل والديني أيضاً.

وفي إلقاء الضوء على سيرة وشخصية مارتن لوثر، تساعد في إيضاح صورة حركة الإصلاح الديني :

ولد مارتن لوثر في آيزليبن Eislleben، وهي بلدة صغيرة تابعة لمحافظة هالة بشرق ألمانيا ودرس في جامعة أيرفورت، ثم حصل على وظيفة مدرس في جامعة فيتمبرغ، وأصبح مؤثراً على صعيد اللاهوت والإنسانيات، حتى توصل إلى فكرة صاغها بعد تأمل:  " لا ينال المرء الرحمة والإيمان إلا من خلال الإنجيل فقط ". وفي عام 1517 نشر بيانه الشهير، وسافر عام 1518 إلى هايدلبيرج وفي عام 1519 إلى لايبزج حيث خاض مناقشات ومناظرات حامية.(9)

وكان لوثر قد زار روما عام 1510، فأطلع عن كثب عما يدور في المقر البابوي، وكان ذلك مؤثراً في وعيه. وقد وصفه معاصروه " رجلاً يتحلى بروح المرح، عميق التفكير، ذو سلوك فلاحي خشن، نزيه على الدوام ومحترم. غير مهتم بالحصول على المنفعة لشخصه، عنيد ومتناقض، يفتقر في الغالب إلى الاعتدال، لذلك فهو ليس بالماهر سياسياً كفاية" ويقول مؤرخ معاصر، هذه هي صفات اشهر رجل في تاريخ ألمانيا. (10) ويهمنا هنا التركيز على مهارة لوثر السياسية التي وصفت بأنها غير كافية، وسوف تعيننا هذه الملاحظة على فهم لوثر، السياسي اللاحق.

لا شك أن لوثر كان قد وضع في خططه أسلوب تحركه وحلفاؤه وكذلك خصومه المحتملين، فمن المؤكد أنه كان قد وضع الفلاحين والكادحين(وهو شخصياً أبن بيئة فلاحية وعائلة كادحة إذ كان والده عاملاً في مناجم الفحم)في قائمة مؤيديه وحلفاؤه الأوائل، فهؤلاء هم أهم الخاسرين في سياسة البابا، وليس فقط في مسألة صكوك الغفران، بل في عموم توجه البابا والكنيسة الاقتصادي والسياسي والثقافي. ووضع الملوك في المرتبة الثانية من مؤيديه بسبب تناقض مصالحهم في الهيمنة على السلطة الدينية بمنأى عن نفوذ ومساعي الكنيسة من جهة، وإضعاف سلطة الكنيسة ليتسنى للدولة أحكام السيطرة التامة على البلاد.

ولعل لوثر لم يكن يسعى إلى التناقض والصدام مع النبلاء وأمراء الإقطاع، فهو في صراعه مع الفاتيكان والبابا، وهو صراع كبير بحد ذاته، بصدد الحصول على حلفاء ومؤيدين وليس على خصوم وأعداء، فلربما كان يطمح أن يكسبهم أو بعضهم إلى جانبه في صراعه مع البابا والكنيسة الكاثوليكية.

ولم يكن رد فعل الكنيسة بسيطاً، إذ بادر البابا على الفور بإصدار مرسوم يدين فيه مارتن لوثر، ويفصله ويحرمه من رحمة الكنيسة(وهو ما يعادل تقريباً التفسيق أو التكفير في الإسلام)ويندد بتعاليمه، ولكن لوثر لم يتردد أو يظهر الخنوع، بل قام مع ثلة من زملائه ومؤيديه بإحراق المرسوم البابوي علناً  (11) لكي تستعر المواجهة أكثر فأكثر. وهكذا فإن لوثر لم يتصرف بما يثير الأمراء والحكام عليه، فهو لم يكن في وارد إثارة سخطهم أو غضبهم عليه، كما لم ينطوي برنامجه أو تصريحاته السياسية والاجتماعية على إثارة لريبة السلطات الزمنية، فقد كان حرمان البابا من الكنيسة قد وضعه في موقف حرج لا يحتاج فيه إلى مزيد من الأعداء.( 12)

