الإخوان فوبيا !

حامد بن عبد الله العلي

الإخوان فوبيا !

حامد بن عبد الله العلي

( أحبُّ أن أصارحكم ، إنَّ دعوتكم لازالت مجهولة عند كثير من الناس ، ويوم يعرفونها ، ويدركون مراميها ، وأهدافها ، ستلقى منهم خصومة شديدة ، وعداوة قاسية ، وستجدون أمامكم الكثير من المشقّات ، وستعترضكم كثير من العقبات ،

 وفي هذا الوقت وحده تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات ، أما الآن فلازلتم مجهولين ، ولازلتم تمهّدون للدعوة ، وتستعدّون لما تتطلبه من كفاح ، وجهاد ، سيقف جهلة الشعب بحقيقة الإسلام ، عقبة في طريقكم ، وستجدون من أهل التدين ، ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام ، وينكر عليكم جهادكم في سبيله ، وسيحقد عليكم الرؤساء ، والزعماء ، وذوو الجاه و السلطان ،

 وستقف في وجهكم كلُّ الحكومات على السواء ، وستحاول كلُّ حكومة أن تحدّ من نشاطكم ، وأن تضع العراقيل في طريقكم ، وسيتذرَّع الغاصبون بكلّ طريق لمناهضتكم ، وإطفاء نور دعوتكم ، وسيستعينون من أجل ذلك بالحكومات الضعيفة ، والأخلاق الضعيفة ، والأيدي الممتدّة إليهم بالسؤال ، وعليكم بالإساءة ، والعدوان ،

ويثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات ، وظلم الاتهّامات ، وسيحاولون أن يلصقوا بكم كلّ نقيصة ، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة ، معتمدين على قوتهم وسلطانهم ، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم  ( يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره ، ولو كره الكافرون ) ،

 وستدخلون بذلك _ ولاشك _ في دور التجربة والامتحان ، فتسجنون ، وتعتقلون ، وتقتلون ، وتشرَّدون ، وتُصادر مصالحكم ، وتعطل أعمالكم ، وتفتش بيوتكم ، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان : ( أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ) ،

ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كلّه نصرة المجاهدين ، ومثوبة العاملين المحسنين ، ( يا أيها الذين آمنوا هل أدلُّكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ) ، ( فأيّدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين ) ، فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله ؟! ) ا.ه من كلام الإمام حسن البنا رحمه الله

القادة الكبار في هذه الحضارة الإسلامية العظيمة ، يغرس الله حقبة حياتهم بذرةً في تربة الأمّة ، ويتعاهدها بالسقي ، والرعاية ، حتى تؤتي ثمارها اليانعة بعد موتهم ، فتكون الثمار : شخصيات عظام ، ومؤسسات ناجحة ، وإنجازات بناءة .

كان والده أحمد بن عبد الرحمن البنا _ إلى جانبه إمامته في المسجد _ يقضي وقته بالنظر في الساعات ، إذ كان يعمل ( ساعاتيا ) ،

فكأنَّه كان يتأمل في الزمان ، باحثاً عن الساعة التي سيولد فيها من سيضيف إلى أمة الإسلام صرحا عظيما من صروح حضارتها ، يتألَّقُ ضياءً في سماء مجدها ، ويضوي نوراً في أفقِ عزِّتها .

ومن عجائب ارتباط الأسماء بالمعاني ، أن وُلد الطفل حسن البنا ، ليبني في الأمة بناءً حسنا !

وقد ولد ، ووالده العالم الورع التقي ، مكبَّا على التأليف في كتب الحديث ، إذ هو مؤلف الكتاب الجليل القدر ( الفتح الرباني في ترتيب مسند الإمام احمد الشيباني ) ،

فقد ولد في أجواء أسرة معطَّرة بعبق التراث الإسلامي ، بمحضن مشبَّعٍ بعبير التربية الإسلامية المحافظة .

ونشأ منذ صغره نشأة روحانية ، بأخلاق عالية ، وكان محبَّا للتعبد ، ولنشر الخير في الناس ، ثم انتقل من قريته إلى القاهرة في سن 16 ، والتحق بدار العلوم ، التي كانت تعطي دروسا في العلوم العصرية إلى جانب الشرعية .

