عن الطائفيّة و"الضابط السنّي الطرطور" 1

عن الطائفيّة و"الضابط السنّي الطرطور"؟! ج 1/2

د. حمزة رستناوي

[email protected]

(1)

السلطة السورية تقوم على نظام ولاءات من أهمّها ولاء لشخص الزعيم " الأسد الأب و الأسد  الابن", و ولاء للأسرة الحاكمة و ولاء طائفي, و لدرجات أقل مناطقي و عشائري , بالإضافة لولاء مصالح اقتصادية تقوم أساسا على الفساد.

(2)

 يوجد توزيع غير متوازن و غير متناسب خاصة في المؤسسة الأمنية و العسكرية بين مكونات الشعب السوري من منظور عقائدي فئوي. حيث يشغل الضباط المنتسبون إلى الطائفة العلوية معظم المناصب الحساسة و الوازنة في أجهزة الاستخبارات و الحرس الجمهوري و الجيش النظامي.

يمكن في هذا السياق الوقوف على ظاهرة سرايا الدفاع (ميليشيا ذات مكوّن طائفي) بقيادة رفعت الاسد الأخ الشقيق لحافظ , و كذلك التذكير أسماء الجنرالات الذين لعبوا دورا محوريا في أحداث  حرب الأخوين "رفعت و حافظ" و تحكّموا في القرار الأمني العسكري في بداية الثمانينات: علي حيدر- شفيق فياض- إبراهيم الصافي- علي دوبا- محمد الخولي- محمد ناصيف..الخ

و قد اعتمد بشار الاسد في قمعه للانتفاضة الشعبية الأخيرة على قادة أمنيين و عسكريين يوالون و ذي قربة بالأسرة الحاكمة من الفئوية العلوية غالبا.

بالطبع وُجد ضبّاط من الفئويات الأخرى و الفئوية العلوية أيضا تولّوا مناسب قيادية كمصطفى طلاس (وزير الدفاع السابق) و حكمت الشهابي (رئيس الاركان السابق) و داوود راجحة (وزير الدفاع الحالي) و جاسم الفريج ( رئيس الاركان الحالي) ..الخ و لكن من دون صلاحيات و سلطة وازنة  على الأرض.

و هذا ليس بالأمر الجديد , فعقب انتصار الضباط البعثيين عن شركائهم الناصرين في انقلاب آذار 1963 ,أمسك بزمام السلطة الفعلية في سوريا ثلاث جنرالات ينتمون للفئوية العلوية (محمد عمران- صلاح جديد- حافظ أسد) جرى بينهم صراع مفتوح على السلطة, انتهى بانتصار حافظ أسد و استلامه زمام الحكم 1970 فيما عرف آنذاك باسم ( الحركة التصحيحية) و في مسار متوازي من الملاحظ أن منصب رئيس الجمهورية تناوب عليه في ذات الفترة الزمنية (1963-1971) ثلاثة رؤساء هم أمين الحافظ – نور الدين الأتاسي – أحمد الخطيب و هؤلاء جميعا ينتمون إلى الفئوية السنّية و لم يكونوا أكثر من زعامات صورية .

(3)

الممارسات الأكثر قسوة تجاه المعارضين السياسيين والمدنيين و القمع الأكثر وحشيّة سواء  في مجزرة حماة 1982 أو مجزرة تدمر  1980 وفي أقبية التعذيب أو خلال قمع الانتفاضة الشعبية الأخيرة  كانت مختلطة بدوافع ثأر طائفية ضد الفئوية السنّة.

إن الممارسات الوحشية من قبيل: اعتقال الجرحى و تعذيبهم الإجهاض عليهم أو خطف الجثث و التمثيل بها و التفنن السادي بطرق التعذيب و اغتصاب الرجال و النساء , و قنص النساء و الأطفال و حرق الاحياء  كلّها ممارسات تم توثيقها منسوبة للسلطة السورية و أجهزتها الرسمية و ميليشاتها شبه الرسمية (الشبّيحة)  , هذه الممارسات – من وجهة نظر علم النفس الجنائي-  تعكس دوافع تسود في بنى ما قبل الدولة كالبُنى الطائفية العرقية القبلية..الخ. حيث يتجاوز العنف هنا كونه وسيلة لفرض سلطة القانون أو سلطة الدولة .

