2011 أيها العام العزيز

أيها العام العظيم: كل عام وأنت بخير!!

محمد خليفة

[email protected]

في مثل هذا اليوم من العام الماضي وصلت إلى لبنان , مكثت عشرة أيام في بيروت , هذه المدينة التي أحبها صارت بالنسبة لي منذ غادرت سوريا قبل 32 سنة شرفة أطل منها على بلدي المسروق , لأنها أكثر مدينة في العالم تستطيع منها التلصص واستراق السمع , على سوريا , وتعرف منها كل ما تريد من أخبار سوريا كافة , بما في ذلك أخر النكات , والشائعات , والأسعار , والاخبار الشخصية للساسة والمسؤولين والمثقفين والفنانين ...إلخ . في هذه الزيارة التي انطبعت وقائعها وستبقى منطبعة في ذاكرتي لأسباب مختلفة , قابلت كعادتي عددا من الأصدقاء والزملاء من أهل الفكر والصحافة والسياسة , ومن بينهم ثلاثة , أحدهم هو الصحافي الأكبر والأبرز في لبنان حاليا , والثاني هو الأكاديمي والمثقف الأبرز , والثالث هو أيضا مثقف وسياسي بارز لا سيما في مجال العلاقات الاسلامية - المسيحية .

في لقاءاتي بالثلاثة والاخرين سألت واستمعت وناقشت واطلعت على معلومات كثيرة مما لا ينشر , بيد أني لم أسمع من أي منهم أو من غيرهم أي تنبه أو توقع أو حدس بما كانت سوريا وبقية دول المنطقة تمضي إليه بسرعة , ويقع على مسافة شهر , أو شهر ين فقط . العكس هو الصحيح , كان الثلاثة يعتقدون أن النظام السوري قوي وراسخ وسيعمر طويلا , بل إن احدهم نصحني مشفقا عليّ أن أتوقف عن معارضتي .. وأذهب إلى دمشق لأصالح وأدبر أمور حياتي , وقال لي بالحرف : إن نظام بشار مرتاح جدا ولا وجود لأي خطر يهدده لا في الداخل ولا في الخارج , ثم أضاف : الجميع في لبنان يتصرف على هذا الاساس , بما في ذلك 14 أذار , لأن النفوذ السوري عاد كما كان قبل انسحاب القوات السورية عام 2005 . هذا الصحافي الكبير مطلع على شؤون الحكم السوري بل إنه ممن يلتقي ببشار الاسد أو رجاله باستمرار !!

كان الربيع العربي قد بدأ من تونس , وارسل رياحه الأولى عبر الفضاء العربي الملبد , كانت تطاهرات تونس الاحتجاجية قد أكملت اسبوعها الثاني , وازدادت عنفا واتساعا , ومع ذلك لم يتوقع أحد من هؤلاء المفكرين والصحافيين المطلعين على أدق المعلومات أن تؤدي هذه الاحتجاجات بعد أيام إلى سقوط نظام بن علي القوي المعتمد على أجهزة الجيش والاستخبارات والقمع اللامحدود , ولم يشر أحد منهم , لا من قريب ولا بعيد إلى احتمال ان تنتقل هذه الرياح إلى بلد كسوريا , جعل نظامه منه قلعة أمنية حصينة .

هذا الفشل في توقع الاحداث التي كانت على بعد اسابيع فقط لم يكن أبدا بسبب قصور عند أحد من هؤلاء الذين وصفتهم بالأهم والأبرز بين أهل الفكر في لبنان , بل بسبب عوامل عديدة , بدليل أنه لا الثلاثة , ولا سواهم في العالم , بل ولا أجهزة أمن الدول الكبرى , ولا مراكز البحوث , ولا دوائر استشراف المستقبل تنبأ أي منها بشيء مما كنا ذاهبين إليه في مركبة فضائية عابرة للزمن , بدليل أن الدول الغربية الكبرى تصرفت حتى سقوط بن علي بدون حذر ولا احتياط , وظلت تراهن على إخماد الاحتجاجات واستمرار النظام القديم , ولم تتصرف بطريقة أخرى إلا بعد أن سقط الديكتاتور التونسي , وبدأ التسونامي العربي يضرب نظام الفرعون المصري , ويتجه نحو طرابلس الغرب , وصنعاء جنوبا , وسوريا شرقا .. إلخ .