وهناك التقى بالشيخ الإمام محبّ الدين الخطيب ، والعلامة محمد رشيد رضا ، رحمهما الله ، وهما إمامان عظيمان من أئمة الفكر السلفي ، الذي يدعو إلى إرجاع الأمة إلى نبعها الصافي الكتاب والسنة وبناء التربية عليهما ، وإلى التمسك بنهج أهل السنة و الجماعة ، قلعة الإسلام الحامية ، وسيفه الذائد عن حياضه عبر التاريخ ، وعلى هذا بنى البنا الدستور الفكري لمشروعه أعني كتاب : الأصول العشرين ، بناه على هذا النهج الوافي ، والمنهل الصافي .

ثم انتقل إلى الإسماعيلية بعد التخرُّج ، ليعمل معلما ، في عام 1346ه  1927م ، وليكتب الله له هنا ، أن يتحوَّل من معلم في مدرسةِ مدينة صغيرة ، إلى معلِّم كبير في مدرسة الأمة المحمدية صلى الله على صاحبها ، وسلّم تسليماً كثيراً ،

 ثمّ ليؤسس صرح : ( الإخوان المسلمون ) .

وقد تميز بخمسةٍ في مؤهلاته القيادية أسرعت بنجاح مشروعه في انطلاقته الأولى في الإسماعيلية وما حولها : الإخلاص _ إن شاء الله _ والعاطفة الدينية القوية ، والصادقة ، والقرب من الناس والتبسُّط إليهم بغير تكلُّف مما أعطاه جماهيرية واسعة ، وعبقرية التنظيم لاسيما استثمار الإمكانات أفضل استثمار ، واغتنام الفرص ، وأنه خطيبٌ مفوّهٌ ، وكاتبٌ حاذقٌ ، ومتحدِّثٌ لبق .

ثم انتقل إلى القاهرة ، فأكمل البنَّا هناك البناء ، ونشر الضياء ، حتى طاول النجوم ، وبلغ عنان السماء ،

 ثم لم يلبث مشروعه حتى انتشر انتشار النار في الهشيم ، فأصبح أكبر مدرسة حركية إسلامية في العصر الحديث ، وأبرز المعالم السياسية في مصر ، إلى يومنا هذا.

ثم أعطاه الله خير نهاية يتمناها القادة المخلصون ، فبعد أن شارك الإخوان المسلمون في الحرب ضد الصهاينة عام 48 بعام ، ولوحظ استبسال الإخوان في الجهاد ، اغتالت يد الغدر الإمام حسن البنا رحمه الله ، فنجح في أن يضع على مشروعه ختم الشهادة ، ختم النجاح الأكبر .

ولو علم الذين اغتالوه أنّ لحظة استشهاده في شارع رمسيس بالقاهرة ، قد أضاءت ملايين الأنوار في قلوب الملايين ، وأشعلت ملايين الشُّعَل في أرواح الملايين ، لو علموا لقطعوا أيديهم قبل أن يطلقوا عليه تلك الرصاصة !

لم يكن الإمام حسن البنا قائدا عاديا ، فالقادة العاديُّون لا يتركون وراءهم كلّ هذا الدويّ ! ولا يخلفون آثارا بهذا الحجم الهائل في التأثير في الناس ، والفكر ، والسياسة ، والتاريخ !

لقد كان قائدا فذا ، عبقريا ، نابغة ، ولئن سألت عن سرّ الأسرار في نجاحه الأسطوري !

فهو أنه نجح في تنظيم الفكر الإسلامي بحيث :

1 يرمم المسافة بين قداسة التراث ، والضرورة الملحّة للمعاصرة.

 2 ويسدُّ الثغرة بين مثالية مبادىء الدعوة ، وضغوط الحاجة للواقعية .

 3 ويوازن بين متطلبات المشروع ، وتحقيقه أهدافه ، وبين حمايته _ رغم التضحيات _ من أن يقضي عليه أعداؤه ، وما أكثرهم !

وأيضا نجاحه في تنظيم الحراك الدعوي بحيث :

1 يبقى الترابط قويا بين القيادة ذات الكفاءة العالية ، وقاعدتها ذات الثقة الكبيرة بالقيادة ، بروح الجندية الإسلامية المطيعة المخلصة .

2 وتبقى الروح الثورية ، وإرادة التغيير ، محمية من أن تنطفئ جذوتها في النظام الداخلي ، رغم تطاول المراحل .