سأثبت كعيّنات على السلوك الطائفي لمنتسبي الأجهزة الأمنية للنظام السوري شريطي فيديو مع الاعتذار مسبقا للقارئ عن اللغة الشتمائية  المستخدمة في محتوى الشريطين و لكن ارتأينا عرضها كما هي لكون حلّ أي مشكلة يقتضي الاعتراف بها دون تجميل أو مجاملة :

الشريط  الأول في  دير الزور :

يصرّح فيه عناصر في المؤسسة العسكرية / الأمنية الرسمية بالدوافع الطائفية لعملية القتل و التمثيل بجثة معارض مسلّح , حيث نجد شتائم ذات طبيعة عقائديّة طائفية  إضافة إلى تأليه بشار الأسد ".

و رابط الشريط هو :

">

لاحظ  قولهم :" بشار الأسد ربكم يا حرصا- بشار الأسد و بس , و علي بن أبي طالب- و الله محيو الطائفة كلها"

الشريط الثاني في حماة:

يطلق فيه أفراد في المؤسسة الأمنية في حماة النار بشكل احتفالي مع شتائم ذات طبيعة  طائفية - يعرفها السوريين ضمنا - تُقرن مدينة حماة بالفئوية السنّية و تقرن اللاذقية و الساحل بالفئوية العلوية, و من الملاحظ  أن الشتائم تشمل مدينة بأكملها و لا تختصْ بحزب أو جماعة سياسية متمرّدة على السلطة.

و رابط الشريط هو :

http://www.youtube.com/watch?feature=player_embedded&v=kT0hAPl2p6E

لاحظ قولهم :" نايكين أخت حماة- نايكين أخت حماة -الله و بشار الأسد- نكنا حماة – كس أخت حماة- شباب اللاذقية ضيعة الجندارية.- حي شباب اللاذقية واحد واحد- شباب الأمن السياسي ."

من الملاحظ أنّ هكذا ممارسات شائعة و متواترة و مستقرّة في الذاكرة الجمعيّة للسوريين  و ليست الاستثناء و لم يخضع أيّا من المتورّطين فيها إلى مساءلة قانونيّة , لدرجة أن من يصوّرها و يوثّقها هم المتورّطين أنفسهم دون أدنى  إحساس بالخوف من أيّة مساءلة .

(4)

في سوريا لا يرتدي رجال الأمن أي زي خاص بهم , فقط يعرفهم الشعب السوري من المسدس الذي يبرزونه على خصرهم و كذلك غالبا ً من خلال (اللهجة العلوية) و طريقة التحدّث الفوقية مع مواطنيهم السوريين. حيث جرى تسويق لهجة جزء من الشعب السوري كرمز لسلطة القهر و الاستبداد, حتّى أن معظم المنتسبين  إلى الأجهزة الأمنية من فئويات أخرى يستعيرون و يلوّنون كلامهم بمفردات و طريقة نبر اللهجة العلوية في تماهي مع الأقوى , و أذكر هنا قصة عايشها كاتب السطور أثناء سنوات دراسة الطب في حلب , حيث كنّا نجد صعوبة في الحصول على الخبز من الفرن القريب في حي صلاح الدين و كان أحد الزملاء يمتلك موهبة   تقليد اللهجات  فكان ينتحل صفة رجل أمن للحصول على الخبز بدون الوقوف في الطابور.

 فمن الظلم - بحق الفئوية العقائدية العلويّة قبل غيرها - أن تسوّق لهجة أي فئة من السوريين بهذه الطريقة الغير لائقة و أن تقترن في صورتها النمطية بالاستبداد و ممارسة  القهر على السوريين.

(5)

في الوعي الاجتماعي الشعبي كما خبره و عايشه كاتب السطور هناك شعور نفسي مسيطر لدى المواطنين من الفئوية السنية بالاضطهاد خاصة في / من قبل: المؤسسات العسكرية و الأمنية و بقية مؤسسات الدولة بدرجات أقل  , يُعبَّرْ عنها بعبارة أكثر من شهيرة ضمن هذه الأوساط, حيث يتم وسم الضباط المنتمين للفئوية السنية " ضابط سنّي طرطور" و كلمة طرطور ذات دلالة تحقيريَّة تعنى بلا قيمة,  بينما يتم وسم الضباط المنتمين إلى الفئوية العلوية بأنّهم ضباط ذوي نفوذ و أقوياء, مثلا عندما يحتاج المنتسبون  إلى الخدمة الإلزامية في الجيش إلى توصية أو تذكية من نوع ما , أو عندما يقعون بورطة فمن المعتاد أن يتم دفع رشاوى مالية أو بصيغة هدايا لضبّاط – غالباً من الفئوية العلوية-  أمن أو ضباط في القصر الجمهوري و يستخدم السكان المحليون في حلب- ادلب- حماة – حمص تعبير:" ضبّاط  من مغرّبْ " كناية على الانتماء الفئوي للطائفة العلوية حيث أن أماكن سكن العلويين تقع إلى الغرب منهم.

