قادة حماس في ذكرى رحيل إمامهم

قادة حماس في ذكرى رحيل إمامهم

مخلص برزق*

[email protected]

كان في خاطري أن أزوره لحظة دخولي غزة.. كنت أمنّي نفسي بذلك مذ رأيت القوافل الإنسانية تشد رحالها نحو القطاع المحاصر، وكثيراً ما كنت أخطط في يقظتي وحلمي أن أتقمص دور ناشط حقوقي وإنساني يخترق كل الحدود والحواجز ليجثو على الثرى المعطر بدماء الشهداء.. الأغلى والأروع.

تسارعت الأحداث وساقتني الأقدار سوقاً إليها وأنا بين مصدّق ومكذّب لما تراه عيني.. حتى إذا تنسمت عبيرها وتيقنت بأنني بتّ في عرين القسّام ومأسدة الياسين هاج بي الشوق لتلك الروح المرفرفة فوق أرجاء قطاع العز والأرض المقدسة.. رجوت صاحبي أن يعرج بنا إلى مقبرة الشهداء، فاعتذر بأدب جمّ مع وعد صريح أن يحقق لي مبتغاي في أقرب فرصة.. وكان لي ذلك بعدما قضيت أقل من أربعة وعشرين ساعة في الحضن الدافئ لغزة.

انتهيت من صلاة الجمعة الأولى لي في غزة الحبيبة في جامع النور بمنطقة الرمال يوم التاسع من شهر كانون الأول (ديسمبر) للعام الجاري، كنت بعدها على موعد مع لقاء انتظرته طويلاً، كان قلبي يخفق بشدة وأنا أمرّ بين شواهد القبور، ولم تخطئ عيني كلمة "الشهيد" التي كتبت على الكثير منها.. حتى إذا وصلنا إلى القمة.. أو هكذا تهيأ لي.. فقد كنا نصعد تلة مرتفعة عن الأرض، عندها أشار لي صاحبي على قبره.. هنا شيخنا الإمام المجاهد، هنا الحبيب أحمد ياسين رحمه الله..

أردت أن أخاطبه كما سبق لي أن فعلت قبل أربع عشرة سنة يوم حطّ رحاله في اليمن.. لكن لساني لم يسعفني بشيء فتكلمت عيناي بكل شيء خفق به قلبي.. ومن قبل كانت قد استقبلته بذات اللغة لحظة وصوله لإلقاء كلمته الأولى في جامع المشهد بصنعاء، وتكرر الأمر أيضاً عندما انتشر الخبر الحزين برحيله وكتبت يومها "مخاض حروف باكية" استحضرت محتواها لحظة وقوفي الخاشع عند قبره.. كانت دموعي تقول له: جزاك الله عنا خيراً، جزاك الله عن غزة خيراً، جزاك الله عن فلسطين خيراً، جزاك الله عن الإسلام والحركات الإسلامية خيراً، جزاك الله عن الدعاة والعلماء خيراً، جزاك الله عن الجهاد والمجاهدين والمدرسة الجهادية خيراً..

لم أشعر بمضي الوقت وأنا أشهد الدرس الأجمل والأروع الذي أعده الشيخ طويلاً لتلاميذه من بعده ليكون الدرس النموذجي لكل من أراد الارتقاء إلى مصافّ الأبرار والربيين الصادقين، إنه درس الشهادة العبق بسيرة شهيد المحراب عمر الفاروق رضي الله عنه.. لم أفق من سكرتي ونشوتي بلقاء الحبيب إلا على صوت صاحبي وهو يشير إلى قبور مجاورة، فهذا قبر الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، وهذا قبر الشهيد صلاح شحادة، وهذا قبر الشهيد سعيد صيام، وعلى استحياء منه قال: وذاك قبر الشهيد القسّامي... أخي!!

إنها بقعة نورانية تجاور فيها الأستاذ ورفقائه ومرافقيه وتلاميذه ومحبيه.. نعم المقام وحسنت مرتفقا.

تركت قبره ولم تتركني روحه، غادرنا المقبرة ولم تغادرني مشاعر العزة والرفعة.. وبت لا أكاد أرى إلا طيفه، فتملكني شعور ممض على ما أنا عليه من أحوال مزرية من التقصير ودنو الهمة والركون إلى الدنيا الدنية.. ووجدت شيئاً من العزاء لنفسي المكلومة بحالها أن هناك من تمر عليهم ذكرى رحيل شيخهم وقائدهم لتذكرهم بما هم عليه من أمر خطير، في تلك اللحظات استشعرت فداحة الخطب لدى قادة حماس الذين أورثهم الشيخ تركة تنوء بحملها الجبال.. وقد زادهم عبئاً على عبء وتعباً على تعب..

أتعبهم بعلو همته.. أتعبهم بتواضعه وتجرده وزهده.. أتعبهم بعظيم تضحياته وصبره، أتعبهم بسعة علمه وحنكته وحكمته، أتعبهم بمحاسن أخلاقه وحسن معشره مع الصغير والكبير.. مع قادة حماس وجنود حماس وأبناء الفصائل الأخرى وعموم شعبه.. أتعبهم أنه كان متاحاً لكل مهموم ومشوّش ومغموم، أتعبهم أنه كان سهلاً هيناً ليناً رفيقاً بكل من يلقاه، أتعبهم بسعيه الدؤوب للإصلاح وقضاء حوائج الناس.. أتعبهم بجنديته، وجنديته ثم جنديته.. أتعبهم بإصراره وعظيم ثقته بربه.. أتعبهم بتحليقه الدائب صوب رضوان ربه.. فيا قادة حماس: أحسن الله عزاءكم.

               

*  كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.