3 ويبقى زخم الفكرة الجوهرية للمشروع ، أعني شموليته التي تؤهله للإضطلاع بآلة الدولة _ حين التمكين _ وبتفوّق على كلّ المشاريع الأخرى المنافسة ، يبقى هذا الزخم في أوج تألّقه ، رغم طول الزمن ، وتوالي المحن .

ذاك النجاح الباهر السابق لعصره ، في تنظيم الفكر ، وهذا النجاح المبدع في تنظيم الحراك ، في تلك الحقبة المليئة بالظلمة في حياة أمّتنا ، وذلك الزمن المبكر جداً شديد المجاعة لمشاريع التغيير الجماهيرية ، وعندما كانت الأمة بأمسّ الحاجة إليه .

هو السرّ الأكبر للنجاح العالمي ، ثم الدويّ الذي خلفه الإمام حسن البنا بعد استشهاده رحمه الله رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته .

ونعم .. إنما هذا كلُّه حديث عن الإمام الشهيد المؤسّس نفسه ، عن النشأة الصافية لمشروعه ، وعن الانطلاقة الصادقة ، وعن أولئك الروَّاد المخلصين الأوائل الذين كانوا معه ، وتلاميذه .

وأما تجارب (الإخوان المسلمون) فيما بعد ، في بلادهم التي حاولوا فيها تحقيق أهداف المشروع ، فقد نجحوا ، وفشلوا ، وأصابوا ، وأخطأوا ، ووفَّوْا ، وقصروُا ، إذ هم جزءٌ من هذه الأمّة ، ومن فيها لم يخطىء !

 أليست أمة من البشر ، فقد كُتب عليهم ، ما كُتب على غيرهم من الجماعات ، والأحزاب ، والطوائف ، والأشخاص ، مما عُجن في خلقة البشر ، من الذنوب ، والخطايا ، والمعايب ، والرزايا .

 وحقا إن شاء الله _ أقولها والله ولستُ منهم _ ما من شيءٍ يُعاب على الإخوان ، إلاّ ويجد المنصف مثله ، أو أكثر منه في غيرهم _ إلاّ من لا يعمل ! _ : من التقصير ، والخطأ ، وغلبة الشهوة في القرارات على الشرع ، والعقل أحيانا ، واشتعال الحسد ، واستحواذ الشحّ على النفوس ، والرغبة في السلطة لذاتها ، وإقصاء الآخر أحيانا بانتهاك حقوقه ، وحرماته ، والصراع على المكاسب ، وارتكاب ما يُتوصَّل به إليها حتى من المحرمات ..إلخ

غير أنهم يبقون هم ( مدرسة المدارس ) ، و( أمُّ الجماعات ) ، والراية الكبرى ، إذا ذُكرت مدارس الحراك الإسلامي لاسترجاع مجد الأمّة إلى سابق عهده ، بإعادة وحدتها ، وخلافتها .

ففضلهم الكبير على الأمة لا ينكره إلاّ جاهل ، وإنجازاتهم الرائعة لا يعمى عنها إلاّ حاقد ، وتضحياتهم العظيمة لا يجحدها إلاّ من طمس الله على بصيرته .

هذا .. وقد استيقظنا _ هذه الأيام _ فجأة بعد أن ( صدَّعوا رؤوسنا) ، بما أسموْه ( الحرب على الإرهاب ) !

 استيقظنا على حربٍ جديدةٍ على (الإخوان) هذه المرَّة ! فأُطلقت عملية ( الإخوان فوبيا ) ! ، ثم نفض الخائفون من رياح الربيع العربي ، الغبارَ عن ( مومياءاتهم ) المحفوظة في ( متحف العمالة ) !

 ثم حرَّكوها لحرقها في مشروع إعلامي جديد ل ( شيطنة الإخوان ) ! إحياءً لنفس الخطة المشؤومة القديمة التي تقضي : بأنَّ خير وسيلة لإجهاض أيَّ حركة إسلامية تنشد تغيير واقع الأمة ، هي أن تسلط عليها ( اللحى المستأجرة ) الجاهزة دائما لتسخَّر لتكريس تخلُّف الأمة !

ولا ريب أنّ السبب ليس هو لأنهم ( إخوان ) ، فقد كانوا _ إلى عهد قريب _ يصفونهم بالإعتدال ! وربما يسلمونهم مشاريع : ( مكافحة التطرُّف ) !

