الجزء الثامن من يوميات بلا أسرار في المخيمات

والتقيا في خيمة

الجزء الثامن

من يوميات بلا أسرار في المخيمات

نسيبة بحرو

والتقيا في خيمة بعد ثلاثين عاماً من الفراق أو يزيد .. الحاج يحيى بحرو والحاج علي دندش ، رفقاء الدرب اللذان عاشا أيام الشباب بنبض واحد وفوق أرض واحدة تمهدت بخطواتهما المتجاورة أو المتسابقة ذهاباً واياباً ، وحدائق أمضيا في ظلالها الساعات ما بين دراسة ولعب وحديث واعد عن أحلام الغد ، أو مساجد شهدت الصلاة والذكر والتكبير وشدت وثاق المحبة في الله ما بين القلبين ..

 خاضا سوية فوق رحابها تجارب الحياة وتقاسما معاً الأفراح والأحزان .. فكانا نعم الرفيقين المتلازمين إلى أن تجاوزا الثلاثين من العمر، ففرق بينهما حافظ الأسد في الثمانينيات حين قتل أبناء الشعب السوري وهجرهم ، فكان الحاج يحيى أحد المهاجرين عنوة عن الوطن ليذوق آلام الغربة والتهجير، بينما بقي الحاج علي في وطنه المسلوب ليذوق آلام الظلم المرير ..

ومضت الأيام .. وعام تلو العام ، حتى ثلاثين عام دون أن يتمكن الحاج يحيى من العودة الى الوطن ، أو الحاج علي من السفر اليه وزيارته.. وغدت تلك الأيام كصفحات تقلبها الذاكرة حين يحن الشوق لرؤية الرفيق ..

ثم انطلقت الثورة السورية فأعاد بشار الأسد مجازر أبيه وأجرم في الشعب بالقتل والتنكيل مما أجبر الحاج علي هذه المرة على الهجرة إلى المخيمات التركية ولكن على فراش العجز والشلل بعد أن تمكنت آلام السنوات منه .. وحين وصل الخبر إلى الحاج يحيى دفعه الشوق للسفر إلى المخيمات ، وفي تلك الخيمة الصغيرة وبعيداً عن الوطن ، كان لقاء الرفيقين المهجرين ..

دخل الحاج يحيى إلى الخيمة ووجد الرفيق القوي بالأمس متمدداً اليوم دون حراك .. ذكره بنفسه قائلاً : أنا يحيى بحرو ، أبو عبدو .  فنظر الحاج علي اليه لبرهة ثم ظهر التأثر على وجهه وبدأ بالبكاء عوضاً عن الكلام الذي لم يعد قادراً عليه .. وفي لحظة تعجز الكلمات عن تجسيدها ألقى الحاج يحيى بنفسه عليه معانقاً ومقبلاً ، ونظر الى وجهه المريض ودموعه تسبق آهاته وكلماته : آه يا دنيا ، سلامتك يا علي سلامتك .. سلامتك يا خاي .

جلس جواره ممسكاً يده ، يهز رأسه يميناً ويساراً ولا يكاد يصدق أن هذا حال رفيقه الذي عرف بالقوة والبأس .. ثم مسح بمنديله وجه رفيقه الباكي المبتسم وهو يخاطبه : آه يا علي دندش آه .

وبدأ بالحديث معه وتذكيره بقصص الماضي وبطولاته وشجاعته حين هاجم بمطيته عشرة ممن تعرضوا له وكيف كان جسوراً قوياً في أيام الشباب .. حاول الحاج علي التعقيب ومجاراته في الحديث فما نتج عن محاولاته سوى شفاه متحركة بلا كلمات ، وآه ممتدة لا تنتهي .. فاكتفى بمتابعته بعين ممتنة ومتأثره غلبتها الدموع التي سرعان ما تحولت الى ضحكات حين أمسك الحاج يحيى بيده ورفعها ليلعب معه ممازحاً لعبة المكاسرة كما كانا يفعلان في الأيام الخوالي ..

ولا يزال الحاج يحيى غير مصدق أنه التقى رفيقه من جديد ولكن في حال ومكان يختلفان تماماً عن الحال والمكان اللذان عرفه بهما ، يمعن في وجه رفيقه ويمسح عليه بيد الحنان وبصوت متهدج يقول : يا ربي دخيلك ، لا اله الا الله ، الحمد لله .

هذا نموذج مصغر من مأساة الشعب السوري على مدى أعوام .. فالنظام الأسدي سرق من الحاج علي رفيقه ثم صحته فوطنه .. وحرم الحاج يحيى من حقه في أن يمضي أيامه مع رفاقه ويكمل دربه فوق تراب الوطن ، حتى أنه بزيارته للمخيمات التركية أصبح قاب قوسين من مسقط رأسه ولا يمكنه رؤيته والعودة اليه ..

إن هذه القصة بما تحمله من ألم هي قصة بين رفيقين ، فكيف بالأب الذي أبعدته المعتقلات عن أسرته أعوام ثم عاد اليها مسناً ليرى الأبناء بعمر الشباب فلا يعرفهم ، أو لا يراهم لأنهم يمضون شبابهم حيث أمضى !! وكيف بالأم التي أفنت شبابها في رعاية وليدها والحرص عليه من أن يصيبه أي عارض صحي أو أذى حتى كبر بصحة وعافية واشتد بأسه ، فاعتقله المجرمون وأهلكوه ضرباً وتعذيباً ثم أعادوه اليها مريضاً عاجزاً لتعتني به في شبابه عوضاً عن أن يعتني بها في شيخوختها ، ومثل هذه القصص هناك الكثير ..

عندما التقيت عمي يحيى وسألته عن مشاعره لحظة اللقاء ، أجابني بالصمت وانهمرت الدموع من عينيه بغزارة ، فكان ذلك الجواب الكافي لكل سؤال ..