ولربما كان برنامج لوثر يتضمن إصلاحا للشؤون الدنيوية، إن شئنا تبرير مواقفه اللاحقة، ولكنه وجد (من وجهة نظره) استحالة تحقيق ذلك من خلال قيادة السلطتين الدينية والدنيوية. وعن ذلك يكتب الأستاذ سباين " فقد بدا واضحاً لكل مصلح ديني، انه لا بد من الاستعانة بالملك وسلطته القهرية لحمل البابا ورجال الدين على الإذعان وتنفيذ الإصلاح. وكان هذا هو السبب الذي جعل لوثر يلقي بنفسه في أحضان أمراء الدنيا، وجعل الحق الإلهي للملوك جزء من الفلسفة اللوثرية".(13)

ولما كان اتخاذ القرارات هي من أصعب ما يواجه القادة من رجال السياسة، ولا بد من كثير من الحزم والصرامة والوضوح في اتخاذ القرارات، وهو ما كان يصعب على لوثر فعله. ولكنه ما لبث أن عانى من هذه الصعوبة بشدة مع أحداث ثورة فلاحية، فكان لا بد من اتخاذ القرار الصعب، ولم يكن الأمراء ليقبلوا منه اقل من الوقوف على جانبهم لقاء حمايتهم له من غضب وسخط البابا، وكان عليه أن يرد لهم التحية والجميل بأحسن منها، وذلك بالوقوف على جانبهم ضد ثورة الفلاحين.

كانت ثورة الفلاحين الألمان عارمة وكبيرة، ولكنها عزلاء وضعيفة ومعرضة الإبادة أمام جيوش الأمراء(وقد أبيدت فعلاً)، وهكذا تعين على لوثر اتخاذ القرار الصعب بالوقوف مع الأمراء والنبلاء ضد جماهير غفيرة أيدته في حركته، ولكنها ضعيفة لا تستطيع أن تقدم له ما يحتاجه وهو يتعدى التأييد العاطفي.

وأحداث الحرب الفلاحية التي أبرزت القائد توماس مونز زعيماً للثورة والفلاحين، والذي تصور أن بوسعه إقامة النظام الاجتماعي الذي تزول فيه الفروق الطبقية والملكية الخاصة والنفور بين أعضاء المجتمع وسلطة الدولة، ولكن وعي الجماهير التي كان يقودها لم تكن بمستوى هذه الأهداف، وقد تحولت الانتفاضة إلى ثورة وحرب فلاحين عام 1524، ولكن السلطة المدنية تمكنت من حشد قوى عسكرية تمكنت من إنزال الهزيمة بالكتائب الفلاحية في أيار ـ مايو / 1525.(14) 

وهكذا مثل موقف لوثر حيال ثورة الفلاحين الانتكاسة المعنوية الأولى، هذا إذا ما افترضنا أن لوثر كان مرغماً على اتخاذ موقفه هذا لدوافع سياسية. وفيما عدا موقفه هذا من حركة الفلاحين، نسجل موقفاً يبدو أنه قد درس بعناية، وهو أن لوثر أتخذ مواقفه على الدوام لصالح السلطات المدنية داعياً بصورة واضحة أو ضمنية إلى اكتفاء الكنيسة بالدعوة على القضايا الروحية، الدينية)، فقد لاحظ كاتب ومفكر مثل هنري دفي، أن الفلسفة السياسية مضت تتبلور في القرن السادس عشر بشكل متعارض تماماً مع المفهوم الكاثوليكي للدولة الذي كان يجعل من الدولة قوة مستقلة وليس مجرد واقع يخضع للكنيسة. وتمثل هذه التوجهات في اللوثرية التي قبلت أن تقوم الدولة بدور الرادع للعناصر (المسيئة)للمجتمع، وهذا يتضمن اعترافا ضمنياً بدور مؤسسات الدولة، مع أنه لم يتنازل عن دور الكنيسة(الديني) في المجتمع، ولكن ذلك كان يعني قبوله بنظرية انفراد الكنيسة وتسلطها على الحياة الدنيوية.(15)

وما لبث لوثر أن مضى في اتخاذ المزيد من المواقف والآراء التي لا تناوئ السلطات المدنية، وسيصبح ذلك نهجاً لوثرياً ثابتاً، ولم يكن ذلك مطلوباً من أجل إتاحة المجال أمام الفعاليات الأخرى في المجتمع لتأخذ دورها التاريخي وتقوم بأداء مهامها. فقد قال لوثر " إنما هو ليس بصواب بأي طريقة أن يناوئ المسيحي حكومته، إن كانت عادلة أو غير عادلة ".(16)

