مستقبل الوطن (أفكارٌ هامة)

البراء كحيل

[email protected]

قال تعالى في محكم التنزيل :

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13

كما نعلم هناك قوانين وأنظمة ربانية لا تتغير ولا تتبدل وفطرةً فطر الله الناسَ عليها , ومن هذه القوانين الإلهية أنْ خلقَ اللهُ البشر أجناساً وألواناً وعقولاً مختلفة وجعلهم ضمن جماعات تختلف بالمسمَّيات والأفكار والمبادئ , ولم يكن الهدف ولا الغاية من اختلاف الخلق إلى مشارب متعددة وقبائل متمايزة وشعوباً غير متماثلة لم تكن الغاية من كلّ هذا زرع الخلاف والشقاق بين البشر أو أن يكون هذا الاختلاف سبباً رئيساً في العداوة والحروب والتنافس القاتل المدّمر فيما بينهم , بل يوضِّح الله لنا في كتابه أنّ غاية الإختلاف الخَلقِي والخُلُقي لكي تتكامل هذه الشعوب وتتعارف فيما بينها لقصد بناء المجتمع العالمي أو المحلي المتكامل الذي يؤدي إلى حياةٍ سعيدة رغيدةٍ يـبنيها ويرفع أسسها هذا الشعب المختلف الذي يُكمل بعضه بعضاً .

وحاشى لله أن يكون عاجزاً عن خلق البشر كلّ البشر على شكل وفكر وعقل واحد لكنّ حكمته اقتضت أن يكونوا كذلك لغاية عظيمة جليلة أرادها هذا الخالق العظيم فيقول الله :

{وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ }هود118

أي على عقيدة واحدةٍ لا اختلاف بينهم لكنّ الله خلقهم مختلفين في الأفكار والأديان والعقائد على مرّ العصور وفي كلّ عصر .

اذاً إننا نرى أن أصل الأمر هو الاختلاف ولكنَّه الاختلاف البنّاء الذي يوصل المجتمعات إلى برّ الأمان بسفينة يركبها الجميع ويتعاونون فيما بينهم لأجل الوصول إلى شاطئ السلامة وحفظاً لأنفسهم من الغرق أو الهلاك .

ومن هذه المقدمة نصل إلى أنّ المجتمعات في كلّ مكان وزمان لا يمكن لها أن تحيا وتستمر في التقدم والتطور وأنْ تواكب العصر إلاّ بتضافر جهود أبنائها جميعهم بمختلف مشاربهم وعقائدهم وأفكارهم , إلاّ أن تكون هذه الأفكار هدّامةً مدمرة , حينها يقف المجتمع كلّه في وجهها ويعمل على اجتثاثها من جذورها حتى يضمن استمرار الحياة فيه .

ومنه نصل إلى أنّ مبدأ الإقصاء للآخر والاستفراد في الأفكار والأحكام ومبدأ الفكر المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه أو مبدأ الحزب الواحد المقدس قداسة إلهية لا يصيبها زللٌ أو خلل , كلّ هذه الأفكار والمبادئ هي أفكارٌ ومبادئ هدّامة مدمّرة للمجتمع بأكمَه ما إن تدخل إلى مجتمعٍ ما حتى تنخر فيه نخر الدود في الخشب .

فمن هو الذي قال أنّ فكره لا يدخله الزلل , ومن الذي يدّعي أنّ حزبه هو الحزب الوحيد القادر على البناء وغيره من الأحزاب هي أحزابّ هدامة لا قيمة لها , عندما يدخل هذا الفكر الخطير على القوى الفاعلة في أي مجتمع فهو فكرٌ يُـنذر بالدمار والهلاك له , ولا يحمل هذا الفكرَ الخائب الطائش إلاّ مختلٌ في عقله مغرورٌ بنفسه لا يرى غيره في الساحة السياسية فهو الذي يبني وغيره يهدم وهو الذي يرفع وغيره يُخفض .

