سوريا: ديكتاتورية الأقلية وجذور المأساة

*

حسام مقلد **

[email protected]

ترفَّع الشعب السوري عن الطائفية البغيضة طوال تاريخه الطويل، وتتعايش على أرض سورية العروبة منذ القدم كل الأقليات والطوائف الإثنية والعرقية والدينية يحوط الجميع عدلُ الإسلامِ وسماحتُه، والتاريخ خير شاهد على ذلك، المشكلة إذن ليست في التعدد الطائفي والعرقي في سوريا وإنما في بطش وجبروت الأسرة العلوية وبعض أبناء الطائفة النصيرية التي تسيطر على سوريا منذ نحو نصف قرن وتستأثر وحدها بخيرات البلاد رغم أنهم أقلية لا يتجاوزون 10٪ من تعداد السكان!!

لقد صُدِمَ العالمُ مؤخراً بحجم المجازرِ البشعة والمذابح الوحشيَّة وحربِ الإبادة الجماعية التي يشنُّها النظام السوري ضد شعبه الأعزل لمجرد أنه خرج يطالب سلمياً بحقه في الحياة الحرة الكريمة، والحقيقة أنه على مدى نحو نصف قرن من حكم حزب البعث ودولة الطائفيين العلويين ذاق السوريون السُّنَّة كل ألوان القمع وصنوف الاضطهاد، وخير شاهد على ذلك مجزرة حماة المروِّعة عام 1982م التي ارتكبها حافظ الأسد وشقيقه رفعت بحق سكان وأهالي هذه المدينة الوادعة، وراح ضحيتها نحو أربعين ألف قتيلٍ ومئة ألف آخرين من المشردين والمفقودين والمهجَّرِين في شتات الأرض هم وعَقِبُهم حتى الآن، والحقيقة أن مجزرة حماة لا تقل بشاعة بأي حال عن مجزرة مدينة سربيرنتشا البوسنية المسلمة التي ارتكبها الصرب بحق سكانها عام 1995م وراح ضحيتها آلاف المسلمين...!!

الآن وبعد عقود من حكم العلويين لسورية ذاق خلالها السوريون كل أشكال القهر والإذلال والفقر خرج الشعب السوري الأبي مسالماً أعزلَ من السلاح بمئات الآلاف من شبابه ورجاله ونسائه وأطفاله، ينشد الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، خرج ينادي: "سلمية سلمية، لا حزبية ولا طائفية"، لكن نظامَ بشار الأسد تعامل مع هؤلاء السوريين الأحرار وكأنهم عدوه وليسوا شعبه، فانهال عليهم بالقصف الوحشي المدمر بكل أنواع الأسلحة الفتَّاكة والمدرعات والدبابات والآليات العسكرية، وفي غضون عدة أشهر حصد أرواح عشرة آلاف إنسان بريء، وخلَّف عشرات بل مئات الآلاف الآخرين من الجرحى والمشردين.

لقد ارتكب النظام السوري بشبيحته ورجال أمنه وجيشه النظامي أبشع المجازر: من قَتْلٍ للأطفال والنساء والرجال، وترويعٍ للآمنين، وانتهاكٍ للأعراض، واستباحةٍ للحرمات، والاعتداءِ على المساجد، وتهديمِ المنازل وغير ذلك من الجرائم الوحشية التي لم نعرفْ لها نظيراً إلا عند الحركات الباطنية في أحلك حقب التاريخ.

فما أشبه الليلة بالبارحة: فقد عاثت الحركات الباطنية كالإسماعيلية، والقرامطة، والحشاشون، والنصيرية.... فساداً في حياة المجتمعات الإسلامية قديماً، وتعقَّبها قادة المسلمين، وحاولوا القضاء عليها وحماية الناس من شرورها... واليوم تعيد النصيرية الكَرَّة مرة أخرى ضد الشعب السوري الأعزل... فمن هم العلويون النصيريون؟!

النصيرية هي حركة باطنية ظهرت أواخر القرن الثالث الهجري، ويعدُّ أصحابُها من أشد غلاة الشيعة تطرفاً وغلواً، فقد ألَّهُوا عليًّا بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وتُنسَب هذه الفرقة إلى محمد بن نصير النميري البصري (المُتَوفَى عام 270ه‍ ) وهو رجل فارسي الأصل، ادَّعى النبوة وقال بإباحة المحرمات.

