فقه الحديث في منهج العلامة العمراني

فقه الحديث في منهج

العلامة العمراني

د. عامر أبو سلامة

المقدمة

الحمد لله رب العالمين , ونشهد أن لا إله إلا هو , ونشهد أن محمداً عبده ورسوله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.-

وبعد:

فإنّ دراسة أعلام المعاصرين من العلماء والفقهاء والدعاة والمفكرين , لا تقل أهمية عن دراسة الأعلام القدامى.

فإذا قرأنا القديم قراءة تستند إلى التاريخ , لنأخذ منه العبرة , وننهج نهجه من أجل القدوة , فقراءة المحدث وقوف على الحاضر , ومعرفة للواقع.

فنرى القدوة , والعبرة تحصيل حاصل , وإلاّ لماذا الدراسة؟ ومن هذا المنطلق كتبنا هذا البحث الموجز عن أحد الأعلام المعاصرين, في اليمن الميمون , عن جانب من جوانب مدرسة القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني  

 - حفظه الله -  وجاء هذا البحث , بعد هذه المقدمة على النحو الآتي :

- المبحث الأول: حياة العمراني وتكوينه العلمي. وفيه مطالب:

المطلب الأول: نسبه وأسرته.

المطلب الثاني: طلبه للعلم.

المطلب الثالث: جهوده العلمية والدعوية.

- المبحث الثاني: الاشتغال بعلم الحديث وفقهه. وفيه مطالب:

المطلب الأول: عنايته بعلم الحديث.

المطلب الثاني: عنايته بفقه الحديث.

- خاتمة....فيها خلاصة وتوصيات.

والله تعالى أسأل أن أكون قد وفقت إلى إبراز هذا الجانب من مدرسة العمراني , فإن كان كذلك , فهذا من توفيق الله وعونه.وإن كان غير ذلك, فأستغفر الله.

د/ عامر حسين العبدالله الكدرو

آل دحيّم أبو سلامة

صنعاء 1/1/2011م    

- المبحث الأول –

(حياة العمراني وتكوينه العلمي)

تمهيد:

العمراني واحد من أعلام الفقه والدعوة , ومن الذين اهتموا بإحياء فقه الإجتهاد , والعناية بالدليل , حتى عُدَّ مرجع الفتوى في الديار اليمنية , وواحد من أبرز المشتغلين بالتدريس وإلى يومنا هذا , دأب قلَّ أن تعرف مثله , ومواظبة ندر نظيرها , وهمة تطاول الجوزاء , يذكرك بالعلماء الكبار الذين تقرأ عنهم , وتتعرف إليهم في ثنايا الأسفار.

ذو حافظة مدهشة , وذاكرة تجعلك – وأنت تستمع إليه – تضع يديك خلف ظهرك , فاتحاً فمك , مشنفاً آذانك , يأخذك بكلك إليه.

مما تسمع من محفوظات متون , وأرقام دقيقة , وتواريخ وقصص , وأقوال وأدلة , وفهوم واستنباط , مع اعتدال وإنصاف وتوازن , لا يتطرق إليه خلل يصب في خرق(أدب الخلاف) , أو تجاوز أصول الحوار , الأدب سمته و والحياء وصفه , وخفة الظل من أظهر صفات شخصه الكريم.

زاهد لا يتطلع إلى شيء من الدنيا وزخارفها , ولا يسيل لعابه إلى زينتها, وجعل بهرجها خلف ظهره , وإذا قالوا عنه: إنه قد استوى المدح والقدح عنده , لم يكن هذا القول بعيداً عن الصواب , عرضت عليه الدنيا بكامل زينتها , فردها ونظر إليها نظر المترفع عن السفاسف , المتطلع نحو المعالي.

وحتى نعرف بهذا العلم , نعرض حياته من خلال هذه المطالب:

المطلب الأول: نسبه وأسرته.

هو أبو عبد الرحمن, القاضي,العلامة, الفقيه , ناصر السنة, وقامع البدعة , المحقق في العلوم (محمد بن إسماعيل بن محمد بن محمد بن علي حسين بن صالح بن شايع العمراني اللقب,الصنعاني المولد والنشأة , وكان مولده في ربيع الأول 1340ه .(1)

وعرف بالعمراني , نسبة إلى مدينة عمران(2) حيث إن أصل أسرة العمراني من تلك المدينة , وأن أول من انتقل من هذه الأسرة إلى صنعاء , جد المترجم له , القاضي علي بن حسين بن صالح بن شايع العمراني, في عهد الإمام المنصور الحسين (1139ه إلى 1161ه) في القرن الثاني عشر من الهجرة.(3)