و كذلك من الشائع في سلوك الأجهزة الأمنية و في المؤسسة العسكرية تحقير الرموز الدينية و المقدّسات خاصة لهؤلاء المنتمين إلى الفئوية السنّية, حيث أن البذاءة اللغوية و شتم الذات الالهية و النبي محمد و تمجيد و تأليه الأسد سلوك اعتيادي في هذه الأوساط .

و كعيّنة على ما ذكرت سأثبت مقطع فيديو يصوّر منتسبين للمؤسسة العسكرية / الامنية يستهزئون بطقس الصلاة و يدنّسون حرمة أماكن عبادة لمسلمين من الفئوية السنّية في مدينة الرستن , و يستهزؤون بالصلاة و يمكن الاستدلال على الانتماء الفئوي لهم من خلال( اللهجة العلوية) المستخدمة.

و رابط الشريط هو:

">

و نفس الملاحظة السابقة حول الشريط المصوّر في مدينة حماة , نلاحظ تضمين الدعاء الساخر شتائم موجّهة إلى أهالي الرستن لاحظ قوله "..ثمّ  ننيك أهالي الرستن جميعاً " و من الصعوبة بمكان تبرير هكذا سلوكيات بكونها تجاوزات من قبل حالات فردية لعدة أسباب:

أوّلاً:تواترها في كامل الجغرافيا السورية و على مدى عام كامل.

 ثانيا:عدم الاعتذار أو الاعتراف الرسمي بها,وعدم مساءلة المشاركين بها و المسئولين عنهم .

ثالثاً:غياب أي شعور نفسي بالخوف من هكذا سلوك و هاجس المساءلة عنها حيث أنّ الذين يوثّقونها هم المتورطين بها أنفسهم.

و نعود للسياق السابق:

إنّ هذا الشعور النفسي بالاضطهاد و التمييز ضدّ المسلمين من الفئوية السنّية سيلعب دورا هاما في تأجيج الانتفاضة الشعبية الأخيرة ضد السلطة الاستبدادية , و هو  يفسر كون جغرافيا و مجتمعات الفئوية السنّية هي الحاضنة الأساس لها .

(6)

 في الوعي الاجتماعي الشعبي كما خبره و عايشه كاتب السطور هناك شعور نفسي مسيطر لدى شرائح من الفئوية العلوية بأن السلطة السورية تمثّلهم و أنها "سلطتنا" بصيغة الملكية , حيث يجري النظر إلى أحداث حماة على أنها انتصار لنا – نحن العلويون- على أنتم "السنّة أو على الأخص الحمويون " يوجد الكثير من  العبارات و الشتائم النابية لتوصيف أحداث " مجزرة " حماة ليس بكونها  فرض لسلطة الدولة على متمرّدين أو صراع سياسي بل على أنه ذو صراع ذو بعد اجتماعي - عقائدي.و في هذا السياق يجري استخدام كلمة أخوان مسلمين في هذه الأوساط ليس لتوصيف تنظيم سياسي معين له انتشار ضمن الفئوية السنية بل لتوصيف الفئوية السنية على المجمل و الإطلاق ,  و قريب منه جرى استخدام توصيف "عرعور و عَرْعُوْرَة" لتوصيف كل معارض للسلطة و لو كان غير متدين أو علماني.

(7)

في مجريات "الثورة السورية 2011" يحظى النظام الاستبدادي بتأييد كبير  ضمن الفئوية العلوية مقارنة بباقي الفئويات عداك عن الفئوية السنية.

