الشيعة بين الاعتدال والتطرف

الشيعة بين الاعتدال والتطرف

حسان القطب

بداية جديدة للطائفة الشيعية شكلها نجاح الثورة الإيرانية على يد الخميني ووصولها للسلطة في إيران في عام 1979، وكان من نتيجتها إعلان قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية الملتزمة بالنهج والفكر الديني الذي يستند لمفهوم ولاية الفقيه الذي أحياه الخميني بعد أن تم تجاهله لمدة تزيد عن قرن ونيف، رغم أن الكثير من المرجعيات الشيعية لا تعترف بهذا المفهوم وهذه النظرية، خاصةً وأن هذا الفكر يعتبر أن السلطة هي ولاية إلهية يمارسها الولي الفقيه مندوب الإمام المهدي المعصوم الغائب منذ 12 قرنا تقريباًً.. هذا الواقع السياسي والديني الجديد أرسى لمرحلة جديدة وشكل واقعاً مميزاً في الحياة السياسية للطائفة الشيعية في إيران بدايةً ومن ثم في أنحاء دول العالم حيث تنتشر تجمعات وأقليات تلتزم العقيدة والنهج والفكر الشيعي..في البداية عانت الثورة الإيرانية الكثير من العقبات والصعوبات قبل أن تستقر حين التهمت الثورة أبناءها، فتم إقصاء رموز أساسية (مهدي بازركان، صادق قطب زادة، وأبو الحسن بني صدر وغيرهم) وهذه الرموز كانت قد مثلت كل الأطياف السياسية والفكرية والاجتماعية في إيران وساهمت في إنجاح الثورة، حين كانت في بدايتها مجرد ثورة على الطغيان والظلم والقهر الذي مارسه شاه إيران، ووصفت الثورة حينها بأنها ذات تجانس علماني_ ديني، حيث انخرطت فيها كافة القوى السياسية والاجتماعية، قبل أن تقع ثورة داخل الثورة لتتحول دولة دينية ذات طابع ديني مذهبي شيعي فقط.. ويتم على أثرها تغييب وجاهل كل أشكال المشاركة غير الدينية من تاريخ الثورة وأدبياتها وكذلك في تركيبة أجهزة الحكومة الوليدة، فاختفت الرموز العلمانية والقوى غير الدينية من ساحة السلطة السياسية بل من حلبة الممارسة السياسية نفسها وتعرض بعض قادتها للنفي والبعض الآخر للإعدام والقتل. وحتى أن القوى الإصلاحية ضمن النظام الحالي لم تجد لها مكاناً على الساحة السياسية في الداخل الإيراني فتعرضت للتغييب وبعضها للاضطهاد وقادتها للإقامة الجبرية (حسين مير موسوي، ومهدي كروبي)..

الرغبة في  تعزيز السلطة الإيرانية الجديدة لدورها وحمايةً لاستقرارها واستمرارها ولإعطاء النظام الإيراني دوراً إقليمياً ودولياً دفعت بالقادة الإيرانيين الدينيين إلى جعل إيران قبلة الشيعة في كل مكان ليكون المدافع عن حقوق الطائفة في العالم والحارس الأمين لحقوق أبنائها، لذلك فالموقع الديني الذي تحتله حوزات النجف انتقل إلى مدينة قم الإيرانية، والسياحة الدينية توسعت وامتدت لتشمل إلى جانب المدن العراقية (النجف وكربلاء) مدن إيرانية عدة (مشهد، قم، اصفهان) وغيرها، وأصبحت الجمهورية الإسلامية في إيران راعية لأبناء الطائفة الشيعية في العالم أجمع دينياً وسياسياً، وقامت الجمهورية الإيرانية بدعم مجموعات شيعية في العديد من الدول العربية والإسلامية التي تحتضن أقليات شيعية، بل وامتدت شبكتها لتشمل أبناء الطائفة في دول الاغتراب والانتشار العالمي بغض النظر عن الجنسية التي يحملها كل مواطن شيعي، فالانتماء الديني والارتباط العقائدي بالنظام الإيراني تجاوز الانتماء الوطني والهوية القومية. وقد أكد هذا التوجه الأممي لدى هذه القوى التابعة والمرتبطة بالنظام الإيراني رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين حين قال: ("أن كل ما يحصل في منطقتنا من خير هو بفضل المقاومة التي باتت تشكل احد أهم عناصر القوة لمشروع الأمة الناهض، وعلى وقع المتغيرات التي تحصل في العالم الذي لا يفهم إلا منطق القوة"، مضيفاً "نحن أقوياء وسنبقى أقوياء وسنزداد قوة لنكون الأقوياء في وطننا ومنطقتنا بل في كل العالم.")..