ويصلح لقب (العمراني) لكل من سكن مدينة عمران, قديماً وحديثاً , إلاّ أن هذا اللقب, صار علماً على هذه العائلة الصنعانية , التي لا يعرفون  إلا بها , وكل واحد من هذه العائلة يقال له (العمراني) , والمترجم له من هؤلاء , رغم أنه لم يولد بعمران ولا سكنها.(4)

وقد برع جماعة من أعلام هذه الأسرة (العمراني) التي اشتهرت بالعلم والفضل , ولعل القاضي العلامة محمد بن علي العمراني – جد علمنا صاحب الترجمة – من أبرز أعلام هذه العائلة , وهو من أعيان علماء عصره.

(برع في جميع العلوم الإجتهادية , وصار في عداد من يعمل بالدليل , ولا يعرج على القال والقيل , وبلغ في المعارف إلى مكان جليل , وهو قوي الذهن , سريع الفهم , جيد الإدراك , ثاقب النظر , يقل وجود نظيره في هذا العصر , مع تواضع وإعراض عن الدنيا , وعدم إشتغال بما يشتغل به من هو دونه بمراحل, من تحسين الهيئة , ولبس ما يشابه المتظاهر بالعلم . كثر الله فوائده , ونفع بعلومه).(5) 

وكانت نهاية هذا العلم الكبير , على أيدي (الباطنية) حيث دخلوا عليه إلى بيته (بزبيد) , وضربه أحدهم بخنجر في عنقه , فلبث يومين ثم قضى شهيداً بإذن الله تعالى , في شهر جمادي الأول سنة 1264ه , عن سبعين سنة , رحمه الله رحمة واسعة.(6)

المطلب الثاني: طلبه للعلم.

بدأ تلقي العلم في مراحله الأولى , على جملة من الشيوخ والعلماء , حيث أخذ القرآن الكريم على الأستاذ محمد النعماني , وجوده على السيد محمد المؤيدي , والأستاذ محمد حمزة , والأستاذ لطف العطاب , إضافة إلى تلقيه جملة من العلوم الأخرى, على أيدي هؤلاء الأساتذة , إلى أن إنتقل إلى مدرسة الإصلاح , لإكمال بعض تعليمه الأولي, حيث  نال شهادتها.(7)

وبعد ذلك درس في مدرسة الفليحي , ومدرسة بئر العزب , وبئر الشمس عند الأستاذ الحسن بن إبراهيم , وعندما بلغ الرابعة عشر , إنتقل إلى الجامع الكبير بصنعاء , وقرأ على كبار علماء الجامع , وحفظ كثيراً من المتون, في الفقه والحديث واللغة العربية , وغيرها من العلوم والفنون.(8)

وأشهر العلماء الذين قرأ عليهم القاضي العمراني , وسمع منهم:

أولاً: القاضي العلامة المجتهد عبد الله عبد الكريم الجرافي (ت : 1387ه) قرأ عليه موطأ مالك , وكتاب الإعتبار في الناسخ والمنسوخ  من الآثار , وأكثر سبل السلام, لإبن الأمير الصنعاني , وأكثر نيل الأوطار للشوكاني , وسنن النسائي , وشطراً من سنن ابن ماجه , وشطراً من صحيح مسلم.

ثانياً: القاضي العلامة عبد الله بن عبد الرحمن بن حميد (ت:1391ه) قرأ عليه شرح ابن عقيل , وشرح قواعد الإعراب , وغير ذلك من الكتب.

ثالثاً: القاضي العلامة علي بن حسن بن علي بن حسين المغربي (ت:1948م) توفي شاباً. قرأ عليه شرح قطر الندى لإبن هشام في النحو , وكتاب نخبة الفكر, في مصطلح أهل الأثر, للحافظ ابن حجر العسقلاني.

رابعاً: القاضي العلامة عبد الوهاب الشماحي (ت: 1357ه).

خامساً: السيد العلامة أحمد بن علي الكحلاني (ت: 1386ه).

سادساً: السيد عبد الخالق بن حسين الأمير (ت: 1370ه). قرأ عليه بعض الفرائض, وصحيح مسلم.

سابعاً: السيد عبد الكريم بن إبراهيم الأمير. حيث حفظ عليه غيباً كثيراً من المتون, والمختصرات, مثل متن (الكافية)و(الألفية) و(الملحة). ثم أخذ عليه, شرح قطر الندى لإبن هشام , وشرح ملحة الإعراب للفكهاني , وشرح قواعد الإعراب للأزهري , وشرح ابن عقيل , والجزء الأول من مغني اللبيب , وشرح التفتازاني على الغزي, في الصرف , وقرأ على العلامة أحمد السراجي, في شرح (عمدة الأحكام) , وقرأ على الشيخ محمد بن صالح البهلولي (1390ه) في شرح (عمدة الأحكام) وسنن أبي داوود.

