لقد أصبحوا من الماضي المقيت

محمد السيد

[email protected]

قال تعالى: ((...ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر...)) آل عمران: 118

يجلس أحدهم على أريكة فخمة، وهو يحتسي قهوته الصباحية أو المسائية ثم ليُنظّر لثورات شعوب، انتهك فيها حاكمها حق الحياة، وحق العرض المصان، وحق العيش الكريم، وحق الكرامة، وحق العمل، وحق.. وحق.. وحق.. ثم إن هذا الحاكم قد باع حق الحفاظ على أرض الوطن، وتآمر على عروبته، ونقائه، وعذريته، وقتل من قبل مقاومة الشعب الفلسطيني في لبنان بجيش ردعه، وهَدَم صروح الوطنية اللبنانية التي ساندت مقاومة الفلسطينيين، وعاون عدوان الصهاينة على لبنان بانسحابه وإخلاء مواقعه أمام الزحف الصهيوني على بيروت عام 1982م، ثم إنه مازال يقدم الجولان للصهاينة على طبق من النسيان والمراوغة، وقد ظل من قبل يقوم بدور تفريق الصف العربي والإسلامي أيام الثمانينيات، ثم إنه استغل الطائفية وأثار إحنها وباطنيتها وسخائمها. كما اصطف مع الجيوش الغربية يوماً لمقاتلة عرب من العرب، ولم يقم بأية مساعدة لحلّ عربي لأزمة عام 1991م.

ويأتي اليوم هذا الجالس على أريكته وهو يحتسي قهوته،ليطلب إلينا أن نقتنع بوصفه للعصابة الحاكمة في سورية منذ نصف قرن من الزمان بأنها كتلة وطنية مقاومة ممانعة، قدمت للعرب مواقف وطنية فذة، وحراكاً عروبياً عزيزاً، لا يستغنى عنه ولا ينكر، متناسياً ما بينه رب العزة منبهاً لنا كي لا نقع في الغفلة، وذلك بقوله جل من قائل:((ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم...)). إنها السذاجة التي ما بعدها سذاجة، وتضليل للأمة يخفي مواقع العيب فيها، ويتستر على مواقع الخلل، التي ظلت تعمل منذ عام 1970م على تدمير كل الصف العربي، وتفكيك أصابع المقاومة، ونسيان الأرض المحتلة من سورية، وهدم كل عناصر الخير داخل الأرض السورية؛ حيث توقفت الحياة السياسية، وهدمت الأحزاب، وذُلت الكرامات، وعاثت الشبيحة (التي يسمونها الأمن) فساداً وقتلاً وتعذيباً في حماة وإدلب ودرعا وحمص واللاذقية وكل أنحاء سورية، وشُرد الإسلاميون من كل صنف، وقُتل الكثير منهم في الشوارع وفي السجون، واستبقى (المافيويون) الحاكمون فلولاً من الأحزاب، الذين ارتضوا لأنفسهم الانضواء تحت لواء ما يسمى بالجبهة الوطنية، التي لا دور لها إلا التصفيق والتوقيع على بيانات الحزب الحاكم بالمادة (8) من دستور حافظ الأسد لعام 1973م، الذي جعل هذا الحزب قائداً للدولة والمجتمع. وفي عام 1980م استصدر قانوناً موسوماً بالرقم (49)، يقضي بإعدام كل منتمٍ إلى الإخوان المسلمين، ذلك القانون الذي يذكرك بمحاكم التفتيش في الأندلس وقوانينها وممارساتها الإجرامية، التي ندر أن يروي التاريخ مثيلاً لها: ((...وما تخفي صدورهم أكبر)) وها هم يصرّحون بالقول لأمريكا عام 2001م: إننا في خدمتكم لمحاربة الإرهاب، وقدموا لـ (CIA) أربعة وعشرين ألف ملف لأشخاص إسلاميين سوريين وغير سوريين، ادّعَوْا أن هؤلاء إرهابيون أو على وشك أن يكونوا إرهابيين، وقال بشار الأسد وقتها: إننا مستعدون لوضع خبرتنا في الإرهاب بين يدي الأمريكان. ومن بعد جاء رئيس الوزراء الصهيوني أولمرت يوماً متغزلاً ببشار الأسد قائلاً: إن بشارالأسد رجل يستحق الاحترام والتقدير، ونحن حريصون على بقائه واستمراره في الحكم، وقد بذلنا جهداً كبيراً لإقناع الأمريكيين من أجل تخفيف عبء الحملة الإعلامية عنه، فهو متعاون ومحافظ على العهود والمواثيق.    

وها هو هذا الجالس على أريكته الفخمة اليوم، يشاهد على شاشة التلفاز مناظر القتل والإجرام والتعذيب والإهانة لشعب سورية، المستمر منذ تسعة أشهر بما لا تحتمله الجبال الشم، ومع ذلك فإنه يظل يردد بسذاجة متناهية ما يردده الحاكمون في سورية، وهي سذاجة الخبّ الذي تخدعه كلمات معسولة بلهاء خادعة، يلقيها المغتصبون للحكم في سورية، يدّعون فيها الممانعة والمقاومة، مع أن زعيماً من زعمائهم في تصريح له (رامي مخلوف) ربط بقاء حكمهم بأمن إسرائيل. وإذن فهي صفقة تجري من تحت الطاولة، تقول: ليبق حكم العائلة في سورية مقابل الحفاظ على جبهة الجولان باردة، تلعب بها ريح التخاذل ويحدوها قول "عاموس جلعاد"؛ أحد أركان المؤسسة الأمنية في إسرائيل: إن سقوط بشار سيؤدي إلى كارثة لإسرائيل.

أرأيتم الوطنية..؟! أرأيتم الممانعة..؟! أرأيتم القومية العربية..؟! ثم أرأيتم الخبّ..؟! لقد غادرت العروبة الحكم في سورية، كما غادرته الوطنية، وغادرته الغيرة على الأرض المحتلة، واحتفظ بالحرص على الكرسي وحسب، وفي سبيله ذبح ويذبح كل شيء في سورية.. إنه عدو بثياب صديق..!

وبمناسبة الهجرة النبوية الشريفة نقول للذين ما يزالون يُنظّرون للثورة في سورية فَيَنْعَوْن على الثائرين طلبهم لحماية عربية أودولية أو إسلامية، ويُدخل في كلامه ما ينم عن أنه مازال مقتنعاً بممانعة حاكمي سورية ومقاومتهم، رغم كل ما شاهده من سخائمهم. وهنا يحق لنا أن نقول لهم: كفاكم دخولاً في سجل قول سيدنا عمر _ رضي الله عنه_: (لست بالخب ولا الخب يخدعني)، وهاجروا مع شعب سورية البطل، الذي آمن منذ زمن بعيد أن الحاكمين في سورية منذ عام 1970م حتى اليوم: ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره...)) الصف: 8، فلا تظلموا هذا الشعب رؤياه ولا تستهينوا بما يتعرض له عندما راح يطلب النصرة والعون والحماية من القتل والبطش السلطوي، فإن كنتم قادرين على تقديم هذا العون _ بغير الوساطات التي تلوكون كلماتها_ فلتتقدموا، وإلا فإن حاكمي سورية لا يريدون حواراً ولا تفاهماً، بل يريدون البقاء، وهم يعلمون أن الحوار لن يبقيهم .. فليع كل خب هذه الحقيقة، وليعلم أنه يراهن على سراب؛ لأن الحاكمين في سورية أصبحوا من الماضي المقيت..!