"يوم الأم" بين فائض الإجرام وفائض الحب

"يوم الأم" بين فائض الإجرام وفائض الحب

ابتهال قدور

[email protected]

"يوم الأم"؟! أيحق لنا نحن الأمهات أن نتقبل علب الهدايا الأنيقة بابتسامة وفرحة هذا العام؟

 أيُسعدنا ويقر أعيننا أن نعيش لحظة حلم وانتشاء ونحن نُقبِّل وجنة أبناء يباركون لنا أمومتنا وأنوثتنا التي جاءت بهم إلى الحياة؟ أنجرؤ أن نتفاخر بأننا نبع الرقة، واللطف والرهافة والرحمة؟

في حضرة هذا اليوم من العام ألفين و اثني عشر نحن أمام فاصل تاريخي مخضب بالدماء البريئة "فيوم الأم" أو "عيد الأم" تفوح منه رائحة الجرم والموت..عار على الرجال أن يتقدموا بباقات زهر للأمهات، وانتقاص من جمالية الأمومة أن تتقبل الأمهات التبريكات!

وأقسم أن لولا خنساوات وطني الشريفات، ولولا حرائرها المقهورات، لولا دموع الألم التي اعتصرت قلوبهن، ولولا صرخات الإصرار التي جمَّلت وجوههن...لو أنني لم أشهد إيمانهن بالنصر على الرغم من وحدتهن، لو أنني لم أسمع مقولات العزة و الكبرياء تتألق على شفاههن، على الرغم من الخذلان الكوني لهن... لو أنني لم أشهد حمدهن لله أمام جثث فلذات أكبادهن، لو أنني لم أرتجف أمام مستوى الصبر والتضحية والإيثار والكرم والفهم والوعي...لكنت كفرت بكل معاني الأنوثة والأمومة...ولكنت تجرعت سماً يخلصني من انتمائي لجنس حواء...

فَمِن بنات حواء زوجة وأم وَجَّهت بالأمس القريب كلمات ملؤها الرحمة للعالم، لكي يلتفت إلى أطفالنا في غزة...تَرِّن كلماتها المصطنعة في أذني اليوم كوقاحة الكذب المفضوح: "أطفال غزة ليس لديهم حليب"...وتستطيعون أن تتابعوا بقية الكلمات التي لم يَقبَل حتى الصّدى تكرارها لخوائها وزيفها...هذه المرأة الأم، تقر بأن أطفال مدينتها يذبحون بالسكاكين، ولا تجد كلمات أفضل من كونها هي الديكتاتورة الحقيقة في القصر...!!

ومن بنات حواء، مذيعة ومقدمة برامج جميلة الصورة، من أقوالها: إن المذيع في النهاية إنسان يتأثر بالخبر، وتعترف بأن عينيها غرقت بالدموع، أمام مشهد أب يحمل ابنه الجريح في غزة...ولكن، وفي خضم المتاجرة بالكلمات لم تجد هذه الإعلامية من الدموع ما تذرفه على أطفال وطنها المطعونين حتى الموت! وجمال الأنوثة فيها لم يتعاطف مع صرخات الحرائر المغتصبات أمام محارمهن، ولا رأت حاجة إلى تغطية صادقة لخبر حجزهن في مراكز، لكي يتناوب الوحوش على انتهاك أعراضهن...

عوضاً عن ذلك تقوم بتقديم النصائح لكي يبدو الكذب حقيقة، ولكي يبدو الرفض الشعبي تأييداً، وتنشر جيشها على الصفحات الالكترونية لكي يُزوِّر الحقائق ويشوِّه المعلومات..!!

ومن بنات حواء جاسوسات حول القصر يقمن بتزكية أسوأ وأكذب الإعلاميين الغربيين لكي يخترق أبناء وطنهن ويتسبب في قتلهم...هذا ما استطعنا أن نحاط به علماً حتى الآن من أخبارهن ومساهماتهن في الجريمة، أمّا ما خفي فقد يكون أعظم...

