إلى أبناء الشام و محبيها

سليمان أبو الخير

[email protected]

لستم و الله بخلاء، فالبخل ليس من سجاياكم، لعلها أزمة ثقة، لا أظنها تتجاوز ذلك...

و إلا فلم التمنع... والنار قد دنى أوارها من مضاربكم...

أتشبعون وعلى الحدود هناك من يجوعون...

أتلبسون و في صقيع التشرد عراة من إخوانكم و أعراضكم....

أتتمرغون في النعيم من شتى الأطايب، و إخوانكم قد اجبرهم الباغون على سف التراب...

يا أبناء ديار الشام!

إما أن تأكلوا جميعا، و إلا انتظمكم الجوع جميعا..

إما أن تلبسوا جميعا، و إلا فانتم في العري سواء..

من كان يعتقد انه في منأى وعافية من شح نفسه فليسمع الحكاية على لسان رائد من رواد هذا العصر من البداية...

يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله:

ذهبت سنة 1946 الى مصر..و كان الطريق على فلسطين،فأقمت فيها عشر أيام،  كان لي فيها أصدقاء من الوطنيين العاملين، فلمتهم على قعودهم و تقصيرهم مع قيام عدوهم، لمتهم على تقصيرهم في جمع المال، و شراء ما يدرؤون به الخطر الداهم لأرضهم و عرضهم، فقالوا إن الأيدي منقبضة، و النفوس شحيحة، قلت:

لا بل انتم المقصرون. قالوا:

هذا تاجر من أغنى التجار، فهلم بنا إليه ننظر ما نأخذ منه؟

و ذهبت معهم إليه في مخزن كبير حافل بالشارين، و حوله ولدان له شابان يتفجران صحة و رجولة و جمالا. و كلمناه، و حشدت له كل ما اقدر عليه من شواهد الدين، و أدلة المنطق، و مثيرات الشعور، فإذا كل ما قلته كنفخة وانية على صخرة راسية، ما أحست بها، فضلا عن أن ترتج منها.

و قال: أنا لا اقصر.اعرف واجبي، و ادفع كل مرة الذي اقدر عليه.

قلت: و هل أعطيت مثل الذي يعطي تجار الصهاينة؟

قال: و هل تمثلني بالصهاينة؟

قلت: و هل أعطيت مرة مالك كله؟ فشده( من الانشداه) و فتح عينيه، و ظن أن الذي يخاطبه مجنون، و قال: مالي كله؟ و لماذا أعطي مالي كله؟

قلت: إن أبو بكر لمل سئل التبرع للجهاد أعطى ماله كله.

قال: ذاك أبو بكر، و هل أنا مثل أبي بكر؟

قالت: عمر أعطى نصف ماله، و عثمان جهز ألفاً...

فلم يدعني أكمل و قال: يا أخي أولئك صحابة رسول الله، الله يرضى عنهم، أين نحن منهم؟

قلت: ألا ترى أن البلاد في خطر؟  و أننا إذا لم نعط القليل ذهب القليل و الكثير؟

قال: يا أخي الله يرضى عليك اتركني بحالي. أنا رجل بياع شراء، لا افهم في السياسة، و ليس لي به صلة، و هذا مالي حصلته بعرق جبيني، و كد يميني، ما سرقته سرقة، فهل تريد أن ادفعه و أبقى أنا و أولادي و أحفادي بلا شئ؟

قلت: ما نطلب مالك كله، و لكن نطلب عشره.

قال: دفعت ما عليّ، ما قصرت.

و اعرض عنا و اقبل على عمله.

يا سادة بلاد الشام، و يا محبي بلاد الشام، و يا أنصار بلاد الشام اقرءوا بقية الحكاية يرويها الشيخ رحمه الله لنا كما وقعت، و يقول لو كان يجوز لعينت البلد و التاجر،

يضيف الشيخ:

و مرت سبع سنوات، و ذهبت من سنتين(أي سنة 1953) الى المؤتمر الإسلامي في القدس، و مررنا في الطريق بمخيم اللاجئين، و اقبل الناس يسلمون علينا، و إذا أنا بشيخ ابيض اللحية، محني الظهر،غائر الصدغين، رث الثياب، أحسست لما التقت العينان، كأن قد برقت عيناه برقة خاطفة، و كاد يفتح فمه بالتحية، ثم تماسك و أغضى. و ارتبك كأنه يريد الفرار. فلما انتهى السلام راغ مني و دخل في غمار الناس. و لبثت أفكر فيه من هو، و أين قابلته، فما لبثت أن ذكرته، و تكشف لي المنسي فجأة، كأني كنت في غرفة مظلمة سطع فيها النور.

