سبل منع الانتحال العلمي والتزوير بجامعاتنا العربية

سبل منع الانتحال العلمي والتزوير

بجامعاتنا العربية

صالح الشاعر

[email protected]

لا يرى صالح الشاعر للدول العربية حقًّا في البحث عن مكان لجامعاتها بالتصنيف العالمي قبل معالجة أوضاع التزوير 

 فساد كبير لم تنجُ منه دولة عربية تقريبًا، من مصر إلى سوريا، إلى السعودية والعراق والإمارات، وغيرها من الدول، شهادات مزورة، وتصنيفات زائفة للجامعات، ورسائل جامعية للبيع، السوق عرض وطلب، ومَن يدفع يحصل على ما يريد!

تحقيق صحفي أجراه المركز الصحفي السوري يكشف عن حركة منظمة لتزوير الشهادات الجامعية لصالح السوريين الراغبين في الهجرة إلى أوروبا والباحثين عن عمل، شملت جميع التخصصات بلا استثناء، وتحمل جميع الأختام والتوقيعات المعتمدة متضمنة المصادقة من وزارة الخارجية![1]

وفي السعودية جرى ضبط أكثر من 16 ألف شهادة مزورة ومعدَّة للتسلم، مع 32 من الأختام المزورة المنسوبة إلى جامعات وكليات داخل المملكة وخارجها.[2]

وثمة أزمة تتمثل في رفض ’الهيئة السعودية للتخصصات الصحية‘ الاعتراف بدرجات الماجستير لنحو 800 من الأطباء المصريين العاملين هناك، والحاصلين على درجاتهم بنظام الدراسة عن بعد، التي قد يرى فيها البعض نوعًا آخر من التزوير.[3]

أنماط من التزوير ودوافعه

وعلى مستوى يتجاوز الأفراد، أشارت مجلة Science منذ ثلاث سنوات إلى أمر غريب، هو لجوء جامعات سعودية إلى إجراء ما سُمي ’تعاقدًا جزئيًّا‘ مع أكثر من 60 باحثًا متميزًا، للعمل لدى هذه الجامعات بوضعية ’غير متفرغ‘، واشترطت عليهم نشر بحوث يذكرون فيها ملحقًا بأسمائهم أنهم يعملون لدى هذه الجامعات! لرفع أسهمها في فهرس الاستشهاد بالأبحاث العلمية للباحثين المتميزين من خلال الموقع الإلكتروني على شبكة المعلومات العالمية ISIhighlycited.com بغية الحصول على مركز متقدم بين الجامعات.[4]

وإذا كان الظن أن من حق الرأسمالية أن تفعل ما تشاء، وكل بلد له حرية التصرف في أمواله، فاليقين أنه ليس من حق الدول العربية أن تبحث عن مكان متقدم لجامعاتها في التصنيف العالمي قبل معالجة تلك الأوضاع التي تتواضع أمامها كلمة (تزوير)، بل إن المرء ليخال أن مجموع الإنفاق على التزوير يتجاوز الإنفاق على التطوير!

وللتزوير صيغة أخرى تتمثل في ظاهرة المكاتب والمواقع التي تعرض كتابة الرسائل العلمية، بمعنى إنشائها من الألف إلى الياء، وما على الباحث المزعوم سوى دفع ما يعادل 850 دولارًا للماجستير، و1400 دولار للدكتوراه- فيتسلم الممول الرسالة ’العلمية‘ موسومة باسمه، ويقدمها للمناقشة وينال الدرجة العلمية، وربما أسعدته العلاقات فأصبح من أعضاء هيئة التدريس بإحدى الجامعات فيكون مثل فيكتور لوستيج، الذي رام بيع برج إيفل مرتين!

إن المرء ليخال أن مجموع الإنفاق على التزوير يتجاوز الإنفاق على التطوير!“

صالح الشاعر

والرواج الحاصل لهذه المكاتب جعلها في انتشار مستمر؛ بسبب السعي المحموم وراء الشهادات العليا، فالطلب يخلق العرض، والباحثون عن الشهادات العليا بعضهم ينشد وظيفة مناسبة ذات دخل مرتفع بالشهادة الأعلى، أو لترقيته في وظيفته، وبعضهم باحث عن فرصة للسفر إلى الخارج، ومنهم مَن يروم الوجاهة الاجتماعية لإضافة لقب فحسب.

