مجتمع الشريعة

د. محمد علي الهاشمي

مجتمع الشريعة

د. محمد علي الهاشمي

[email protected]

المجتمع المسلم الذي يبنيه الإسلام مجتمع متفرد لا يشبه المجتمعات التي عرفتها البشرية على مدار التاريخ، ذلك أنه مجتمع أحكمت صياغته شريعة الإسلام الخالدة التي أنزلها الله كاملة من أول يومٍ، إذ قال في محكم كتابه (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) (المائدة 3).

هذه الشريعة التي وضعها الله لعباده كاملة منذ نشأتها، هي التي أقامت هذا المجتمع على أسس أرادها الله لعباده، لا على أسس أرادها بعض العباد للعباد، وفي ظل هذه الشريعة قام هذا المجتمع، على النقيض مما حدث في الغرب من نشوء المجتمعات الغربية، نتيجة صراع بين الطبقات، واحتكاك بين علاقات الإنتاج وطرقه المتجددة، وصدام بين المصالح المتعارضة، أو الأفكار المتناقضة.

إن الشريعة الإسلامية هي التي صنعت المجتمع المسلم، وليس المجتمع المسلم هو الذي صنع الشريعة الإسلامية، وهي التي وضعت أسسه وسماته ومقوماته وقيمه وأعرافه، ولم تكن الشريعة مجرد استجابة للحاجات البشرية المطلوبة، كما هو الشأن في التشريعات الأرضية، وإنما كانت منهاجاً إلهياً للبشرية كلها، تناولت كل شيء في حياة الإنسان والمجتمع، وحددت علاقة الإنسان الذي يعيش في المجتمع بربه وبنفسه، وبأسرته، وبأقربائه وذوي رحمه، وبجيرانه، وبإخوانه وأصدقائه، وبأفراد مجتمعه قاطبة، ونظمت علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من حالة السلم وحالة الحرب.

ومن هنا جاء الفقه الإسلامي مشتملاً على العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والجهاد والمعاهدات والحلال والحرام والسنن والآداب، لم يدع شيئاً في حياة الإنسان والمجتمع الأنظمة بدءاً من أدب قضاء الحاجة للفرد وانتهاءً بإقامة الخلافة والإمامة العظمى.

ومن هنا جاء تفرد المجتمع المسلم وتميزه عن غيره من المجتمعات، ذلك أن صانعه ومنشئه وبانيه أدرى بما يصلح للبشر، من الفلاسفة والمفكرين وعلماء الاجتماع الذين يتصدون لوضع أسس المجتمعات البشرية.

وكلما تقادم الزمن، وارتفعت درجة المعرفة البشرية، اقترب الناس من تحقيق جوهر المثل والقيم والنظم التي سبق إليها المجتمع المسلم في ظل الشريعة الإسلامية.

فمهما جد في الحياة من حاجات، ودعت دواعي النمو والتطور إلى الاجتهاد في سن القوانين وإصدار التشريعات اللازمة لمواكبة الحياة المتجددة، فإن ذلك الاجتهاد يبقى مشدوداً إلى أصل ثابت، ومبادئ أساسية، أراد الله لها الدوام في المجتمع المسلم، ليبقى متفرداً متميزاً عن غيره من المجتمعات.

وبذلك تقوم الشريعة مقام السياج الواقي الذي يسمح لعوامل النمو والتجدد والتطور أن تفعل فعلها في المجتمع المسلم، ولكن داخل هذا السياج الواقي الذي يحفظ الأصالة ويصون التفرد ويحمي التميز ويقي من الذوبان.

قد يسأل سائل: هل من الخير أن يظل نمو المجتمع وتطوره مشدوداً إلى أصل ثابت، في حين تتجدد الكلمة الخطأ (تنتوع) = تتنوع) الحياة، وتتنوع مطالبها وعلاقاتها، وتحتاج إلى أنظمة وقوانين جديدة تلبي حاجة الحياة المتجددة المتطورة؟

الإجابة عن هذا السؤال تقتضي معرفة عميقة لذلك الأصل الثابت ومدى شموله لأصول الحياة الكبرى، كما تقتضي موازنات موضوعية دقيقة بين مبادئ ذلك الأصل الثابت التي أنشأت المجتمع المسلم، والمبادئ الأخرى التي أنشأت المجتمعات البشرية حتى اليوم، فإذا تبين أن المبادئ الإسلامية الثابتة موضوعة في أصلها للاستمرار وقابلية التجدد، وأنها لا تزال بعد خمسة عشر قرناً أفضل من سائر النظم التي عرفتها البشرية فإن الثبات عندئذٍ يكون ميزة وضماناً للتقدم المستمر، وعدم الانتكاس مع الأهواء، والجري وراء الشهوات وعصمةً من الانسياق وراء النزوات والانحرافات والضلالات، بحجة التطوير والتجديد.

إن هذه الموازنات الموضوعية الدقيقة المحكومة بالمنطق العلمي بين النظام الاجتماعي في المجتمع المسلم الحق وسائر النظم الاجتماعية الأخرى تضعنا أمام الحقيقة الكبرى، وهي أن ذلك الأصل الثابت للشريعة الإسلامية أكثر مرونة وطواعية وقابلية لتلبية حاجات التطور الجديد في حياة البشرية من كل النظم الجديدة التي وضعها البشر، والتي حين تقاس إلى مبادئ الإسلام الكلية تبدو متخلفة في عمومها، فيها كثير من التناقض والنقص والتعسف ومجافاة الفطرة السليمة.

إن الشريعة الإسلامية التي أنشأت المجتمع المسلم لترتكز على خصائص عدة تجعل المجتمع المسلم قابلاً للنمو والتطور والتجدد، وقادراً على تلبية مطالب البشرية المتجددة.

ومن أهم هذه الخصائص أنها جاءت:

- موافقة لأصول الفطرة البشرية ومقوماتها: لأنها من صنع الإله العارف بطبيعة خلقه وما يناسب هذه الطبيعة.

- جاءت في صورة مبادئ كلية عامة، تقبل التفريغ والتطبيق في الجزئيات المتجددة والأحوال المتغيرة، فالزكاة – على سبيل المثال – فريضة ثابتة محددة، ولكن وسائل جبايتها، وضبط حساباتها، وتوزيعها على مستحقيها، أمر قابل للتطوير والتجديد بما يلائم العصر الذي تجبى فيه ويحقق مصلحة الفقير.