وعقيدةُ هذه الطائفة منحرفة باطلة خارجة عن ملة الإسلام، فقد استمدوا معتقداتهم من الوثنيات القديمة كما أخذوا عن اليهودية والغَنُوصِيَّة النصرانية، وتبغض فرقة النصيرية الصحابة بغضاً شديداً، ويلعنون أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ.

تؤمن النصيرية كغيرها من فرق الباطنية بالتقمُّصِ وتنكر الآخرة والبعث والحساب والجنة والنار، وتبيحُ المحرمات، فيمارسون الزنا ويحتسون الخمر، بل يعظمونها ويسمونها (النور) وعباداتُهم منحرفةٌ أيضا ومختلفة عن العبادات الإسلامية المعروفة، فهم لا يتوضؤون للصلاة، وتختلف صلاتهم عن صلاة المسلمين في عدد الركعات، كما لا تشتمل على سجود، وليس لهم مساجد عامة، بل يصلُّون في بيوتهم مرددين تلاوات وثنية وأعمال شركيَّة، وطقوسُهم الدينية شبيهة جدا بطقوس اليهود والنصارى والوثنيين، وهم لا يصلون الجمعة، ولا يعترفون بالحج!! كما لا يعترفون بفريضة الزكاة الإسلامية الشرعية، وإنما يدفعون ضريبة إلى مشايخهم مقدارها خمسُ ما يملكون.

وقد اتفق علماء المسلمين على أن هؤلاء النصيريين كفار لا تباح ذبائحهم، ولا يجوز الزواج منهم، ولا يُصلَّى على من مات منهم ولا يدفن في مقابر المسلمين، وقال عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية ـ هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية ـ أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين، وضررُهم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل التتار والفرنج وغيرهم...).

في بداية نشأة النصيرية أُسِّسَ لها مركزان: أحدهما كان في حلب والآخر في بغداد، وقد سقط مركز بغداد بعد اجتياح هولاكو لها، وانتقل مركز حلب إلى جبال اللاذقية، فعلى مدى قرون استوطن النصيريون منطقة جبال النصيريين في اللاذقية وعاشوا في قراهم المنعزلة.

وفي أيام الدولة العثمانية، تعاونوا مع الصفويين لحرب أهل السُّنة، وقاموا بعدة ثورات ضد المسلمين عام 1834م؛ إذ هاجموا مدينة اللاذقية، وقتلوا الكثير من أهلها، وعاثوا فيها فسادا، وقاموا بأعمال السلب والنهب، فعاقبهم الوالي بشدة، كما هاجموا مدينة (جَبْلَة) فقتلوا ونهبوا، وسبُّوا الصحابة الأجلاء خاصة أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وكانوا ينادون: لا إله إلا علي، ويطلبون من أسراهم أن يقولوا بذلك، وخربوا المساجد ودمروها واتخذوها خمَّارات، فجرَّد السلطان عبد الحميد العساكر إليهم حتى هزموهم وخلَّصوا الناس من شرورهم، ثم حاول السلطان عبد الحميد إصلاحهم وبنى لهم المدارس والمساجد لكن بلا فائدة لأنهم لا يؤمنون أصلا بالإسلام ولا يعتبرون أنفسهم مسلمين.

كان النصيريون طوال تاريخهم يتعاونون مع الغزاة المستعمرين ضد أراضي المسلمين وخاصة بلاد الشام، فكانوا يغدرون بجيوش المسلمين وينهبونها ويقتلون عساكرها، وقد تعاونوا مع الحملات الصليبية وأعانوها على احتلال هذه البلاد، كما تعاونوا مع التتار، وفي العصر الحديث تعاونوا مع المستعمر الفرنسي الذي كرس الطائفية في سوريا ولبنان، وقد أطلق على النصيريين اسم (العلويين) تمويهاً وتغطيةً لحقيقتهم الباطنية، وقد أقام لهم دولة مستقلة أطلق عليها اسم (دولة العلويين) واستمرت هذه الدولة من سنة 1920م إلى سنة 1936م.

بعد الاستقلال الوطني السوري عن الاحتلال الفرنسي خطط العلويون للتغلغل في أوساط الجيش، والدخول في الأحزاب السياسية القومية كحزب البعث والحزب القومي السوري، وعقدوا المؤتمرات، ودبَّرُوا الكثير من المؤامرات للوصول إلى سُدَّة الحكم بعد التخلُّص من الكتل العسكرية المناوئة لهم.