وقرأ بعضاً من زاد المعاد لابن القيم , وسنن أبي داوود, على القاضي يحيى الإرياني.(9)

المطلب الثالث: جهوده العلمية والدعوية.

لقد حصل القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني حفظه الله ورعاه , على جملة من الإجازات العلمية , من كبار العلماء , منها - على سبيل المثال - :

إجازة السيد العلامة محمد بن محمد زبارة , والقاضي العلامة عبد الله بن عبد الكريم الجرافي , والشيخ العلامة عبد الواسع بن يحيى الواسعي , والسيد العلامة يحيى بن عبد الرحمن الأنباري الزبيدي , وغير هؤلاء من العلماء.(10)

هذا التلقي عن العلماء , وأخذ الإجازات منهم , أكسبه همة عالية, لتبليغ في هذا العلم الذي أكرمه الله تعالى به. شعوراً منه بواجب البلاغ الشرعي , وإحساساً منه بأن الدعوة إلى الله تعالى, واجب شرعي , وضرورة واقعية , ورغبة في نيل الأجر والثواب من الله تعالى.

وهذه الهمة التي أشرنا إليها آنفاً , تعتبر نادرة التوفر في عالم من العلماء , وداعية من الدعاة.

هذا العلم الذي لا يعرف الفتور , وإلى اليوم – رغم كبر السن – وكثيراً ما كنت أسمعه وهو يقول : أنا روحي التدريس والتعليم , بل هو أمتع ما أستمتع به في حياتي.

وكانت مفردات جهوده العلمية والدعوية تتمثل في جملة من القضايا والمسائل , لعل أبرزها :(11)

أ/ التدريس ...... وبهمة عالية في المساجد من خلال الحلقات التي يقيمها فيها , وأشهرها تلك الحلقات التي تعقد إلى الآن في مسجد الزبيري, ومسجد بلال , وجامع الصالح , ويبث بعضها على قناة (الإيمان) بصنعاء.

وكذلك كان يدرس بجامعة صنعاء , والمعهد العالي للقضاء , وجامعة الإيمان , إذ هو شيخ الشيوخ فيها , من تأسيسها وإلى يومنا هذا.

ب/ الفتوى وإرشاد الناس , وحل مشكلاتهم:

بدأب نادر , وصبر مدهش , وتحمل عجيب , يكون ذلك من خلال المشافهة والمواجهة , وفي كثير من الأحيان , عن طريق الكتابة , إذ قلمه يكاد أن لايتوقف عن الكتابة على الأوراق التي تقدم إليه , عشرات الأوراق في كل يوم , بلا كلل ولا ملل , ولا ضجر , إضافة إلى فتاوى الإذاعة والتلفزيون الرسمي , وبعض الفضائيات.

ج/ الكتابة والتأليف : في كتب مستقلة , أو مقالات تنشر في المجلات والصحف. ومن هذه المؤلفات والرسائل:

- كتاب في القضاء – مطبوع.

- كتاب في الأوائل وهو مرتب ترتيباً جيداً , وقد جمع فيه أكثر من ألف من الأوليات في التاريخ.

- رسالة في المنع من الصوم في يوم الشك.

- رسالة(كشف القناع عما يحل ويحرم من الرضاع).

- رسالة في حياة الشوكاني العلمية.

- رسالة في زكاة الحلي.

- رسالة في أحكام الجن.

- بحث في كون الأنبياء أحياء في قبورهم.(11)

د/ عنايته بالكتاب والمؤلفين خصوصاً من طلابه, وذلك من خلال مراجعة مؤلفاتهم , والتقديم لها. وهو جهد كبير , وعمل يحتاج إلى وقت , ويتطلب صبراً طويلاً. لذا تجد عشرات الكتب المعاصرة , من مراجعة القاضي العلامة العمراني والتقديم لها.

وهذا العمل من باب رعاية وتشجيع الباحثين , وضبط المعلومات التي تحتويها هذه المؤلفات , ولترشيد حركة التأليف , ولتوجيه عملية النشر , ولحماية الفكر الإسلامي من الغث والدخيل.