 بل السبب الحقيقي أنهم إسلاميُّون ، اقتربوا من الوصول للنجاح ، أو استثمار نجاح ، لإحداث تغيير جذري في واقع الأمّة المرير ، في رياح الربيع العربي المبارك .

ولو كان غير ( الإخوان ) أوفر حظا منهم في الوصول لهذا لدارت دائرة الحرب إليهم ، ودُقت طبولهُا عليهم !

ومع أنَّ مشروع ( الإخوان فوبيا ) محكوم عليه بالفشل إذ نحن اليوم في حقبة من التاريخ مكتوب على جبينها : ( إرادة الشعوب لا يمكن قهرها ، وصوتها لا يمكن حجبه ) ، وبالتالي فتجربة الإخوان متروكٌ الحكم عليها إلى الشعوب نفسها !

والإخوان يعون هذا الحكمة حقَّ الوعي ، لأنهّم في لحُمة مشروع الربيع العربي أصلا ، ثقافةً ، وممارسةً .

غير أنَّ حملة : (الإخوان فوبيا ) ، ستأخذ مداها ، وستبلغ أقصاها ، وستقوم لاسيما دول الخليج بتأجير كثير من اللحى ! في هذه الحملة الغبيّة ، حرباً على التغيير ، لا على (الإخوان) ، وإجهاضا لمشاريع الإصلاح لا حفاظا على مكتسبات الأمة ، وأيُّ مكتسبات _ ليت شعري _ نالتها أمّتنا في ظلّ هذه الأنظمة المتخلّفة ؟!

وبعد :

فالواجب الأهمُّ على الإسلاميين فيما يأتي :

إدراكاً خطورة المرحلة ، وإخلاصاً لمشروعهم الحضاري الذي يجمعهم وهو إنقاذ الأمة مما هي فيه من بؤس ، منذ قرن من الزمان !

أن يتساموْا عن خلافات الماضي ، وأن يتصدَّوْا جميعاً لكلِّ حملة تستهدف أيَّ حركة مخلصة تبتغي التغيير في الأمة !

بأن ينتقلوا من ( أودية الجماعات المتنافسة ) ، إلى (أفق سماء الأمة الرحب) الذي عنوانه : أمة متجدّدة يشترك في تجديدها كلُّ المخلصين من جماعات ، وأفراد ، منتمين ، ومستقلين .

وبأن يلتقوا على المشترك الذي يشاركهم فيه جسد الأمّة كلُّه ، حتى من غير الإسلاميين ، وهي ثلاثة قواسم :

1 تحرير إرادة الشعوب من طغيان الأنظمة المستبدّة ، ومن تحكم الخارج ، بإقامة أنظمة متطوّرة ، السلطة فيها للشعوب ، لإقامة العدالة ، وحفظ الحقوق ، واحترام الكرامة .

2 حفظ هويّة الأمة من التخريب .

3 بعث رسالتها الحضارية العالمية .

وأنه بدون رفع هذه الراية ، والإلتفاف عليها ، والدفاع عنها ، إغتناما لهذه الرياح المباركة التي أرسلها الله تعالى بالربيع العربي ، فسوف تنجح أنظمة التخلُّف ، ومافيا الفساد ، وأذناب العمالة ، وتجار التزييف الديني ، في تحويل الربيع العربي إلى أقسى شتاء عاصف مرّ على أمّتنا .

وإذا رأينا زلات المخلصين ، وأخطاء المصلحين ، لنتذكر من القديم : قول مؤرخ إسلامنا الأعظم الإمام الذهبي عند ترجمة باني مدينة الزهراء بالأندلس الملك عبد الرحمن بن محمد : ( وإذا كان الرأس عالي الهمة في الجهاد ، احتملت له هنات ، وحسابه على الله ، أما إذا أمات الجهاد ، وظلم العباد ، وللخزائن أباد ، فإنَّ ربك لبالمرصاد ) سير اعلام النبلاء 14 / 564

ومن الجديد : قول العلامة طاهر الجزائري : ( عدوا رجالكم ، واغفروا لهم بعض زلاتهم ، وعضوا عليهم بالنواجذ ، لتستفيد الأمة منهم ، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم ) كنوز الأجداد ص 1338ه

والله الموفق ، وهو حسبنا عليه توكلنا ، وعليه فليتوكَّل المتوكلون .