استطاع العلويون (النصيريون) أن يتسللوا إلى كافة التجمعات الوطنية في سوريا بعد استقلالها عن فرنسا، واشتد نفوذهم في الحكم السوري منذ سنة 1965م تحت واجهة سنية، ثم قام تجمع ما يُعْرَف بالقوى التقدُّميَّة من الشيوعيين والقوميين والبعثيين بحركته الثورية، وتولى حافظ الأسد النصيري العلوي منصب رئاسة مجلس الوزراء ووزير الدفاع في21 نوفمبر/ تشرين ثان عام 1970م، ثم ما لبث أن حصل على صلاحيات رئيس الجمهورية في 22 فبراير/ شباط عام 1971م.

وبعد إجراء استفتاء شعبي صوري تم اختيار حافظ الأسد في 12 مارس/آذار عام 1971م رئيسًا للجمهورية العربية السورية لمدة سبع سنوات، ليكون بذلك أول رئيس عَلوي نُصيري في التاريخ السوري، وبعدها أُعيد انتخابه في استفتاءات متتابعة أعوام 1978م، و1985م، و1992م، و1999م.

وبعد موت حافظ الأسد جرى تغيير الدستور السوري في غضون ساعات قليلة ليؤول الحكم إلى ابنه بشار الأسد في 17 يوليو/ تموز عام 2000م، ولا تزال الأسرة العلوية في سُدَّةِ الحكم إلى الآن.

كانت جبال اللاذقية موطن النصيرية الأول، لكن في العقود الأخيرة انتشر العلويون (النصيريون) في المدن السورية المجاورة لهم، ولا يقتصر وجود النصيرية على سوريا حيث يعيش عدد كبير منهم في جنوب تركيا، وأطراف شمال لبنان، وإيران، وتركستان الروسية، ولهم أسماء محلية يعرفون بها في أماكن سُكناهم، ففي غربي الأناضول يُعرَفُون باسم (التختجية والحطَّابون) فيما يطلق عليهم في شرقي الأناضول اسم (القزل باشية) ويعرفون في أجزاء أخرى من تركيا وألبانيا باسم (البكتاشية) وهناك عدد منهم في تركستان وكردستان وإيران يعرفون باسم (العلي إلهية).

وبعد فهذه ليست دعوة للطائفية المقيتة؛ لأن ذلك ضد مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية التي اندلعت من أجلها ثورات الربيع العربي، لكن هذه هي الخلفية التاريخية والجذور العقدية والدينية للطائفة العلوية النصيرية التي تتحدر منها الأسرة الحاكمة في سوريا منذ عقود، ولعلنا من خلال سرد تاريخ ومعتقدات هذه الطائفة ندرك ونتفهم أسباب هذه القسوة والشراسة والوحشية التي يتعامل بها بشار الأسد وشبيحته مع الشعب السوري الأعزل، فمع تزايد أعمال القمع والاضطهاد كان من الطبيعي أن ينتفض السوريون مُطالبين بحقوقهم المسلوبة، لكن مع الأسف بدلا من أن يستجيب نظام بشار الأسد العَلوي النُّصيري لشعبه، ويحقق الإصلاح المنشود زاد ولعاً وتشبثا بالسلطة، واختار ارتكاب أبشع المجازر والمذابح المروعة، ومارس كل أنواع  التعذيب الوحشي ضد شعبٍ بأكمله!!

ومنذ قرابة عام وحمامات الدم السوري تُسفَك وتهراقُ يوميا في حرب إبادة جماعية ممنهجة، ولا زال أدعياء حقوق الإنسان يستمتعون بالمذبحة!!! فأين الضمير الإنساني؟!! وإلى متى تظل دماء المسلمين السنَّة مستباحة ومهدرة في كل مكان؟ وهل نرى المسلمين يهبون لنصرة إخوانهم؟! ومتى يتحرك أحرار العالم لإنقاذ سوريا والسوريين من بين فكَّي الأسد ونظامه الطائفي المتوحش؟!! 

               

** كاتب إسلامي مصري

* المعلومات التاريخية الواردة في هذا المقال مستقاة ومقتبسة من عدة مراجع ومصادر موثقة (مثل: تاريخ المذاهب الإسلامية ـ محمد أبو زهرة، الحركات الباطنية في العالم الإسلامي: عقائدها وحكم الإسلام فيها ـ محمد أحمد الخطيب، النصيرية ـ سهير الفيل، دراسات في الفِرق ـ صابر طعيمة... وغيرها).