ه/ النصح المستمر , بالحكمة والموعظة الحسنة , فلا يعرف الغلظة , وبعيد كل البعد عن الطيش والتهور , هادئ متزن , محبوب من كل الإتجاهات الشعبية ,والحركات الإسلامية,يقبلون نصحه المصحوب بالدليل , ويرتاحون له , لما حباه الله من أخلاق رفيعة , ودماثة نادرة , ودعابة تريح السامعين , وبعد عن التعصب بكل أشكاله وألوانه.

- المبحث الثاني-

_ الاشتغال بعلم الحديث وفقهه _

المطلب الأول: عنايته بعلم الحديث, والإهتمام به.

علم الحديث , أو أصول الحديث , أو مصطلح الحديث عامة.(هو علم بقواعد وقوانين, يعرف بها أحوال سند الحديث ومتنه , من حيث القبول والرد).(13)

فالمعتني بعلم الحديث , لابد أن يجيد علم مصطلح الحديث , وما يتعلق بعلوم الحديث, من كل جوانبه ومناحيه.

وكان اهتمام العلامة العمراني بعلم الحديث, اهتماماً كبيراً منذ نشأته العلمية, إلى يومنا هذا , حيث ينتمي إلى مدرسة الإمام الشوكاني(14) الذي بدوره ينتمي إلى مدرسة الإمام ابن الوزير (15) .

ولعل أظهر وأبرز معالم هذه المدرسة , العناية بالحديث النبوي الشريف , والإستناد إليه – مع كتاب الله عز وجل – بالاستدلال , حيث قام ديننا على أدلة كتاب الله تعالى, وسنة نبينا- محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-.

ولما كان القرآن متواتراً تواتراً مستفيضاً , فإن العناية به من حيث الرواية , عناية بتلاوته , وضبط قراءآته , وهو أمر جليل , يحتاج إلى جهد كبير. ويروى إلى يومنا هذا, بالأسانيد المعروفة, عند المشتغلين بهذا العلم العظيم.

 والسنة النبوية , تحتاج إلى عناية بالغة , لاتقل أهمية عن العناية برواية القرآن الكريم وقراآته.

لأنه قد كثر فيها الوضع , والأحاديث الضعيفة لا تعد ولا تحصى , ومعرفة الحديث الصحيح من غيره , صيانة للحديث من أي شائبة تدخل عليه , إضافة إلى معرفة دراية الحديث وفقهه , اقتضى جهوداً جبارةً , قامت بها مثل هذه المدرسة المباركة.

وقد تلقى علم الحديث عن أعلام (المدرسة الشوكانية) حتى أجيز بالسند , بدواوين كتب الحديث والسنة.

وهذه الأسانيد مستوفاة في ثبت الإمام الشوكاني , الموسوم ب :(إتحاف الأكابر بسند الدفاتر), وقد أجيز بهذا الثبت من عدة شيوخ , منهم القاضي العلامة عبد الله الجرافي عن شيخه العلامة الحسين العمري عن إسحاق المهدي عن شيخ الإسلام الشوكاني , وهو بسنده إلى أئمة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وله أسانيد عالية, بكتب  الحديث , ومنها سنده إلى صحيح البخاري. حيث يروي عن شيخه الواسعي ,عن العلامة عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف , عن العلامة عيدروس بن عمر عن العلامة عبد الرحمن بن سليمان الأهدل , عن العلامة محمد بن محمد بن سنة الفلاني , عن العلامة أحمد بن العجل اليماني , عن القطب النهرواني , عن الطاووس , عن بابا يوسف الهروي عن الجمال الفرغاني عن ابن مقبل الختلاني , عن محمد بن يوسف الفربري عن الإمام الكبير البخاري. ( 16)

كل هذا لأن القاضي يؤمن بما كان يردده دائماً , في دروسه ويؤكد عليه أن: (الإسناد من الدين , ولولا الإسناد لقال من شاء ماشاء) , وهو قول ابن المبارك.(17)

والقاضي نهج هذا النهج  في تبليغ ما أجيز فيه , فدّرس وأجاز – بأسانيده المعروفة - كثيراً من طلاب العلم , الذين أصبح بعضهم أعلاماً , يشار لهم بالبنان , في مجالات عدة.

فعلى صعيد التدريس والإقراء , فقد درس أمهات الكتب الحديثية , ومنها صحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داوود والنسائي وابن ماجه والترمذي وموطأ مالك , وغيرها من كتب الحديث.(18)

كما قرأ بعض الكتب المتعلقة بالحديث والسنة , مثل (الشفاء) للقاضي عياض , (وزاد المعاد ) لابن القيم, وبعض كتب السيرة.