وفي الحقيقة، لم تكن السلطات المدنية تريد أكثر من ذلك، وكان بنفس الوقت المطلب الرئيسي للبورجوازية الناشئة أن تتحرر من قيود العصور الوسطى المتخلفة ضمن هيمنة الكنيسة ـ الإقطاع ـ الملوك، من اجل الانطلاق بفعالياتها تحت حماية الدولة القوية، بعناية الكنيسة ومباركتها، وكان ذلك يؤذن بميلاد تيار جديد في الحياة السياسية، سوف يشهد المزيد من التبلور خلال القرن المقبل هو التيار الليبرالي التحرري.

وقد كانت أفكار لوثر تؤدي إلى هذا المآل، إذ كان يرى أن السلطات المدنية ضرورية لتطبيق القوانين، وهو بذلك يختلف عن المفهوم الذي شاع في القرون الوسطى والذي قال به توما الأكويني، أن الدولة والإمبراطورية تأتي بالدرجة الثانية بعد السلطة الدينية، أما الدولة عند لوثر، فهي سلطة قهر، ويجب أن تكون قوية، والسيف يمثل أداة القهر وهي بيد الدول وليس الكنيسة. وإذا كان الأمير قاسياً فذلك ما يستحقه الشعب(فالناس لهم أمرائهم الذين يستحقونهم)وبذلك فإن لوثر طرح موضوعتين رئيسيتين :  

الأولى : الطابع المقدس للسلطة المدنية والخضوع غير المشروط لها.

الثانية : الفصل التدريجي بين الإيمان والقانون.

والحقيقة فإن هذه التوجهات اللوثرية كانت نتيجة : ـ

ـ الإساءة إلى السلطة الروحية لقرون طويلة من قبل الكنيسة نفسها بطغيانها.

ـ تراكم جهود علماء ومفكرين برهنوا استحالة أحداث تقدم في ظل هيمنة الكنيسة على سلاح ماض، وهو احتكارها تفسير مضامين الكتاب المقدس والمؤلفات الدينية القديمة كما يشاءون وبناء على أسس بعيدة كل البعد عن الروح الأصيلة للديانة المسيحية".(17)

وفي التأكيد على هذه الآراء، فإن هذه الاتجاهات التي برزت بقوة في الحركة اللوثرية، كانت قد طرحت من قبل مفكرين وفلاسفة بهذه القوة أو تلك من الوضوح، فنحن نعلم أن ميكافيلي مثلاً، كان قد أتخذ موقفاً قوياً من البابا والكنيسة لسببين :

ـ أن أسلوب الحياة غير الفاضلة التي كان يحياها كثير من القساوسة، قد زعزع ثقة الشعب بالدين وبرجال الكنيسة.

ـ كانت الاهتمامات البابوية السياسية عقبة بوجه الوحدة القومية الإيطالية، وكان لميكافيلي تأثيره في نظريات الفلاسفة السياسيين الليبراليين.(18)

 والحق، فإن الأفكار اللوثرية حول إشكالية الدولة ـ الكنيسة، كانت لصالح الدولة بشكل واضح، ترى هل كان مارتن لوثر هو اكويني من طراز جديد ..؟ أم أنه أراد وضع حلول حاسمة لإشكالية ما برحت تمثل التناقض الجاهز للانفجار في أي لحظة، ولطالما حدث هذا الانفجار المرتقب(ذكرنا ذلك في المبحث السابق) في نزاعات متفاوتة العنف بين الأمراء والكنيسة.

أما لوثر، فقد عبر بصراحة عن عدم أمكانية وجود كنيسة/ دولة، لأن مثل هذه الكنيسة سوف تتيح للدولة التدخل في الشؤون الدينية، أو تدخل الكنيسة في الشؤون الدنيوية اليومية، فهو كان يسعى لفصل الدولة عن الكنيسة، والكنيسة عن الدولة. ولكن مفهوم لوثر للدولة لم يكن واضحاً، نعم هو كان يقر بالسلطات، ولكن الدولة كانت مفهوماً غامضاً، ويقول لوثر " لا شك في سلطة الأمراء، في معاقبة المجرمين وجرائم الكفر"(لاحظ حتى الكفر)، ثم قال " إن السلطات ليس بمقدورها أن تعاقب الأفكار، ولكن بمقدورها أن تعاقب الإشهار به" ثم يؤكد " أن واجب السلطة الدنيوية هو الحيلولة دون وقوع انقسام أو انشقاق وتمرد بين الرعايا." (19)

