ذكرى الرسول العربي

ذكرى الرسول العربي

د. فايز الحوراني

في بداية هذا الاسبوع 4/2/2012 احتفل العالم العربي والإسلامي بذكرى المولد النبوي الشريف. وهي المناسبة العظيمة في تاريخ البشرية والإسلام. وفي مثل هذه الذكرى كان ميشيل عفلق قد ألقى على مدرج الجامعة السورية بتاريخ 5 نيسان 1943 خطابا تاريخيا أي قبل ما يقارب سبعة عقود. وسلط الضوء على وجهة نظره التي تمثل نظرة قومية عربية للإسلام ولحياة الرسول عليه الصلاة والسلام.

ان ما ورد في ذلك الخطاب ما زال مهما وقد ميز رأيا لتيار فكري قومي وحدودي عن غيره وقد وجد في معين الإسلام الذي لا ينضب (عروبة الإسلام) ذلك متمثل في (العروبة كهوية, وطبيعة, وأرض ولغة وتاريخ, ومجتمع والعروبة كثورة فجرها الإسلام فأصبحت ثورة إنسانية عالمية بل أعظم ثورة في التاريخ البشري. والعروبة كرسالة خالدة لأن الإسلام وهو دين هداية للعالمين كان العرب أول من حمل مسؤولية نشره.. وعروبة الإسلام لا تتعارض مع إنسانيته وعالميته ومصدره السماوي.. إن أية أمة من الأمم يمكن أن تجنح إلى الإلحاد ما عدا الأمة العربية التي يدخل الإسلام في نسيج شخصيتها وتاريخها. والإسلام بالنسبة لها هو دين وقومية وحضارة.. ولهذا فالأمة العربية تجد حريتها في الفهم المتجدد للإسلام)

انتهى الاقتباس.

رأي عفلق في ذلك الخطاب وكرره في محطات كثيرة في القرن الماضي وخصوصا في السبعينيات حين أعاد إنتاج رأيه في التراث، وكذلك في خطابه السنوي في الثمانينيات وحتى وفاته عام 1989، وقبل الأربعينيات وحتى اليوم ما زالت معظم الأمور والمشاكل والاختلافات متكررة وقائمة بصور متعددة وردت في ذلك الخطاب.

ويمكن الإشارة هنا إلى المحاور الأساسية في ذلك الخطاب وكما يلي:

أ - في مجال الشخصية العربية بين الماضي والحاضر أجاب على سؤال (ما هي قيمة الكلام) معتبرا أن تاريخنا الحاضر كثر فيه الكلام وطغى ومع ذلك فهو أقل العهود حيوية وإنتاجا.. واعتبر أن الانقطاع بل التناقض بين الماضي المجيد والحاضر المعيب حقيقة راهنة حيث ظاهرة (طلاق بين الفكر والعمل) ودعا إلى "ألا نقول إلا ما نقدر على تحقيقه, حتى يأتي يوم نقدر فيه أن نحقق كل ما نقوله".

ب - وتحت عنوان الإسلام تجربة واستعداد دائم: بين أن حركة الإسلام المتمثلة في حياة الرسول الكريم (ص) ليست بالنسبة للعرب حادثا تاريخيا فحسب، فهي ترتبط ارتباطا مباشرا بحياة العرب المطلقة، فهي صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية. فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوما في روحها لا في شكلها وحروفها.. والإسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الأمة العربية فتفيض على الأمم الأخرى فكرا وعملا. وعزا عفلق ما أثمر الإسلام من فتوح وحضارات إلى السنوات العشرين من البعثة فقبل أن يحكموا الأمم حكموا ذواتهم وسيطروا على شهواتهم وملكوا إرادتهم... فتجربة الإسلام وحياة الرسول العظيم (ص) ليست حادثا تاريخيا يذكر للفخر، بل هي استعداد دائم في الأمة العربية لتكرار ملحمة الإسلام وللانتصار للحق والإيمان.

ج - وتحت عنوان (حياة الرسول خلاصة لحياة العرب) اعتبر عفلق أن حياة الرسول (ص) وهي ممثلة للنفس العربية في حقيقتها المطلقة لا يمكن أن تعرف بالذهن, بل بالتجربة الحية وفي هذا المجال فسر كيف تخلف العرب منذ مئات السنين, فهم يقرأون السيرة ويترنمون بها ولكنهم لا يفهمونها، لأن فهمها يقتضي شروطا وموقفا وجوديا يضع الإنسان أمام قدره وجها لوجه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك (برأي عفلق) وفي مجال التعظيم للرسول الكريم (ص) خشي عفلق أن يكون التعظيم معبرا عن القصور والعجز أكثر منه تقديرا للعظمة لأنه اعتبر أن التعظيم الحقيقي للبطولة إنما يصدر عن المشاركة فيها وتقديرها بعد المعاناة والتجربة, فلا يقدر البطل إلا الذي يحقق ولو جزءا يسيرا من البطولة في حياته. وفي هذا السياق قارن بين النظر إلى حياة الرسول (ص) من الخارج، والنظر اليها من الداخل، وهو الأمر الذي دعا إليه عفلق.. لكي نحياها ولو بنسبة الحصاة إلى الجبل والقطرة إلى البحر. وفي هذا السياق ومن خلال جدلية متينة وعميقة فأن الأمة العربية حشدت كل قواها فأنجبت محمدا (ص) أو بالأحرى ما دام هذا الرجل فردا من أفراد الأمة التي حشد محمد (ص) كل قواه فأنجبها فقد تلخصت حياة الأمة كلها في رجل واحد "كان محمد (ص) كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا (ص)".