وطريقته في هذه الحلقات المعروفة بجامع الزبيري , أنه يقرأ الكتاب من ألفه إلى يائه , ويشرح ويعلق.

وكذلك كان يدرس ( علم مصطلح الحديث ) , وشرح جملة من المصنفات في هذا الشأن , ولعل أشهرها ( نخبة الفكر ) للإمام ابن حجر.

واهتم كثيراً بعلم الحديث من حيث الكتابة والتأليف إذ له كتاب ( الأوائل )مطبوع متداول , يعتبر نفيساً في بابه.

وله رسالة في الرد على مقالة حول صحيح البخاري بعنوان: (رد على من قال: ليس كل ما في البخاري صحيح بل فيه افتراء ومنكر )(19)

فند أقوال المهاجمين لصحيح البخاري , من الذين قالوا: أن في البخاري افتراء ومنكراً , ورد عليهم , وبين ضلال مذهبهم.

والقاضي من عشاق الصحيحين , حفظاً ودرساً ودفاعاً وشرحاً وبياناً.

وله رسالة في تنقيح الأحاديث الموجودة في كتاب ( البحر الزخار ).(20)

ورسالة حول بعض الأحاديث في الشفاء للأمير حسين , ورسالة ناقدة على إنكار المقبلي لبعض الأحاديث , ونفيه لوجودها.(21)

ورسالة في أغلاط العلماء في أسماء الرواة , كما له عدة مقالات تتبع فيها أخطاء الإمام الشوكاني من الناحية الحديثية.(22)

ومن حبه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم , وذبه عن هذه السنة , اعتنى عناية فائقة بمعرفة الأحاديث الموضوعة , لبيان وضعها , فكان يحذر منها , ويبين خطرها , ويوضح أنها من الكوارث التي ابتليت بها الأمة.

ومن جهوده في هذا المضمار , ما يكتبه في كل عدد من أعداد مجلة الشقائق اليمنية , تحت عنوان: ( التحذير مما لم يكن بصحيح من الأحاديث ).

منها على سبيل المثال , حديث ( من حج البيت ولم يزرني فقد جفاني ) قال القاضي: موضوع. قاله الذهبي في ترتيب المضوعات (600) والصغاني  في الموضوعات (52) والشوكاني في ( الفوائد المجموعة ) (326)  وابن عدي في ( الكامل ) (7/2480) والألباني في الضعيفة (45) . قال الحافظ ابن عبد الهادي: والحاصل أن هذا الحديث لا يحتج به . ( الصارم المنكي ) ص (75-80 ).(23)

المطلب الثاني: عنايته بفقه الحديث.

إن ربط الفقه بأدلته من الكتاب والسنة , وغيرهما من الأدلة , أمر ضروري , لأن الفقه أخذ من هذه الأدلة , ويبقى الدليل مقدماً على كل قول , كائناً من كان قائله , لأن الله تعبدنا بالدليل.

وشاع - بفعل الكسل والتقليد الأعمى- لدى جماعات من طلاب العلم ,إهمال الاهتمام بالدليل الشرعي , لأنهم اقتصروا على المألوف من المؤلفات المتداولة.

القاضي العمراني – حفظه الله- له عناية فائقة بكتب الفقهاء , كما له منهج قويم – إن شاء الله – بالحث على حفظ المتون والمختصرات , واحترامه للعلماء والفقهاء , من القدامى والمحدثين , ويتعامل مع كل أهل العلم , حتى لو كانوا من صغار طلاب العلم , بأدب الخلاف , واحترام المقابل , فلا يطعن , ولا يجرح , ولا يسفه , ولا يهاجم , ولا يذكر كلمة نابية في حق واحد من أهل العلم , ولكن يخالف من خلال البحث في الأدلة.

لذا له رسالة عاب فيها على المؤلفين في الفقه لعدم اهتمامهم بصحة الأحاديث في كتبهم.(24) ,بل يذكرون الأحاديث على ما نقلوها عن غيرهم , من غير تحقيق ولا تمحيص.

ويتمثل منهجه بفقه الحديث , بما يأتي:

1- الفقه المقارن: حيث يذكر آراء العلماء من المجتهدين في المسألة ... لأن هذا يظهر وجه الحق في المسألة , إذ أن آراء العلماء , تمثل الفهوم المتنوعة للنص , فمن الضروري معرفة آراء هؤلاء العلماء , لأنها تساعد كثيراً على الترجيح , ومن لم يعرف اختلاف العلماء فليس بعالم , ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء لم تشم أنفه رائحة الفقه. (25)

من هنا , اهتم القاضي العلامة العمراني , بحفظ آراء العلماء , وله معرفة واسعة بخلاف الفقهاء , حتى أنه إذا بدأ بسرد آراء الفقهاء في المسألة , يدهش الحاضرين , ويحوز على إعجابهم.