لخدمة هذا المشروع وتعزيزه وتطويره وحمايته كان لا بد من وجود قوى سياسية وتجمعات شعبية مؤيدة ومنسجمة مع هذا التوجه وهذا الفكر، في كل دولة تتواجد فيها أقلية شيعية، حيث تتلقى الدعم المادي إلى جانب السياسي والمعنوي والإعلامي من قبل الجمهورية الإيرانية..وكان لبنان والطائفة الشيعية فيه أحد أهم الركائز الأساسية لهذا المشروع، وعلى غرار ما حدث في إيران اختفت القوى السياسية المنافسة لحزب الله الذراع الإيرانية في لبنان من على الساحة السياسية الشيعية من قوى حزبية أو حتى تجمعات ذات ولاء عائلي، باستثناء حركة أمل التي يقودها نبيه بري، والتي حظيت بحماية سياسية وأمنية سورية ضمنت لها الحماية والاستمرار، إلى جانب حاجة حزب الله وإيران إلى دور نبيه بري السياسي في البرلمان اللبناني وهو ما لا يستطيع حزب الله القيام به ، وأمن حزب الله كذلك المساحة والتغطية الإعلامية اللازمة لكل الأدوات الإيرانية في العالم العربي والإسلامي، من دعم الحوثيين في اليمن إلى دعم ثورة شيعة البحرين، والإضاءة المستمرة على شيعة المنطقة الشرقية في المملكة السعودية وغيرها، ومحاولة التغلغل في عمق القوى الدينية والسياسية الأخرى لإيجاد مناصرين ومؤيدين وداعمين يقدمون بيانات وتصريحات ومواقف تبعد الصفة المذهبية والدينية عن أهداف وطموحات بعض التحركات والتجمعات المدعومة من إيران.. سواء كان هذا التحرك سلمي أو عسكري وامني..وقامت هذه القوى أيضاً بالهيمنة على مؤسسات الطائفة الرسمية وغير الرسمية، في سلوكٍ ينم عن رفض وجود شخصيات وهيئات تعترض على مواقفها وسياساتها، ومعززاً حضور ودور السلطة الواحدة ضمن مؤسسات الطائفة، فتم عزل مفتي صور الجعفري سماحة السيد علي الأمين بسبب موقفه المناهض لسياسات حركة أمل وحزب الله عقب أحداث الفتنة التي قام بها هذا الفريق في 7 أيار/مايو من عام 2008، بقرار من المجلس الشيعي الأعلى وتم تكليف مفتي سواه، واستكمالاً لهذا الدور يسعى هذا الفريق أيضاً لإسقاط مواقفه السياسية في الداخل اللبناني والخارج على الطائفة الشيعية برمتها، محملاً إياها نتائج هذه السياسات والمواقف ومتخذاً من الطائفة غطاءً لمواقفه. هذا السلوك الذي يخدم هذا المشروع أعطى الطائفة الشيعية برمتها صفة التطرف والابتعاد عن الاعتدال والانخراط في مشروع إقامة دولة دينية على امتداد العالم الإسلامي عاصمتها طهران، وتقودها مرجعيات دينية مقيمة في مدينة قم الإيرانية برعاية الولي الفقيه الذي هو اليوم (الخامنئي)، وأصبحت القوى السياسية الشيعية المرتبطة بالنظام في طهران نظراً لدورها الأمني والعسكري اقرب في تركيبتها ودورها وسلوكها إلى صفة تنظيم القاعدة مع ما يحمله هذا الوصف من تطرف منه إلى أحزاب سياسية أو تجمعات دينية ذات أهداف وطنية أو أنها تسعى لتحقيق خدمات اجتماعية....

ولكن الواقع ضمن الطائفة الشيعية، ليس على هذا الشكل بالكامل، ولا يمكن وصفه بأن الطائفة برمتها في حال استسلام كامل للرغبة الإيرانية وأدواتها المحليين في العمل على استخدام كل أبناء الطائفة أينما كانوا لخدمة استقرار الجمهورية الإيرانية وبناء الإمبراطورية الفارسية على حساب استقرار ومستقبل الأقليات الشيعية في العالم العربي والعالم اجمع. فالكثير من القيادات الشيعية الناشطة على الساحة الوطنية والتي تشكل حضوراً مهماً على المستوى الوطني أو ضمن المؤسسات الأهلية وحتى ضمن النسيج الديني للطائفة تعبر عن رفضها لسياسة الهيمنة ووضع اليد وربط مصير الطائفة وأبنائها بمحور السياسة الإيرانية التي تسير حثيثاً نحو فتح صراع دولي محموم قد يجعل من مصير إيران مشابهاً لمصير دولة العراق الذي ساهمت إيران نفسها إلى جانب جيوش الاحتلال في جعله يتخبط في أزمات سياسية واقتصادية وطائفية وحتى عرقية.. وكذلك الأمر في أفغانستان والبحرين وحالياً في سوريا التي تعاني من حرب أهلية طاحنة تمارس فيها إيران دور التحريض والدعم لنظام ديكتاتوري مجرم إلى جانب الموقف الروسي الذي يعتبر قتل الأبرياء سياسة متوازنة بين السلطة المدججة بالسلاح والمعارضة السلمية، ومتوازية مع الوعد بتطبيق الإصلاحات الموعودة..

الجميع في لبنان والعالم العربي والإسلامي يعول على رؤية قوى شيعية قادرة على تغليب لغة المنطق والاعتدال على لغة التطرف والمواجهة، وعلى الرغبة في بناء دولة تعددية تتمتع بالحرية والديمقراطية لا دولة دينية، وعلى دور وحضور واعتدال فريق وازن من مثقفي وقيادات الطائفة الشيعية على الساحة السياسية والدينية والاجتماعية لإخراجها من نفق المواجهة مع شعوب وحكومات المنطقة ومع المجتمع الدولي للحفاظ على ثروات البلاد وحقن دماء الشعوب ومنع الانقسام العامودي بين مكونات هذه الأوطان والدول وكذلك بين إيران ومحيطها، وبالتأكيد لو أعطيت الفرصة بحرية مطلقة للشارع الشيعي للاختيار بين مساري الاعتدال والتطرف لاختار مسار الاعتدال ونبذ التطرف في لبنان والعالم اجمع.