د - الإسلام تجدد العروبة وتكاملها

في إطار هذا المحور والعنوان شرح عفلق ببساطة أن رجلا من العرب بلغ رسالة سماوية فراح يدعو إليها البشر. ولم يكن البشر حوله إلا عربا فاستجاب للدعوة نفرٌ قليل وقاومها أكثرهم فهاجر مع المؤمنين وحاربه المشركون إلى أن انتصر الحق فآمن به الجميع، بعد هذا الوصف فأن المسرح الطبيعي لملحمة الإسلام هو أرض العرب، وأن مشركي قريش ضروريون لتحقق الإسلام ضرورة المؤمنين له.. والذين حاربوا الرسول (ص) ساهموا في ظفر الإسلام كالذين أيدوه ونصروه، فالله قادر اأن ينزل القرآن على نبيه في يوم واحد، لكن ذلك اقتضى أكثر من عشرين عاما. والله قادر أن ينصر دينه ويهدي إليه كل الناس في يوم واحد، لكن ذلك لم يتم في أقل من عشرين عاما. والله قادر أن يظهر الإسلام قبل ظهوره بعشرات القرون، وفي أية أمة من خلقه، لكنه أظهره في وقت معين، وفي حينه، واختار لذلك الأمة العربية، وبطلها الرسول العربي (ص) وفي كل ذلك حكمة... وكان الاستنتاج في إطار تجدد العروبة وتكاملها وأن الإسلام حركة عربية، فاللغة التي نزل بها كانت اللغة العربية، وكان منظار العقل العربي هو الوسيلة لفهم الأشياء.. الخ، فالإسلام هو الدين الذي يمثل وثبة العروبة إلى الوحدة والقوة والرقي.

هـ - إنسانية الإسلام

في هذا المحور وتحت هذا العنوان يبين عفلق أن الإسلام إنساني وعالمي، وليس مقصورا على العرب، لكنه يؤكد على أن العرب ينفردون دون سائر الأمم بأن يقظتهم القومية اقترنت برسالة دينية. أو بالأحرى كانت رسالة الإسلام مفصحة عن تلك اليقظة. وأن العرب أدوا تجاه الأمم والشعوب الأخرى واجبا دينيا لوجه الله. ولهذا فلا مجال للخوف من أن يشتط العرب في قوميتهم.. وأنهم لا يستطيعون أداء الواجب الديني إلا إذا كانوا أمة قوة ناهضة. فأول واجب تفرضه إنسانية الإسلام هو أن يكون العرب أقوياء، سادة في بلادهم. ولأن الإسلام كائن حي وهو عام، وخالد، لكن عموميته لا تعني أنه يتسع في وقت واحد لشتى المعاني والاتجاهات، بل أنه في كل حقبة خطيرة من حقب التاريخ، وكل مرحلة حاسمة من مراحل التطور، يفصح عن واحد من المعاني اللامتناهية، الكامنة فيه منذ البدء. وخلوده لا يعني أنه جامد، لا يطرأ عليه تغيير، أو تبدل، وتمر من فوقه الحياة دون أن تلامسه، بل أنه رغم تغيره المستمر ومن استهلاكه للكثير من الأثواب تبقى جذوره واحدة، وقدرتها على النماء والتوليد والإبداع واحدة، لا تنقص، ولا تغني، هو نسبي لزمان، ومكان معينين، مطلق المعنى والفعل في حدود هذا الزمان وهذا المكان.

و - العرب والغرب وشرف العروبة

في إطار هذين العنوانين ينقد عفلق الذين اعتبروا أن في الحضارة الأوروبية ما يغني عن حضارة العرب والإسلام، وندد بالذين أجهدوا أنفسهم ليكيفوا نصوص التاريخ العربي ونصوص القرآن والأحاديث ليظهروا الانسجام، أو عدم الاختلاف مع الحضارة الغربية. وأكد على أن أوروبا التي كانت تخاف على نفسها من الإسلام، ومن قوة الإسلام التي كانت في الماضي معبرة عن قوة العرب، هي الآن تحارب العروبة والقومية العربية، وتقبل أن تصادق (الإسلام) الذي يطرحه أمميون، باقتصاره على العبادة الشخصية، والمعاني العامة الباهتة الآخذة في التفرنج.

لذا يؤكد عفلق أن علاقة الإسلام بالعروبة ليست كعلاقة أي دين بأية قومية. ولهذا فأن المسيحيين العرب يؤمنون بأن الإسلام هو لهم ثقافة قومية، يعتزون به كما يعتزون بعروبتهم. كما أن القوميين العرب هم المستمرون بالدفاع عن الإسلام. فالإسلام لم ينفصل عن العروبة ولم يأت من خارجها، كما دخل الدين على أوروبا وغيرها من القارات والأمم. وهذا الفرق الجوهري بين علاقة العروبة بالدين وعلاقة الأمم الأوروبية وغيرها من القوميات كان وما زال أحد أهم منطلقات الاختلاف في الأسباب والنتائج.