هكذا يفعل العالم المتقدم

على جانب آخر، وفي وسط يحترم العلم ويحرص على الدقة، وتسوده الشفافية والنزاهة، نقرأ أن جامعة واسيدا في طوكيو أعلنت أنها ستسحب درجة الدكتوراه التي منحتها الباحثة هاروكو أوبوكاتا -عالمة الكيمياء الحيوية- إذا لم تصحح الأخطاء التي عُثر عليها في رسالتها للدكتوراه خلال عام، وكان السبب أن دورية Nature اكتشفت في مارس الماضي أن بعض الأجزاء من الرسالة قد أُخذ من مواد خاصة بمعاهد الصحة الوطنية الأمريكية، إضافة إلى اكتشاف استخدام صورة منسوخة من موقع تجاري دون إشارة إلى مصدرها.[5]

وفي المجر استقال رئيس الجمهورية ’بول شميت‘ من منصبه، بعد ثبوت انتحاله جزءًا من رسالته العلمية، وقبله وزير الدفاع الألماني ’كارل تيودور‘ للسبب نفسه، وكذا ’أنيته شافان‘ وزيرة التعليم والبحث العلمي الألمانية، وهكذا يُطبق القانون في الدول المتقدمة، ولا حصانة لأحد تثبت عليه السرقة الأكاديمية مهما علا شأنه أو بلغ منصبه.

لا حصانة لأحد تثبت عليه السرقة الأكاديمية مهما علا شأنه أو بلغ منصبه

صالح الشاعر

ولا يسعنا إلا أن نسأل عن السبل التي تضعها وزارات التعليم العالي في دولنا النامية لمواجهة هذا التزييف والتزوير، ففي حين تُكتشف مجموعة من الأطباء والصيادلة يبيعون البحوثَ لطلبة الكليات الصحية السعودية، متضمنة كليات الطب، تبدي ’الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي‘ عدم قدرتها على القضاء على هذه الأساليب، مؤكدة ”أن عدم التزام الأساتذة بضوابط البحث العلمي ترك المجال متسعًا أمام هؤلاء!“.[6]

التطوير مانع للتزوير

هذا عن التزوير، أما التطوير فظني أنه يبدأ من داخل الجامعات والمؤسسات البحثية، والمحاور كثيرة متعددة، فلدينا المحور الإنساني وهو الأهم، ثم محور الأنظمة والقواعد الحاكمة للوظائف الأكاديمية، على مستوى نيل الدرجات وعلى مستوى التوظيف والترقي.

فعلى المستوى الإنساني يجب أن تتوقف الجامعات عن التهاون في القضايا الأخلاقية لدى أعضاء هيئة التدريس، فتعطيل باحث جاد عن الحصول على درجته العلمية، أو سرقة بحثه، أو ابتزازه ماديًّا، جريمة أخلاقية لا بد من مواجهتها بحسم، هي وأخواتها من جرائم الكتاب الجامعي الإجباري، والانتحال العلمي، وتعطيل الترقية لأحقاد شخصية، والرشوة الجنسية.

وفي حالة ثبوت واقع السرقة أو الانتحال على باحث يجب أن يُعمم اسمه على جميع الجامعات؛ حتى لا يصبح المجال مفتوحًا أمامه فيفلح في السرقة لدى جامعة أخرى

كما يجب أن يُعد التستر على قضايا التزوير والسرقة العلمية والانتحال، أو الإهمال في مواجهتها جريمة تستدعي جزاءً رادعًا، أقله منع المتستر والمهمل من الوظائف القيادية، أو عزلهما من موقعهما الوظيفي، حتى لا يتحول أصحاب الضمير إلى غرباء، وتصبح الجامعات مرتعًا للفاسدين وطاردة للشرفاء، وقد سمعنا أن جامعة القاهرة سحبت قرار مد خدمة عدد من أساتذة الفلسفة والشريعة في كلية دار العلوم بعد ثبوت تزوير شهاداتهم، ثم نُقل اثنان منهم بعد ذلك إلى لجان الترقية العلمية!