ومثل هذه الأفكار أدت دون ريب إلى ارتياح الحكام والأمراء من حركة الإصلاح الديني وقائدها مارتن لوثر " فمنذ عام 1520 بدأ الحكام والأمراء الألمان يتخذون موقفاً، وأصبحت حركة الاحتجاج(ثورة سياسية) للألمان ضد سلطة البابا، وهنا أعلن لوثر، أن الإنجيل يمثل السلطة السياسية الوحيدة. لكن لوثر لم يكن مصلحاً ديمقراطياً، إذ أعلن وقوفه بصراحة ضد الفلاحين الذين تحدوا أسيادهم، وقد أدى فشل الثورة إلى إضعاف قوة الدفع للحركة الإصلاحية ذاتها.

بيد أن الأمر لا ينطوي على الأضرار دائماً، ولا بد من الإقرار أن احترام حرية الفكر والوعي عند لوثر، قد بلور في المراحل اللاحقة، اتجاهاً يدعو على احترام حرية الفكر بصفة عامة، وسوف يشهد هذا التوجه فيما بعد المزيد من التبلور، وإلى تطور في وعي المواطنين حيال حقوقهم وإلى احترام الحريات بصفة عامة، ولوثر الذي لم يكن قائداً ثورياً، بمعنى أن يضع الحل لإشكالية الوعي ـ التمرد ـ القمع، فإنه كان يقبل بفكرة أن يقوم الحاكم بقمع أي اتجاه فكري، مع أن لوثر شخصياً كان ضد قمع الأفكار فقد سبق له وعبر عن ذلك بأعلانه "لا يمكن منع الإلحاد بالقوة".(20)

وقد خطا لوثر بأفكاره تلك خطوة واسعة إلى الأمام باتجاه عزل الكنيسة عن الدولة، ولا شك أنه كان يعبر عن أمنيات وتطلعات بدت مستحيلة لممثلي البرجوازية، أو حتى للملوك والحكام، ووجه الغرابة في الأمر، أن تصدر هذه الدعوة من رجل دين. ولربما أدرك لوثر أن وقوف الكنيسة الكاثوليكية بوجه التحرر والتنوير سينتهي بها أن تصبح عبئاً ثقيلاً، وإلى مواجهة لن يلبث أن يتخلى الناس عنها، هذا إذا علمنا أن الأفكار المعادية للديانة المسيحية كانت موجودة في أوربا، أو لم تتهم الكنيسة وأتباعها ميكافيلي بأنه أحد أشهر أشياع الوثنية في أوربا..؟

إذن فالحرية الإنسانية خطت على يد لوثر خطوة مهمة، وقد أصبح الحاكم الدنيوي هو منفذ الأحكام الإلهية المقدسة، ولا حد لسلطته. وقال لوثر " ليس من الصواب بأي حال من الأحوال أن يقف مسيحي، أي مسيحي ضد حكومته سواء كانت أفعالها عادلة أم جائرة" فهو يطلب الطاعة التامة للأمراء ثم يستطرد قائلاً " ليس ثمة أفعال أفضل من طاعة من هم رؤسائنا وخدمتهم، ولهذا السبب أيضا، فإن العصيان خطيئة أكبر من القتل والسرقة وخيانة الأمانة والدنس وكل ما يشتمل على هذا " . ولكن لوثر واجه قضية طاعة الأمراء للإمبراطور، أو التمرد على أمراء فاسدين بكثير من التردد والغموض، على أن يبدأ الطاعة كان أكثر نفوذاً. ويتهم بعض العلماء لوثر بالأرستقراطية أو محاباتهم لا سيما بعد موقفه من ثورة الفلاحين " إنني أفضل أميرا عادلا، يرتكب الخطيئة على شعب يفعل الصواب".(21)

ولكن الملوك والأمراء لهم حساباتهم القائمة على حسابات الواقع المادي فقد بدؤا يعبرون عن القلق من انقسام رعاياهم وما قد يجره ذلك من مشكلات وويلات. وفي عام 1521، أرغم لوثر على الإقامة الإجبارية في قلعة فارتبورغ Wartburg حيث أمضى وقته هناك بترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة الألمانية لأول مرة.(22) وهي من أعماله المهمة، ومن خلال ذلك أسدى أعظم خدمة للأمة الألمانية وثقافتها وشخصيتها بتوحيد لغتها.