2-الاستدلالي: لا يكتفي بسرد آراء الفقهاء , بل لابد من معرفة أدلة كل فريق من هؤلاء العلماء , وأدلة كل مذهب من المذاهب.

وفي هذا المجال (الاستدلالي) تبرز قدرة القاضي الحديثية , ومعرفته المتينة في هذا العلم الشريف.

ففي مجال معرفة أنواع الحديث , من حيث القبول والرد , فهو البحر الذي لاتكدره الدلاء , فهذا حديث صحيح , ويبرهن على قوله بصحة الحديث , وكذا إذا حكم بضعفه , أو وضعه , أو أي حكم على الحديث والتأكيد على ضرورة المنهجية الحقة,في التعامل مع الأحاديث. ومن حضر دروسه, أو قرأ الفتاوى التي كتبها , أو الأبحاث الصغيرة التي سطرها , يدرك هذه الحقيقة تمام الادراك.

وفي هذا يقول:(لأن إسناد الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضروري ولازم , ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء , ولا سيما إذا كان الحديث سيعارض في أحاديث أخرى, مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , ومثل هذا الحديث الذي احتج به المحتج على تحريم أو كراهة الضم في الصلاة , فإنه سيعارض عدة أدلة متواترة , وهي مرفوعة إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دالة على مشروعية الضم في الصلاة.

فلا بد لمن يريد الاحتجاج به أن يتثبت كثيراً , ولا يرويه إلا بعد معرفة سنده إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- , وعلى فرض أن هذا الحديث موجود في كتب السنة , فوجوده لا يكفي حتى تعرف صلاحيته للاحتجاج , فكم من حديث مروي في كتب الحديث , معروف من رواه , ومن أخرجه , ولكنه عند أهل الحديث غير صالح للاحتجاج به من جهة سنده لا يكفي , بل لا بد أن يكون صالحاً للاحتجاج به من جهة المتن , أي من جهة دلالة الحديث على الحكم المطلوب , بأن يكون صريحاً في الدلالة.(26)

3- الترجيحي: إذ بعد أن يذكر آراء العلماء , ويذكر أدلتهم على المسألة , ثم يناقشها , ويعمل قواعد الترجيح المعروفة عند الأصوليين , يختار القول الراجح في المسألة.

من أمثلة ذلك ترجيحه جواز صلاة الظهر – مثلاً –خلف من يصلي العصر. فقال: ( والأرجح عندي هو الجواز أما أولا: فلأن الأصل في جميع الأشياء الجواز , ومن أدعى المنع فليأت بالدليل الصحيح الصريح الخالي عن المعارضة.

وأما ثانياً: ففي صلاة تعليم جبريل بالنبي- صلى الله عليه وسلم-  الخمس الصلوات في اليومين , في حين أن الملائكة لا تجب عليهم الصلوات الخمس, وإنما وجب على جبريل لوحده وجوب تعليم للنبي- صلى الله عليه وسلم- لا وجوب فرض يومي , والنبي- صلى الله عليه وسلم- الوجوب عليه وجوب فرض , واستدل الإمام الشافعي بهذا على جواز اختلاف نية الفرضين(27) كما أنه يرد كل ما لاتسنده السنة.

 ولما سئل عن حكم قول بعض الناس في سجود السهو , (سبحان الذي لا يسهوا ولا يسهى) , وهل له أصل في السنة؟ أجاب: هذا ليس له أصل في السنة النبوية , لا بسند صحيح ولا ضعيف , لا من قوله ولا من فعله- صلى الله عليه وسلم- ولا من تقريره.(28)

ورغم هذا المنهج الشاق الذي ينهجه , فإنه يعتمد منهج (أدب الخلاف) , فلا ينال من أحد أبداً , بل يوصف بالاعتدال والتوازن , وعدم التعصب للرأي , أو لوجهة النظر , وإذا خالفته قبل منك ذلك , ولم يغضب.

كما أنه لاينال من عالم قديم أو محدث , حتى لو وقف على رأي له يخالف الراجح عنده بشكل صريح , بل يجل العلماء ويحترمهم , وينزلهم منزلتهم , ويحبهم ويثني عليهم , ويوصي طلابه بحب العلماء والأئمة والمجتهدين, و يدعو إلى احترام مذاهب الأئمة.

