فوق كل الحريات!

محمد عبد الناصر

تملك الديكتاتوريات العربية التي نشأت على أنقاض الأنظمة الملكية في النصف الثاني من القرن العشرين واستمرت إلى اليوم أو استمرت ذيولها إلى اليوم خصائص متشابهة إلى حد غريب، فجميعها تقريبا أنظمة عسكرية عشائرية وربما عائلية أيضا نشأت إثر انقلابات عسكرية، ونحن لدينا في تاريخنا المصري الحديث انقلابان عسكريان ناجحان وحسب، انقلاب اسمه "الثورة" في 23 يوليو وانقلاب اسمه "حماية الثورة" في 11 فبراير، وكلاهما خرج بنظام ينتمي إلى الفصيلة نفسها، وقد احتفت هذه الأنظمة كثيرا بمفهوم القائد والرمز التاريخي –الذي هو الديكتاتور- وتشابهت في تمجيد القائد وفي طريقة قمعها لخصومها.. لا سيما ذلك القمع الذي يمكننا أن نسميه "القمع الفكري" عبر وسائل الإعلام التابعة للنظام.

أستمع إلى أغاني الخمسينات التي كانت تمجد جمال عبدالناصر وتدعم فكرة عسكرة الدولة في ذلك الوقت فأشعر بأنني أستمع إلى مزاعم النظام السوري اليوم، أو نظام طنطاوي العسكري الذي خلف حسني مبارك في معظم الأشياء، وتفوق عليه في صفحات كثيرة من صفحاته السوداء.. ففي حين يجيش النظام الشعب ضد النظام السابق وفكرة الاحتلال والخطر الأجنبي ويبدو كأنه ثوري أكثر من الثوريين، تجده يستعمل فكرة الخطر الأجنبي هذه بطريقة ذات ملامح محددة يمكننا أن نرصدها ونفهمها جيدا في إطار العبارة المشهورة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، فنحن دائما في خطر، لا وقت لأي شيء إلا التصدي لهذا الخطر، لا وقت للحريات، لا وقت للديمقراطية، لا وقت لحقوق الإنسان، لا وقت لأي شيء إلا دعم النظام لمواجهة المخاطر المزعومة التي تظل إلى الأبد على نفس المستوى من الخطورة الشديدة، والذي سيخرج عن هذا الإجماع ويُطالب بأي شيء هو بالضرورة تابع للعدو أو يعمل لحساب أجندات خارجية ويجب قصفه ومواجهته كما تتم مواجهة العدو بالضبط، وربما أقسى!

أستمع مثلا إلى أغنية عبدالوهاب "حرية أراضينا فوق كل الحريات، كل الدنيا علينا، ده احنا والمجد اخوات"! فأشتم رائحة نظام يبحث لنفسه عن شرعية ماكرة لقمع كل الحريات بدعوة حماية حرية الوطن وأمنه، لأن كل الدنيا تتآمر علينا دائما وتريد أن تسقطنا بسبب أدوارنا الريادية والقيادية والنابوليونية!! نظام الأسد يقول هذا الكلام بالحرف الواحد، ونظام صدام ظل يقوله، ونظام طنطاوي اليوم يكرره ببراعة، ولكنه في الحقيقة.. يقمع "كل الحريات" ولا يحقق "حرية أراضينا" في النهاية، وسرعان ما يظهر حجمه الحقيقي المؤسف مع أول مواجهة حقيقية، فليس باستطاعة جيش مهني واحترافي أن يعيش وينجح في نظام يعبد الشخص ويضعه قرينا للوطن، فتجد أن "مصر أولا" ترجمتها الحقيقية هي "المجلس العسكري أولا"، و"مصر فوق الجميع" تعني أوتوماتيكيا "الجنرال فوق الجميع"، ومحاولة إسقاط الديكتاتور هي أيضا محاولة "لإسقاط الدولة".. فالديكتاتور هو الجيش والجيش هو الديكتاتور، وإذا ما مرض الديكتاتور أو مات لا قدر الله يجب أن نتصور أن البلد سيسقط، لأنه ليس هناك من يمكنه الحكم قبله ولا بعده! وربما يصل الأمر ببعض المجندين البسطاء الذين تم تجييشهم لحماية الديكتاتورية إلى الاعتقاد بأن "الديكتاتور" لا يموت، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ومن مهام الرئيس في الدستور المصري أنه "يسهر" على حماية الشعب، ولا تعرف بالضبط ما هو التوصيف الدستوري لكلمة "يسهر" هذه وما إذا كانت من صفات الألوهية أم لها تعريف قانوني ودستوري لا نعرفه، أم أنها مجاز.. والنصوص الدستورية في الدنيا كلها لا تقبل الكلمات الغائمة، لكنها عندنا تقبلها لأن "الديكتاتور" يسهر ويحرس ويحمي ويصول ويجول وينتصر دون أن ندري، "طويل العمر يطول عمره" كما قالت الجملة الحوارية العظيمة في فيلم فؤاد المهندس اللطيف الذي تنافسه اليوم الشركات المسلحة للإنتاج السينمائي في كل مكان.

إننا نحن ثوار مصر ما خرجنا لنهدم الوطن ولا لنبدد مصر، فمصر عندنا "فوق الجميع" فعلا، وليست فوق الحريات والعدالة والديمقراطية التي تسكن وجدان أبنائها، إن مصر فوق المشير، وفوق المجلس العسكري، وكل الحريات فوقهم.. لأنهم ليسوا هم "حرية أراضينا".. حرية أراضينا حمتها أجيال وأجيال من الفلاحين والطلبة والعمال والدعاة والضباط المخلصين الذين لا يمكن أبدا اختزالهم في شخص ولا في مجلس ولا في عائلة، والدنيا ليست كلها علينا.. نحن لدينا عدو نعرفه ويعرفنا.. حيدته الأنظمة العسكرية الديكتاتورية أعواما طويلة، واستبدلته بأعداء آخرين وهميين.. حتى تصير الحركات الاحتجاجية المصرية اليوم تعمل من أجل بناء دولة شيوعية تابعة للاتحاد السوفييتي.. مع أنه لم يعد هناك اتحاد سوفييتي ولا كتلة شيوعية، أو تابعة للخلافة الإسلامية.. على الرغم من أنه لم يعد في الوجود خلافة إسلامية، ولكننا نعمل لحساب عدو مجهول بطبيعة الحال، ونموت أيضا على يد المجهول، لأننا نطالب بالمجهول.. ونحن مجهولون، والمُعرَّف الوحيد في مصر اليوم هو "المجلس العسكري".. فلنلتف جميعا حول قيادته المجيدة إذن مهما انتهكت محارمنا أو اغتصبت حرياتنا.. "فوق كل الحريات"!!