هؤلاء المساهمات في قتل الأطفال بشكل أو بآخر لا يمكن لهن الخروج سَوِيّات من هذه الملحمة التاريخية، حتى وإن استمرين في أداء طقوسهن الحياتية بانتظام...هن مثال للبشاعة التي تطرأ على جمال الأنوثة، وهن صورة ترويج للموت والقتل فيما الأمومة تمنح الحياة والحب..هن مخالفات صارخة لطبيعتهن..شاذات عنها بكل ما تحمله تلك الطبيعة من روعة ورفعة...

إن مشاعر الألم التي تعيشها حرائرنا ترفع من إنسانيتهن، وتجعلهن أقرب إلى الله وأكثر استشعارا لرحمته، فلم يكن الألم الإنساني في سبيل قضية عادلة يوما إلاّ سبباً في الارتقاء والخلود.. بينما كان القتل أو المساهمة فيه أو السكوت عنه انحراف عن الطبيعة والفطرة السليمة...

يصعب فهم هؤلاء النساء، فالملابسات التي زجت بهن في هذا الجرم كثيرة ومتداخلة ومعقدة، ليست الطائفية فقط، ولا التنشئة المخابراتية بمفردها، ولا حب الظهور، ولا الرغبة في السيطرة، ولا حب السلطة، ولا حب المال ، ولا الكبر والشعور بالتعالي والفوقية، ولا مرض الضمير، ليس عاملا واحدا من هذه العوامل قادر بمفرده على جعل الفرد يتحول إلى مجرم يرى جرمه إصلاحاً...الكثير من العوامل تجعل للقتل والظلم والإبادة جاذبية من نوع خاص لنوع خاص من البشر...

أحد من تورطوا في القتل في حرب لبنان يقول لي: "أنا لست مثلكم..أنا لست طبيعي..أنا لا أحس أن لدي مشاعر، هناك فراغ كبير داخل نفسي كأنه منطقة مظلمة..." و يضيف: "لا أعرف كيف أشرح لك ولكنني مختلف عنكم، لا أفهم الكثير من المعاني، لا أدرك معنى الموت والحياة بنفس طريقتكم..." اليوم حين أتذكر كلامه، أربطه مع ما ذكره جندي أمريكي حارب في الخليج جاء ذكره في كتاب "مدربون على القتل" للطبيب النفساني تيودورنادلسون ، يقول هذا الجندي: "لقد أحببت القتل، لا بد أنني أعاني من أمر غير طبيعي.."

هؤلاء النساء لسن طبيعيات...يتسوقن بينما البيوت تقصف وتدمر على رؤوس الأطفال، يتأنقن بينما يحتاج الأطفال إلى الحليب والخبز والماء، يبتسمن بصفاقة بينما الدموع والصراخ والعويل أمام أعينهن...ينتشين بظهور على الشاشات بينما الدماء تسيل أمامهن...ثم يقال عنهن أمهات...ويستقبلن هدايا بمناسبة عيد الأم لا يجدن حرجاً في ذلك... هؤلاء النساء والأمهات أحببن القتل!

أما الطبيعيات من النساء، أما صاحبات الأمومة النقية الصافية، فهن أولئك الثابتات على الأرض الصلبة للوطن، يواجهن آلة القتل بإرادة وإصرار متطلعات بثقة إلى الحرية والعدالة والكرامة القادمة بإذن الله.

لَكُنَّ أتقدم بالشكر يا أمهات بلدي الشريفات...إذ منكن فقط أستمد بقية من ابتسامة، ومن بين آلامكن ألملم لنفسي بعض أسباب للبقاء...أنا ما شعرت يوما أنني أود الانحناء لأحد على هذه الأرض لكنني اليوم أشعر برغبة جارفة للانحناء أمامكن وتقبيل رؤوسكن، وأياديكن...يا من لكن حق احتكار "يوم الأم" و "يوم المرأة" وكل ما سيخلد النصر من أيام.