أذكر أنه كان يدرسنا بكتاب من كتب الفقه المقارن القديمة , فمر على قول المؤلف: ( وهذا على عادة أبي حنيفة في تركه للآثار).

فغضب القاضي وقال: هذا كلام لايقبل في حق الإمام أبي حنيفة ا لنعمان- رحمه الله ورضي الله عنه - وأثنى على الإمام النعمان ثناءً عاطراً ... إلى أن قال: كان على المؤلف أن يقول: هذا الحديث لم يعمل به أبو حنيفة- رحمه الله- ربما لأنه لم يصله , أو وصله وضعفه , أو صححه وتأوله , أو اعتبره منسوخاً , هكذا يجب أن نتعامل مع أئمتنا الكبار كأبي حنيفة , إذ رفع الملام عن الأئمة الأعلام , واجب شرعي , وضرورة علمية منهجية.

أما الكتب التي كان يختارهاحتى تخدم هدفه المنهجي , فأولها كتب الحديث المشهورة , وفي مقدمة ذلك , البخاري ومسلم , والسنن الأربع. (29)

وأكثر كتب العلماء التي كان يدرسها القاضي , كتب الإمام الشوكاني , مثل(نيل الأوطار) و( الدراري المضية) و ( السيل الجرار) (30) كما درس كتاب (بداية المجتهد لابن رشد) مراراً , واهتم كثيراً بتدريس كتاب ( سبل السلام لابن الأمير الصنعاني).

وغيرها من الكتب التي تهتم بالفقه المقارن الاستدلالي الترجيحي , أي الكتب التي تركز على فقه الحديث.

يقول تلميذه الذي صاحبه طويلاً , الشيخ عبدالله ذيبان: (وهو يحب كثيراً تدريس كتب الحديث النبوي الشريف , وكتب الفقه لعلماء اليمن المستقلين). (31

*خاتمة*

إن اهتمام العمراني بفقه الحديث والعناية يه , من الأمور المعلومة والمعروفة في مدرسة هذا العلم , التي ترجع في أصولها إلى مدرسة ابن الوزير والشوكاني والمقبلي وابن الأمير الصنعاني.

كما أن أجداد العمراني توارثوا هذا المنهج , ومنهم العلامة المحدث محمد علي العمراني جد القاضي العمراني الذي اشتغل بعلم الحديث , وله شرح لسنن ابن ماجه.(32)

ومنهم عبد الرحمن بن محمد العمراني , القاضي الحافظ المحدث , المعتني بالصحيحين وكتب الحديث.(33)

وعناية قاضينا – محل البحث – بفقه الحديث , أثمرت آلآف الفتاوى والأوراق المكتوبة في هذا الأمر ,وجهود كبيرة في مجالات عدة لإيصال هذا الخير للمسلمين.

وفي الختام أوصي بما يأتي:

1- أن تجمع كل فتاوى العمراني في موسوعة تحت نظر أحد العلماء من طلابه , وتطبع وتوزع , وتكون في موقع (إلكتروني).

2- العناية بالتراث المكتوب للعمراني , وبالأخص المخطوط منه , وإني أعول هذا كثيراً على ولده الفاضل الدكتور عبد الغني العمراني,أن يقوم بهذا الجهد الطيب,والعمل العظيم.

3- تسجيل كل دروسه ومحاضراته , بالصوت والصورة , وأتمنى لو أن مؤسسة إعلامية تسجل له حلقات عن حياته ومذكراته,فهذا الأمر له فوائده التي يعود نفعها على الناس,فالرجل شاهد عصر,وصاحب ذاكرة حديدية.

4- ينبغي أن يكرم هذا العالم المحدث , الذي دخل عامه الثالث والتسعين , وما زال واقفاً شامخاً يؤدي واجبه العلمي  والإفتائي إلى الساعة , والأصل أن يكرم في بلده اليمن بأعلى وسام,وأرفع جائزة ,تقديراً لجهوده الكبيرة التي قام بها هذا العالم الجليل,في الجانب العلمي والافتائي,والجانب الاجتماعي,والجانب السياسي,وغير ذلك من الجوانب. كما على المؤسسات الإسلامية, التي تهتم بتكريم المبدعين والعلماء, أن يلتفتوا إلى تكريم هذا العالم الزاهد.

والحمد لله رب العالمين,,,

               

-       الهوامش والمراجع –

1-(نيل الأماني من فتاوى القاضي محمد بن إسماعيل  العمراني) (1/23)-جمع وترتيب وتخريج: عبد الله بن قاسم ذيبان – مكتبة الإرشاد –صنعاء- دار ابن حزم –بيروت –لبنان -1430ه -2009 – الطبعة الأولى.

