دمشق.. في القلب..

د. صلاح الدين أرقه دان

د. صلاح الدين سليم أرقه دان

كاتب وأكاديمي لبناني

طال العهد بك يا دمشق، فمن مطلع 1986م وأنا في شوق يتزايد أواره متلهفاً لنسمة يتمكن "بَـرَدى" من تنفسها، فتنزل على قلبي وقلوب المحبين برْداً وسلاماً في زمن لا يشم إلا رائحة الموت، ولا يسمع إلا أنين المظلومين، ولا يرى على الشاشات الفضية وصفحات الصحف سوى المآسي السوداء.

طال بك العهد يا دمشق، مذ كنت طالب علم أتنقل ما بين (القيمرية)؛ من (مسجد الأقطاب) كما كان يحلو للمقيمين فيه تسميته؛ إلى قاعات كلية الشريعة، مخترقاً تلك الحواري الهادئة الأصيلة المعطرة بأمجاد التأريخ والمشعة بصفاء قلوب سكانها وقد أحاطونا بكل رعاية ممكنة، فنحن طلاب علم وفدوا من بلادهم لينهلوا من معارف دمشق، من أفواه محدثيها وقرائها وفقهائها، ومن حلقات علم مستمرة حية من العهد الأموي الزاهر وحتى اليوم.

اشتقت دمشق أن أتوقف عند (الحلبوني) حيث كلُّ جديد في عالم الفقه والتفسير والحديث والفكر الإسلامي، بالمقدار الذي تسمح به  (الأجهزة) للكلمة أن تتحرر من بين قضبان الحديد لتولد في المطابع ثم تقف شامخة في واجهات المكتبات تنظر إلى محبيها كما ينظرون إليها.

اشتقت دمشق إلى حلقات العلم، وصلوات التراويح، وإحياء العشر الأواخر، وصلوات الجماعة بمسجد الجامعة، وإلى ازدحم المكتبة في فترة الاختبارات، مفتقداً مترحماً على من قضى من شيوخي وأساتذتي ممن صبر وأمسك لسانه رحمة بنا لا حرصاً على نفسه، وعلى الآخرين الذين جاهروا بكلمة الحق فكان مصيرهم مصير كل صادع بالحق في وجه سلطان جائر، وما بدلوا تبديلاً، كما أترحم على من التحق بالرفيق الأعلى من زملاء الدراسة سواء قضوا في غيابة السجن أو فوق فراشهم، وأشفق على أولئك الذي انجرفوا بعدما بلغوا من العمر عتياً في تيار مآله وبيل في الدارين ومع ذلك لا أنسى فضلهم وأسأله تعالى أن يردهم إلى صوابهم رداً جميلاً.

أشتاق دمشق إلى لهجة أبنائك الأصيلة المطرزة بالأدب واللباقة وهي تخرج من قلب محدثها بسجية شوهتها حلقات التلفاز التجارية. أشتاق إلى (الحمصاني) و(اللحام) وبائع (العرق سوس) وإلى (المختار) وهو ييسر لنا سبل الإقامة مع ابتسامة أخ كبير أو أب حنون.

أشتاق إلى أذان (مسجد بني أمية الكبير) الجماعي يوم الجمعة، المتميز بنغمته ورنته ونمط إلقائه. كما أشتاق إلى تلك (الدكة) المرتفعة تحت قبة النسر وما كان يلقى فيها من دروس، وما شهدته فيها من حلقات كبار القراء والفقهاء وهم يتدارسون بعد صلاة الفجر، كما أشتاق إلى حلقات العلم والذكر في مسجد العيبة (العقيبية) والصلوات الإبراهيمية عقب الفجر في جامع (السادات)، وحلقات العلم فيما يحيط بالحميدية من مصليات وجوامع تلهج ألسنة الذاكرين فيها على مدار الليل والنهار.

أشتاق إلى صقيع البرد في أيام الشتاء وعيني على قصعة (السحلب) الساخن بيد المبكِّرين إلى عملهم، كما أحن إلى لهيب الصيف وأنا أبلل قلنسوة رأسي من ماء (الفيجة) متوقياً ما استطعت تلك الحرارة التي لم أعتدها في مدينتنا الساحلية.

دمشق، يا توأم صيداء، ويا أم الحضارة والإدارة..

دمشق، يا موطن الأحرار ويا حاملة المشعل على مدار التأريخ..

دمشق، يا من احتضنت وترجمت علوم الأمم وثقافاتها منذ عهد حكيم بني مروان وحتى هذه الأيام العجاف..

دمشق، يامن استعصيت على تيمورلنك، وما تزالين..

دمشق، يامن احتضنت طلاب العلم والجهاد والشهادة..

دمشق.. أنت في القلب..