بينما نرى الدول المتحضرة المتقدمة التي ارتفع شأنها وذاع سيطها وكبر مقامها يجتمع كلّ أفراد هذه الدولة كلّ في حزبه مهما تعددت وكثرت يعرض كلّ واحدٍ منهم طريقته وخطته لبناء هذه الدولة وتحكمهم فيها صناديق الاقتراع التي يختارها الشعب بكل شفافية ومصداقية فيصل إلى سدّة الحكم الأجدر والأفضل لكي يعمل مع منافسيه على رفع شأن هذا المجتمع على جميع الأصعدة دون استفرادٍ بالسلطة أو اقصاءٍ للآخرين فهناك الأحزاب التي لم يوصلها الاستفتاء إلى الحكم تعمل فيما بينها على تشكيل معارضة بنَّاءة تراقب الحزب الحاكم وتعمل على مساعدته ومساندته في الصواب , ومحاسبته ومخاصمته في الزلل والخطأ وكلّ هذا ضمن اطارٍ برلمانّي ووفق أطر قانونية متفقٍ عليها من قبل الجميع , وهَبْ جدلاً أنّ ذلك الحزب الذي أوصلته صناديق الاقتراع إلى الحكم هبْ أنّه ليس بجدير بالقيادة ولا بالحكم فعلى أسوء الأحوال تعيش تلك الدول نظاماً ديمقراطياً شفافاً لا يستمر فيها الحزب الحاكم إلى الأبد ولا يورِّث فيه الأب الولد عرش الملكِ ولا كرسي الرئاسة , فإن كان اختيارُ الشعب له ليس بالصواب فلا يعني ذلك نهاية العالم بل إنّما هي فترةٌ انتخابية يمضي بعدها غير مأسوفٍ عليه ويختار الشعب الأصلح والأفضل في الفترة التي تليها .

وقد يخرج علينا من الشباب المتحمس أو العلماء الذين لم يدخلوا خطّ السياسة جيداً من يقول: إنّ هذا المبدأ في التعددية الحزبية في المجتمع مخالفٌ لتعاليم شرعنا أو غير مقبولٍ فيه ونقول : إنّ المجتمع المدني في المدينة المنورة المباركة على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم كان هذا المجتمع في بداية الدولة الإسلامية مجتمعاً فيه التعددية التي تبني المجتمع وتتعاهد فيما بينها لأجل نصرته وحمايته فكما نعلم قد أقام النبي الكريم صلى الله عليه وسلّم المعاهدات مع يهود المدينة وشاركوا المسلمين فيها عيشهم على أن يتناصروا ويتعاونوا في بناء هذه الدولة الحديثة وحمايتها من أي اعتداء , ولولا غدر اليهود ونكسهم للمعاهدة لما خرجوا من المدينة ولكانوا يعيشون فيها مع النبيّ الكريم والصحابة الكرام بكلّ سلامٍ وأمان , ونعلم أيضاً أنه كان في هذا المجتمع المنافقون الذين كان يعلمهم الجميع في المدينة وقد عمل الكثير منهم على أذية المسلمين بل لقد أساؤوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في نفسه وعرضه ومع ذلك كان النبيّ الكريم يرفض فضحهم أو قتلهم حفاظاً على تماسك المجتمع وحتى لا يدخل الأعداء من هذا الباب وهو باب اقصاء الآخر مهما كان فكره وعقيدته وسلوكه

ونحن اليوم في سوريا الحبيبة أشدّ ما نكون إلى هذا الخطاب المعتدل الذي يقبل الآخر بكلّ حبّ وصدقٍ ويعمل معه لأجل السير بهذا الوطن الحبيب إلى أعالي القمم على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية وغيرها .

نحن نحتاج إلى عقولٍ نيرة تسير بالوطن بعد زوال النظام على مبدأ الدولة المَدَينة التي يحكمها الشعب عن طريق صناديق الاقتراع التي توصل من يختاره الشعب إلى كرسي الحكم بكلّ شفافية وصدقٍ , وما الضير ولماذا الاختلاف إن كان الجميع يعمل لأجل هذا الوطن ويضّحي في سبيله بكلّ مايملك , فكائناً من كان الذي يصل إلى الحكم إن اختاره الشعب فالكلّ يجب عليه أن يقبله ويعمل معه لأجل هذا الوطن بغض النظر وصرف الطرف عن فكره وعقيدته ومبادئه , وهذا لا يعني أن يتخلّى المرء عن مبادئه ومشروعه أو فكره وعقيدته بل على العكس فكلّ يطرح ما بين يديه ويدلي بدلوه وعلى الشعب أن يختار من يراه كفؤاً لقيادته والوصول به إلى الدرجات العليا بين الكبار في العالم .