وعندما توفي لوثر، كانت أفكاره قد انتشرت بصورة واسعة ليس في بلاده ألمانيا فحسب، بل وفي عموم دول أوربا الغربية خاصة، سويسرا، هولندة، الدانمرك، إنكلترا، فرنسا.

ومن أجل فهم جوهر حركة الإصلاح الديني (لوثر ـ كالفن) أو غيرها من الحركات: كوسوي في روسيا، أو حركات أخرى، لابد لنا من الاستيعاب الدقيق لمسيرة الكنيسة المسيحية الكاثوليكية بوجه خاص، وتطور مفهوم السلطة الدينية والدنيوية في المسيحية. فعلى الرغم من وجود أكثر من أشارة صريحة قالها السيد المسيح أبرزها :

* " أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر" .

* " مملكتي ليست هنا، مملكتي في السماء ".

إلا أن رجال الكنيسة والمقر القيادي البابوي وبقصد بسط متزايد للسيطرة والهيمنة على المجتمع والدولة، عمدت على تداخل السلطتين وعدم الوضوح في الحدود بينهما، وتلك مسيرة في الصراع بين السلطتين امتدت منذ عام 325م فصاعداً(تاريخ اعتماد الإمبراطورية الرومانية المسيحية كديانة رسمية) أي عصر هيمنة الإمبراطور(الملك) إلى انتقال الهيمنة إلى الكنيسة لا سيما بعد تأسيس المقر البابوي في روما عام 756 (الفاتيكان)، الأمر الذي وفر استقلالية للبابا في اتخاذه للقرارات حتى القرن الحادي عشر.(22)

ومنذ القرن الحادي عشر فصاعداً، أصبحت سيطرة الكنيسة، موضع تساؤل ونزاع أيضا، وليس نادراً ما أرغم الملك الكنيسة على التراجع، ولكن دون أن يعني ذلك أنها (الكنيسة) فقدت دورها القيادي، بل كان الموقف يشير إلى تعادل في النفوذ بصفة عامة. وقد استمر الأمر كذلك حتى القرن الرابع عشر، حيث ابتدأ نفوذ الكنيسة بالتراجع بسبب عصر النهضة ومنجزاته العلمية والأدبية والاكتشافات الفلكية والجغرافية، ولسبب آخر جوهري ومهم، هو أن التحولات الاقتصادية والاجتماعية كانت تمهد وتطرح المقدمات لتحولات أكثر أهمية، وهو بروز البورجوازية ودورها على مختلف الأصعدة، كما أدى التراكم في رأس المال إلى بروز قوة ومكانة المراكز المالية في المجتمع.(23)

شكلت هذه الأحداث التاريخية حلقة من التطورات لا يمكن فهم أي ظاهرة بمعزل عن مقدماتها، والشروط الموضوعية والذاتية التي أدت إلى قيامها، وسبب أخفاق كثير من التيارات والتوجهات والنجاح الذي لاقته أخرى، فهذه ظواهر لا تحدث مصادفة، وعلى الأرجح حدثت تلبية لحتميات تاريخية كشرط موضوعي، وتوفرت لها الشروط الذاتية كتوفر الظرف المناسب والشعارات الملائمة والزعامات التاريخية، وما إلى ذلك من شروط ومستلزمات.

وقد كانت الحركة اللوثرية تلبية لشرط موضوعي تمثل بضرورة أصلاح الكنيسة وكانت الضرورة قد أصبحت قاهرة لسببين :

الأول / كان التناقض قد بلغ حده الأقصى بين السلطة الدينية والسلطة الزمنية، تناقضاً لا يمكن معالجته بوسائل التسكين المؤقت، أو بحلول توفيقية على غرار توفيقية الأكويني.