فوفق دراسة أعدّها مركز الشام للدراسات الديمقراطية و حقوق الإنسان داخل سوريا بعنوان" الاستقطاب الطائفي في سوريا:توزيع الطوائف حسب دعمها للثورة أو النظام" موقع كلنا شركاء" و شملت الشريحة كل المحافظات السورية و في الفترة مابين الأول من تموز حتى 25 تموز لعام 2011 أي قبل اشتداد حملة القمع الدامي بعد رمضان

كانت نسبة المؤيدين للنظام 84% في الطائفة العلوية مقابل 10% في الطائفة السنّية , و هذا التأييد معروف لكل من يعيش في الداخل السوري فكلمة الأحياء و القرى الموالية للسلطة هي تسمية مرادفة للأحياء ذات الغالبية العلوية. و الأحياء والقرى المعارضة هي تسمية مرادفة للأحياء ذات الغالبية السنّية في المناطق الساخنة , و يحضرني هنا هاجس غير مريح و غير مطمأن  فوفقاً  للخبرة الشخصية لكاتب هذه السطور لم أجد في الوسط الاجتماعي الذي أعيش فيه للأسف أي فرد من الفئوية العلوية - حتّى ضمن غير السوريين من الأتراك – غير مؤيّد النظام السوري أو حتّى يتعاطف مع ضحايا النظام الاستبدادي السوري الجاري الآن أو السابق في الثمانينات , و يتراوح موقفهم بين الانكار أو التبرير بكون الضحايا مجرّد إرهابيين ؟! و طبعا النسبة تختلف مع شريحة الذين أتواصل معهم في الفيسبوك و الفضاء الافتراضي كون معظمهم من المثقّفين و ممتهني العمل في الشأن العام , أيّا كان فمن الخطأ التعميم و النظر إلى البشر على أنّهم جزء من طائفة فقط , و هو نسبة التأييد الكبيرة هذه هي صيرورة متحرّكة مع الزمن قابلة للتحوّل.

بالتأكيد يوجد العديد من التفسيرات الموضوعية لزيادة نسبة التأييد - ضمن الفئوية العلوية - للسلطة الاستبدادية منها : مخاوف تتعلّق بالانتقام منهم من قبل أفراد أو جماعات سنّية متطرفة - المحافظة على امتيازات و مكاسب سلطويّة .. أو ما يظّنه البعض كذلك - الثقافة المنغلقة و استحضار التاريخ بشكل سلبي - ضعف الثقافة الديمقراطية - قمع السلطة السورية لأي حراك وطني معارض ضمنها و افتعال الفتنة الطائفية  - كرد فعل على خطاب طائفي عند الفئوية السنّة أيضا - أخطاء و تجاوزات قام بها أفراد من الفئوية السنّية ..الخ.

و لكن تبقى هذه تفسيرات للموقف و ليست تبريرات , فلا يوجد مبرّر أو عذر مخفّف لأي فرد أن يكون نصير سلطة ظالمة و مستبدّة و فاسدة.

 قد يكون من المنطقي بل و المطلوب الاعتراض على الظواهر السلبية التي شابت الانتفاضة الشعبية و تقويم المعارضة السياسية للسلطة السوريّة , و قد يجد المرء نفسه في موقف غائم أو حتى سلبي تجاه الانتفاضة و المعارضة , و لكن ليس في موقف مؤيّد لسلطة استبداديّة فاسدة أو محرّض على قتل أبناء وطنه من السوريين!

بالتأكيد التعميم موقف خاطئ و الاصل هو المسؤولية الفردية للأفراد , و لكن السياق هنا هو رصد تأثير البعد العقائدي للكينونة الاجتماعي في الموقف السياسي ,

ففي المشهد السوري يحظى الانتماء الفئوي العقائدي للأفراد و الجماعات بتأثير كبير على الموقف السياسي تجاه ما يحدث , و هذا لا يخصّ الفئوية العلوية وحدها بل هو موجود عند الفئوية السنّية و غيرها من الفئويات العقائدية.

و أي انكار لهذا التأثير تحت مُسمّيات الوطنية السوريّة أو الوحدة الوطنيّة أو   القومية العربية و الانسانية ..الخ  يتحوّى مصالح إخفاء و هو مناف للبرهان , باختصار يوجد مشكلة كبيرة يجب الاعتراف بها و معالجتها.

*ملاحظة : ما عرضتّه أعلاه كان وجهة نظر تدّعي الموضوعية و لكن مختلطة بهواجس و خبرة شخصيّة , لذلك هي مقال و ليس دراسة .