إنه فشل موضوعي مبرر إذن من حيث المبدأ , لأن الشارع العربي فاجأ الجميع بما كان يختزنه من مشاعر تذمر , وغضب , وسخط , ونقمة , وهوان , وإحباط , وجوع , وفقدان الامل واليقين بالمستقبل , مشاعر كانت تتفاعل وتستعر في داخل بركان هائل يمتد من المحيط إلى الخليج , لكن غرور القوة , وقوة الغرور منعا طغاة العرب من تحسس مشاعر هذا البركان الجماعي الخطير , أو حتى استشعار احتمالات انفجاره وحممه , و لو من باب الخوف غلى الكرسي , لا من باب المسؤولية والمشاركة بالهموم الانسانية , وقد انتقلت هذه الحالة , حالة العمى عن رؤية أضخم بركان في العالم , إلى دوائر الغرب الأمنية والسياسية والبحثية , بل والاقتصادية ذات الحساسية الفائقة . والغريب أن هذه الحالة لم تتكون بين يوم وليلة , بل ظهرت أعراضها منذ عشرات السنين , وفي مناسبات عديدة , وكان من باب العمى البصري والعمى النظري في أن واحد ألا ترى نذره أبدا , وألا تتوقعه . وخاصة دوائر الغرب التي اطمأنت إلى الانظمة الحليفة لها , ووضعت رهاناتها كافة عليها دون سواها , وأعمت أعينها عن التنبؤ الاستباقي , بل وسمحت لذاتها بانتاج معارف ونظريات تصنفنا كشعوب غير قابلة للتطور , أو شعوب لا تناسبها الحرية , ولا توائمها الديمقراطية , وبالتالي فلا بد أن يتكيف العالم مع استمرارها تحت حكم أنظمة ديكتاتورية وثيوقراطية وعائلية فاسدة , ثم قبلت الصمت والتزمت الحياد غير الايجابي على القمع الذي تمارسه أنظمة الحكم بكل وحشيته وتطرفه وقسوته , واعتبرته ضروريا لمحاربة غول التطرف الاسلامي الوهمي , ولم نعد نسمع منها أي اعتراض جدي لا على تأبيد الحكم , ولا على تفاقم انتهاكات حقوق الانسان !!!

إنه فشل غربي غير موضوعي إذن من حيث الموضوع , لأنه فشل جاء بقرار ذاتي نتج عن تعطيل عمل أجهزة الاستشعار العلمية والرادارات الديمقراطية تجاه الشرق الاوسط .

الشارع العربي الذي عومل بهذه الطرق والاساليب والمفاهيم غير الإنسانية سواء من جانب الزمر الاوليجارشية والعسكريتارية الحاكمة , أو من الدول الغربية الديمقراطية , وصبر عليها عشرات السنين , جاء رده خلال العام المنصرم عام 2011 بهذه الطريقة المفاجئة والقوية والمصممة على إثبات العكس , عكس تلك النظرة التمييزية , وعكس كل التوقعات . وما زال الرد مستمرا شاملا لأن الهدف ليس إسقاط حاكم هنا أو طغمة هناك , بل هو أعمق وأوسع وأشمل , هو أن يستعيد الإنسان العربي حضوره في معادلات الحساب المحلية والدولية , وأن يسترد قوته ودوره وسلطته وحقوقه في بلاده , أو في المسرح الدولي .

لذلك أقول بثقة تامة أن عامنا الذي نودعه اليوم , هو العام الأهم في تاريخنا الحديث والمعاصر , أتحدث هنا عن العرب كأمة لا عن سوريا فقط , هو العام الأكثر أهمية في تاريخ العرب , وتاريخنا الوطني السوري بخاصة , ليس هناك عام أخر شهد تحولات بهذا العمق وبهذا التأثير منذ مئات السنين , إن هذا الذي يجري اليوم سيعيدنا كعرب إلى التاريخ , ويفعل وجودنا الخامل والخامد , ربما بطريقة تشبه ما فعله الاسلام قبل 1400 سنة !

نودع العام 2011 , لكن أثاره ستظل تعيش معنا وترافقنا في الأعوام القادمة ولعقود وقرون , وسنظل نذكره كما يذكر العالم العام 1789 عام الثورة الفرنسية , أو العام 1385 عام سقوط القسطنطينية , أو عام 1495 عام اكتشاف القارة الأمريكية .

********************************

للعام الكبير 2011 أقول أيها العام العزيز .. أيها العام العظيم .. ليتك تبقى ولا تبتعد عنا , أما إذا أصريت على مغادرتنا فإننا نؤكد لك أننا سنظل نذكرك بكل الخير والحب والإجلال , ونقول لك : كل عام وأنت بخير !!