الثاني / كان التطور الاقتصادي والاجتماعي قد بلغ مستوى من التقدم لم تعد معها طبيعة التحالفات الطبقية وهيئتها القيادية: الدولة ـ الكنيسة ـ الإقطاع، صالحة لدفع عجلة التقدم، فكان لا بد من أجراء تغيرات مهمة وإعادة ترتيب هيئة التحالف القيادي، تأخذ فيه البورجوازية موقع الصدارة مع الدولة، وهو استحقاق بلغته بواسطة منجزاتها وقواها المالية بالدرجة الأولى.

لذلك فأن الحركة اللوثرية نقلت التناقض إلى داخل الكنيسة أولاً، ثم سهلت ووفرت الشروط الموضوعية لتفاعلات أخرى ستبرز آثارها في المرحلة المقبلة، والتي استحقت لقب مرحلة التحرر الليبرالية.

وكانت نتائج عصر النهضة تتوالى، سواء على صعيد الفكر أو الآداب والاكتشافات الفلكية والجغرافية، وقد استفزت هذه عقول المبدعين والمخترعين، فلاحظنا نشوء أولى أجنة العلاقات الرأسمالية تنشأ في أحشاء المجتمع الإقطاعي " وإن ظهور العلاقات الرأسمالية وتطورها اللاحق قد اثر تأثيرا بالغاً على النظام الاجتماعي والسياسي في أوربا، وأن تطور العلاقات الرأسمالية قد أستتبع عملية تكون الأمم على أساس الأقوام الموجودة، وقد جرت هذه العملية على أساس الاقتصاد المشترك والدولة السياسية المركزية، فتعزيز الروابط الاقتصادية بين مختلف المناطق داخل البلاد أوجد الظروف لظهور اللغة المشتركة وتطور الثقافة القومية.(24) 

وبتقديرنا، فإن من أهم نتائج حركة الإصلاح الديني تكمن في أنها أبرزت الرابطة القومية، كرابطة حلت محل الكنيسة التي بدا أنها قابلة للانشقاق والاهتزاز ونلاحظ بأن منذ حركة الإصلاح الديني فصاعداً، أن حركات وانتفاضات عمت الأجزاء الأكثر تطوراً في أوربا (ألمانيا ـ سويسرا ـ هولندة، الدنمرك ـ بلجيكا) وهي تحمل نكهة قومية، فيما تضاءل إلى حد كبير نفوذ المقر البابوي الكاثوليكي في روما، ليس في البلدان التي أصبح فيها المذهب الجديد(البروتستانتي) أكثرية، بل حتى في البلدان التي فيها أغلبية كاثوليكية، فالحركة اللوثرية أدت إلى هز الكنيسة الكاثوليكية، وحملت إليها أراء وانتقادات لإصلاح نفسها خشية انهيارات أخرى. وبالفعل فقد أجرت بعض من تلك الإصلاحات.

وهكذا اكتسبت حركة النهضة (على الصعيد السياسي) توجهات عديدة أهمها:

ـ انتشار البروتستانتية التي كانت متفتحة في مجال العقيدة الدينية، وسياسياً كانت تؤيد سلطة الدولة، وأنهت الازدواج في ولاء المواطنين.

ـ تمتع الكنائس الكاثوليكية بحرية واستقلال نسبي عما كانت عليه قبل حركة الإصلاح.

ـ انتعاش البورجوازيات الناشئة بسبب تراجع دور الكنيسة والإقطاع.

ـ تنامي الشعور القومي كعامل موحد للشعوب، وتزايد الإحساس بالثقافة واللغة والأدب.

كان لظهور البروتستانت نتائج في مقدمتها تأجيج الصراعات الدينية التي قادت إلى حروب طويلة(لعشرات السنين) دارت فيها ومن خلالها صراعات اجتماعية وثقافية فكرية، أدت إلى بلورة في الموقف الاجتماعي وإلى تطور المفاهيم السياسية ولا سيما تلك التي كانت تختص بالسلطة وثنائي الدولة ـ الكنيسة، أدت إلى ضعف طبقة النبلاء وأمراء الإقطاع، مقابل تحقيق مكتسبات مهمة للبورجوازية، رغم أنه ما زال من المبكر القول بأنها نهائية.