2- إحدى المحافظات اليمنية , وعمران مدينة قديمة مشهورة من بلاد همدان , تقع شمال صنعاء بنحو خمسين كيلومتراً , (مجموع بلاد اليمن )(3/611) للقاضي محمد بن أحمد الحجر اليماني . تحقيق القاضي إسماعيل الأكوع. دار الحكمة اليمانية – صنعاء  الطبعة الثانية.

3-(قصص وحكايات من اليمن )يليها (مجموعة تراجم بيت العمراني) ص 137  جمعها وألف بينها الدكتور محمد عبد الرحمن  غنيم  توزيع مكتبة خالد بن الوليد –صنعاء دار الإيمان – إسكندرية.

4- (القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني – حياته العلمية والدعوة ) ص143 إعداد الدكتور عبد الرحمن الأغبري مكتبة الإرشاد –صنعاء الطبعة -1423ه-2002م.

5- (البدر الطالع) (2-210) الإمام محمد بن علي الشوكاني دار المعرفة – بيروت لبنان -  الطبعة الأولى 1348ه.

6- (الأعلام) (6/798) خير الدين الزر كلي–دار العلم للملايين –بيروت –لبنان – الطبعة السادسة -1984م (نيل الوطر من تراجم رجال اليمن والقرن الثالث عشر ) (2/289) المؤرخ محمد بن محمد زبارة –دار العودة –بيروت – لبنان.

7- (القاضي العلامة محمد بن إسماعيل العمراني )ص 165 د/ الأغبري.

8- (نيل الأماني 1_ص25-26 ) عبد الله ذيبان.

9- (القاضي العلامة) ص176 د/الأغبري.

10- (نيل الأماني )(1/33) عبد الله ذيبان.

11- (القاضي العلامة )ص215 د/الأغبري.

12- (نيل الأماني) 1/38 عبد الله ذيبان.

13- (علم أصول الحديث)ص5 للقاضي محمد بن علي بن يحيى بن علي الغرباني- الطبعة الأولى 2007م -1428ه بدون ذكر الدار.

14- ولد بن  الوزير سنة 775ه بهجرة الظهراوين  شظب ، هو أبو عبد الله محدث ،أشهر كتبة (العواصم   والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم- صلى الله عليه وسلم- توفي (840ه) (البدر الطالع في محاسن من بعد القرن السابع (2/91) - محمد بن علي الشوكاني.

15- الإمام محمد بن علي الشوكاني إمام مجتهد فقيه , ولد سنة 1173ه وتوفي سنة 1250ه , له مؤلفات كثيرة منها (نيل الأوطار) و(السيل الجرار) و(الدراري المضية) و(فتح القدير) و(الفتح الرباني) و(البدر الطالع). وغيرها كثير. انظر ترجمته لنفسه في ( البدر الطالع) (2/214ومابعدها).

16- انظر إجازة القاضي العمراني لجامع هذا البحث ص(4).

17- (مقدمة صحيح مسلم بشرح النووي)(1/9)- الإمام محيي الدين يحيى بن شرف النووي – تحقيق: خليل شيحا. دار المعرفة – بيروت – لبنان – 1994م.

18- (نيل الأماني)(1/36) – عبد الله ذيبان.

19- (القاضي العلامة)(249) – د/ الأغبري.

20-  (نيل الأماني)(1/37) – عبد الله ذيبان.

21- (القاضي العلامة) ص (251 – 252). د/ الأغبري.

22- (نيل الأماني) (1/37) – عبد الله ذيبان.

23- (مجلة الشقائق) ص(53) العدد 176 – رجب السنة الخامسة عشرة.

24- (نيل الأماني) (1/37) – عبد الله ذيبان.

25- (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم) ص(72) د/ يوسف القرضاوي – مؤسسة الرسالة – بيروت – الطبعة الثانية – 1992م.

26- (نيل الأماني) (1/311) – عبد الله ذيبان.

27- المرجع السابق (1/424) – عبد الله ذيبان.

28- المرجع السابق(1/445) – عبد الله ذيبان.

29- (غاية الأماني) (1/36) – عبد الله ذيبان.

30- (القاضي العلامة) ص(220).د/ الأغبري.

31- (غاية الأماني)(1/36) – عبد الله ذيبان.

32- (البدر الطالع)(2/210)للشوكاني. (قصص وحكايات من اليمن) ص(139). د/ محمد عبد الرحمن عثيم.

33- (نيل الوطر) (2/38) – محمد زبارة.