ألم يكن كافيًا ما تعانيه المجتمعات العربية من جهل وفقر ومرض حتى يزيد عليها وصول مَن يحملون لقب ’دكتور‘ و’مدرب‘ من جامعات وهمية أو بوسائل مشبوهة إلى مواقع صنع القرار؟

صالح الشاعر

وعلى مستوى البحث أقترح وبشدة تعزيز الرقابة على جودة الرسائل العلمية في جميع مراحلها، وضمن تعزيز تلك الرقابة يجب أن توفر الجامعات وصولاً حرًّا إلى جميع الرسائل العلمية، فالنظام المعمول به الآن في كثير من الجامعات يشجع على الانتحال والتزوير، فما معنى أن تكون الرسائل محفوظة في مستودع مغلق، لا يتاح الحصول على نسخة منها، وتقضي القواعد مثلاً بأنه ”يُسمح بالتصوير بنسبة محددة من الرسائل العلمية وفي حدود لا تزيد على الفصل المنهجي للرسالة، فضلاً عن بعض من محتوى الرسالة بنسبة لا تزيد على 10% بشكل عام من إجمالي عدد صفحات الرسالة“.

إن ذلك الانغلاق الشديد يقابله أحيانًا انفتاح أشد تحت السطح وبوسائل ملتوية، حيث قد يصل باحث بوسيلة منها إلى نسخ جزء من رسالة وإلحاقها برسالته، وقد لا تُتاح للمشرف عليه فرصة اكتشاف الجرم، اللهم إلا بعد فوات الأوان، بعد اكتمال الجريمة والحصول على الدرجة العلمية!

وظني أن نظام الترقيات الجامعية بشكله الحالي مدعاة في كثير من الأحيان إلى التزوير العلمي أو على الأقل تقديم بحوث دون المستوى، فإذا كانت حقيقة العمل الجامعي مكونة من شقين: التدريس والبحث العلمي، فلماذا يكون التركيز في الترقية الوظيفية على البحث العلمي بشكل خاص؟ إن بعض أعضاء هيئة التدريس موهوب في إيصال المعلومات والتواصل العلمي مع طلابه، لكنه ليس بذاك في جانب البحث وتقديم أفكار علمية جديدة مبتكرة، أفيكون الحل إلجاؤه إلى إعادة الإنتاج أو حرث المحروث؟ وماذا عن طرق التدريس والأساليب التربوية والعبء الذي يقوم به؟

إن وجود مسارين (البحث العلمي– التدريس) للأستاذ الجامعي يختار أحدهما هو الحل الأكثر مناسبة، فيكون لكل مسار قواعد الترقية الخاصة به، على أن يكون العمل الجامعي مزيجًا بين المسارين، لكن بنسبة أعلى للمسار الذي يفضله ويختاره، فتلك طبائع الأشياء وسنة الاختلاف، بدلاً من تخليط يزري بالبحوث العلمية، ويجعل كل أستاذ جامعي في غير موضعه، ويجعل البحوث العلمية ركامًا عدديًّا لا طائل من ورائه.

أما على مستوى التوظيف فإنه من الضروري إنشاء اختبارات تصنيف مهني في جميع التخصصات، تكون شرطًا لشغل الوظائف الأكاديمية، ومهمتها تمييز مَن طلب العلم وبحث وقرأ وحلل وناقش لينال الدرجة العلمية، على أن تكون مستقلة عن الجامعات؛ حتى لا يتحول الأمر إلى خلق منظومة فساد كاملة في التعليم العالي بمنطقتنا.

ألم يكن كافيًا ما تعانيه المجتمعات العربية من جهل وفقر ومرض حتى يزيد عليها وصول مَن يحملون لقب ’دكتور‘ و’مدرب‘ من جامعات وهمية أو بوسائل مشبوهة إلى مواقع صنع القرار؟

إن التزوير والانتحال وشراء المكانة والوجاهة بالمال ليس مكانه الجامعات، وليس أمرًا يمر مرور الكرام، وحيث يتمنى الدكتور أحمد زويل –العالم العربي، حائز جائزة نوبل- أن يتمكن الحراك السياسي، الموجود بالفعل في المنطقة، من دعم ’ربيع علوم‘ ناجح، يعم الشرق الأوسط؛ فيمكنه من بناء مجتمع المعرفة، فلن يكون ذلك الربيع -فيما يبدو- إلا تاليًا لثورة شاملة على الفساد؛ لتصحيح المسار، وتحديد نقطة انطلاق.

هذا الموضوع أنتج عبر المكتب الإقليمي لموقع SciDev.Net بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.