ويقر المفكر البريطاني المعاصر براتراند رسل (في القرن العشرين) " أن نتائج حركة الإصلاح الديني وموقف الدين حيال السياسة قد غدا أوضح، وكثيراً ما كان يقدم على أساس قومي" و " ما زال الاتجاه المضاد لروما في الكنيسة الجديدة باقياً في بريطانيا حتى اليوم، (كما ظل قائماً في الولايات المتحدة حتى عام 1960، حيث كان القانون العرفي، غير المكتوب، لا يسمح لكاثوليكي أن يكون رئيساً للجمهورية). وكان تغير تدريجي في المناخ الثقافي قد سبق حركة النهضة "(25)

وكانت تداعيات هذه الحركة واسعة، وسوف ينجم عنها المزيد في المستقبل، وكان انقسام الكنيسة في أوربا إلى كاثوليكية وأنجليكانية(بروتستانتية) قد جرت كما أسلفنا إلى خلافات وصراعات طويلة (منها حرب الثلاثين عام) وأصبح التعصب المذهبي واجهة لعوامل كامنة أو ظاهرة، منها رغبة الأمراء في التوسع والهيمنة على مقاطعات جديدة، ولم تكن الحدود بين الأمم واضحة بعد في أوربا، فغالباً ما كانت الأقاليم تتبع هذا الأمير أو ذاك، وتشكلت جيوش مرتزقة وأمراء الحرب كانوا يستولون على ما يقاتلون لأجله، وقد أصبحت الحرب بحد ذاتها غاية تغذي نفسها بنفسها، ولم تتوقف إلا بعد أن فقد كافة الأطراف القدرة على مواصلة الحرب لجهة الخسائر في الموارد الاقتصادية والبشرية أو بما يطلق عليه تعب الحرب.

وفي فرنسا، رجح ريشيليو المصالح الوطنية الفرنسية على المؤثرات الدينية في إطار تحالف الدول الكاثوليكية ضد البروتستانت، ومارس سياسة خارجية وداخلية على هذا الأساس وحارب في صفوف البروتستانت ضد الكاثوليك حسبما اقتضت مصالح فرنسا(إذ تحالف مع السويد وأمراء ألمانيا) وعندما انتهت حرب الثلاثين عاماً بهزيمة الكاثوليك، كان في ذلك نهاية هيبة وسلطة البابا، بل أن ريشيليو أسس علاقات حسنة حتى مع تركيا العثمانية المسلمة، وكان (ريشيليو) قد أصبح رئيساً للوزراء عام 1624.(26)

مصادر البحث

(1) الطعان، د. عبد الرضا: تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص229ـ231

(2) مجموعة مؤلفين: عرض اقتصادي تاريخي، ص267 ـ 258

(3) مجموعة مؤلفين: عرض اقتصادي تاريخي، ص275 ـ 280

(4) ماول، شاكن فرانتز: صورة لوثر في الذاكرة الألمانية، مقال

(5) ماول، شاكن فرانتز: صورة لوثر، مقال

(6) مجموعة مؤلفين: عرض اقتصادي تاريخي، ص283

(7) مرجان، مصطفى: العقل وشرعية السلطة في حركة التنوير، مقال

(8) رسل، برتراند: حكمة الغرب، ج2، ص36

(9) Duden , Lexikon, S. 415

(10) ماول، شاكن فرانتز: صورة لوثر، مقال

(11) Duden : Lexikon, S. 415

(12) أبو جابر، د. فايز صالح. الفكر السياسي الحديث، ص39

(13) سباين، جورج. تطور الفكر السياسي، ص436

(14) مجموعة مؤلفين. عرض اقتصادي تاريخي، ص248ـ250   

(15) الطعان، د. عبد الرضا. تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص241

(16) قربان، د. ملحم. الحقوق الطبيعية، ص66

(17) الطعان، د. عبد الرضا. تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص243ـ 246

(18) أحمد، د. كمال مظهر. النهضة، ص48

(19) رسل، برتراند: حكمة الغرب، ص29

(20) الطعان، د. عبد الرضا: تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص248ـ250

(21) رسل، برتراند: حكمة الغرب، ص42

(22) الطعان، د. عبد الرضا: تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص251

(23) الطعان، د. عبد الرضا: تاريخ الفكر السياسي الحديث، ص245

(24) مجموعة مؤلفين. عرض اقتصادي تاريخي، ص229ـ231

(25) أبوجابر، د. فايز صالح. الفكر السياسي الحديث، ص46

(26) مظهر، د. كمال أحمد. النهضة، ص30ـ33