انه هو، هو يا سادة.

و كلمته فتجاهلني، فلما ألححت عليه اعترف، و لم اشمت به،معاذ الله، أن يراني انحدر الى هذا الدرك. و لم أزعجه بلوم أو عتاب، و لكن كان في نظرتي ما يوحي بالكلام، لذلك استبقني فقال:

لا تقل شيئا، هذا هو المقدر، و لو كان لله إرادة لألهمني، و الهم إخواني التجار النزول عن نصف ما كنا نملك، قلت: أولم يبق لك شئ؟

فابتسم ابتسامة حزينة يقطر من حواشيها الدمع، و قال: بلى بقي الكثير بقيت الصحة و الثقة في الله، و بقي هؤلاء و أشار الى امرأة عجوز و طفل صغير.

قلت لا تيأس من رحمة الله، قال: الحمد لله أن جعلنا عبرة، و لكن أرجو أن يكون إخواننا في الشام و مصر و الأردن قد اعتبروا بنا، و نظرت الى الطفل فسمعت العجوز تقول له:

قبل يد عمك، فجاء و جسده المحمار من البرد، يبدو من ثقوب الثوب، كزر من الورد، أخذت تتفتح عنه الأكمام. كان بثوب رقيق ممزق، و أنا في المعطف الثقيل و العباءة من فوقي و أحس البرد يقرص عظامي.

و أحسست بقلبي يتمزق كتمزق هذه الأسمال، و لم يكن معي ما أساعده به، إلا أن نزعت العباءة فلففته بها، و قلت لنفسي: فليسعد النطق إن لم يسعد الحال، و رحت اكلمه فلم أجد إلا أن قلت له: أتحب بابا؟ احسب أن الشيخ أبوه، فقالت العجوز للولد: قل له: بابا في الجنة. قال: بابا في الجنة. أعادها بلهجتها كأنه ببغاء ليس يدري ما يقول فسكت حائرا ملتاعا.ثم أردت أن اقطع حبل الصمت بأي كلام، فقلت: فماذا تصنع ألان؟ قال: إنني أوفر لاشتري السكين، لأذبح الصهاينة كما ذبحوا بابا. و سكت اللسان، و نطقت العيون، لقد بكيت و بكى الحاضرون جميعا، و مشيت و أنا لا أبصر من الدموع طريقي. انتهى

و أنا بدوري كما الشيخ نشهد بان هذا التاجر لا يمثل الفلسطينيين، و إنما هو البقعة السوداء في ثوبنا الأبيض، كان هو الشاذ بينهم، و ليس هو القاعدة، لقد بذلوا من حر أموالهم ما لم يبذل كثير من قومهم.

فيا أبناء سوريا و شرفائها و محبيها من أي مشارب الأرض و فجاجها كنتم، لا تزيدوا في سواد الثوب سوادا،كونوا الأيدي التي تضيف الى رقعته بياضا، لا تقبضوا أيديكم، فيتلف الله كل رجاء صادق لكم، هذا موطن بسط اليد على اتساعها لا موطن غلها و قبضها، ابسطوها و في الحياة متسع..ابسطوها و النفس جار..و العين مبصرة لا بصيرة..ابسطوها و الأيدي ممتدة غارقة في الطول لا في القصر..ابسطوها فلعل و عسى..قبل أن يذهب الباغون من لصوص الظلام في دمشق بما بقي من اللتى و اللتيا..حيث حينها لا عسى و لا ليت أو لعل...عندها ندما يورث لا قدر الله بؤسا و فجائع لا تندمل..ابذلوا قبل أن يأتي زمن لا ينفع معه بذل..كيلا ترددوا بعدها قول ابن المقفع "أكلت منذ أكل الثور الأبيض"

و صدق الله إذ يقول " ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"

اللهم إني قد بلغت، اللهم فاشهد....