إنّ زرع هذا الفكر وهذه المبادئ البنّاءة بين الأحزاب والأفراد في وطننا الحبيب يعمل على صونه وحفظه في قابل الأيام , أمّا إن سيطر علينا حبّ التملك و"الأنا المعصومة" والعمل على اقصاء الآخر إن سيطرت علينا هذه الأفكار الهدّامة فسلامٌ عليك يا وطني ونقول يومها يا ليته بقي النظام الفاسد الغادر . على الجميع أن يزرع في فكره وقلبه تقبّل الآخر مادام هذا الآخر يعمل لأجل الوطن , ومادامت الغاية السامية واحدة والهدف النبيل واحد فلا ضير ولا بأس أياً كانت الوسائل التي نصل بها إلى تلك الغاية النبيلة والهدف السامي وهو بناء المجتمع السوري المتحضر والدولة السورية المَدَينة الديمقراطية الحديثة المميزة على جميع الأصعدة

وعليه نقول إنّ مجتمعنا الحبيب ولنكن صادقين وواقعيين مع أنفسنا هذا المجتمع فيه الإسلامي (الإخواني – السلفي ) وفيه العلماني واليساري والليبرالي والناصري وحتى البعثي وغيرها , وكلّ هؤلاء لا يجب اقصاء أحدهم من الوطن فكلهم في النهاية أبناء هذا الوطن مع اختلاف مشاربهم وأفكارهم وعقائدهم , فنحن نقبل الجميع والكلّ يُقدِّم طرحه للشعب والشعب هو الذي يحكم في النهاية وحتى لو قرر الشعب أن يُبقي على البعث فهذا اختياره وهذه ارادته التي يجب على الجميع احترامها من اسلاميين وعلمانيين وليبراليين وغيرهم .

والسؤال المهم الآن هل يتمتع الجميع في وطننا الحبيب بهذا الفكر المنفتح وهذا القانون المميز الذي يصون وطننا من الفتن والاقتتال على السلطة ؟؟؟

نتمنى أن يكون الجميع على هذا المستوى من الوعي والفهم وقبول الآخر كائناً من كان .

أخيراً لا بدّ من الإشارة إلى أمر مهم وهو أنّ الفكر والتفكير والعمل فيما بعد نجاح الثورة بإذن الله هو السعي بكل الإمكانيات وعلى جميع الأصعدة ومن كل الأحزاب والقوى , السعيُ إلى بناء سورية الدولة الحديثة المميزة والمتميزة على جميع المستويات , وليس الهمّ ولا الهدف ولا الشغل الشاغل هو الانتقام أو الثأر مع تمام قبولنا بأن يصل كلّ المجرمين إلى قفص المحكمة العادلة التي يحكم فيها قضاةٌ شرفاء , ولكن علينا أن نتذكّر حينما دخل النبيّ الكريم مكّة يوم فتحها, دخلها وهو خافض الرأس حتى كادت لحيته أن تلامس ظهر دابته من شدة تواضعه وحفاظاً على ماء وجه أهل مكة وهم الذين فعلوا به وبأصحابه الأفاعيل , ويقول بلالٌ يومها منادياً رافعاً صوته ثائراً على الظلم والظالمين: (اليوم يوم الملحمة اليوم تذّل قريشٌ وأهلها ), فلا يُعجبُ النبيَ الكريم كلامُ بلال ويقول عليه السلام : (بل اليوم يوم المرحمة اليوم تعزّ قريشٌ وأهلها ) .

وإنّما أردت من هذه الخاتمة أن أوضح وأبين ولربما أطمئن أولئك الذين يظنون أن نجاح الثورة هو نهايتهم أو اقصاؤهم إلى الأبد وهذا لا يمكن أن يكون وخاصة إذا وصل الإسلاميون إلى سدَّة الحكم فعقيدتهم ومبدأهم وخوفهم من الله يمنعهم من الثأر من الأبرياء أو اقصاء الآخر .