السلاطين الشعراء

"أكثر من عشرين شاعراً

من سلاطين آل عثمان"

د. محمود خليل

كان الشاعر قديماً، لسان قومه وعشيرته، وكان ميلاد شاعر فى قبيلة ما، يعنى ميلاد ديوان جديد، لتخليد ذكرها ورفع شأنها، وإعلاء بيانها. ومن ثم كانت تحتفل كل قبيلة ترزق شاعراً جديداً، احتفالها بتنصيب أمير جديد، فكيف الأمر إذا كان هؤلاء الشعراء الذين سنتحدث عنهم، هم سلاطين المسلمين وخلفاءهم، في فترة من أمجد وأزهى عصور الحضارة الإسلامية.. هؤلاء هم السلاطين الشعراء.. من خلفاء الدولة العثمانية.. الذين بلغ عددهم أكثر من عشرين من السلاطين الشعراء المجيدين.. أشهرهم السلطان محمد الفاتح، ومنهم خمسة تعاقبوا على العرش العثماني هم: السلطان سليمان القانوني ووالده سليم الأول ووالده بايزيد الثاني ووالده محمد الفاتح، فاتح القسطنطينية ووالده مراد الثاني..

فمراد الثاني (1403-1451م) هو الشاعر الرائد في السلسلة السلطانية الفاتحة الشاعرة، هو أول سلطان من آل عثمان ينظم الشعر، ويؤدي دوراً مهماً في تاريخ الأدب التركي، وهو وإن كان مقلاً في أشعاره، إلاّ أنه كان على وعي كامل برسالة الأدباء والشعراء، الذين كانوا لا يفارقونه حتى في حروبه وغزواته، وفضله على الأدب لا ينكر، من خلال لغته السهلة الواضحة، وأغراضه القريبة البسيطة، التي جعلت الناس يرددون أشعاره على ألسنتهم كطرائف ولطائف من الكلام الطيب الجميل، وبلغ من احتفائه بالشعر والشعراء، أن كان يدعوهم إلى مجلسه يومين كل أسبوع، ويطارحهم الأشعار والأفكار ويجالسون أهل الفكر واللغة الذين يديرون حركة الترجمة من التركية إلى العربية ومن العربية إلى التركية، مما جعل قصره الحاكم، أقرب إلى الأكاديمية العلمية.. وقد ترك وصيته شعراً، يقول فيه: "فليأت يوم يرى الناس فيه ترابي"؛ لأنه كان يكره أن يبنى على قبره، أو يشيد له ضريح..

الفاتح شاعراً

وبعد وفاة مراد الثاني، خلفه ولده السلطان محمد الفاتح (1431-1481م) عبقري الجهاد والسياسة، الملقب بأبي الخيرات، حكم ما يقرب من ثلاثين عاماً.. كانت كلها خيراً وفتحاً وعزاً وتمكيناً للإسلام والمسلمين، وبه تحققت نبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لتفتحن القسطنطينية، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش".

وهو الذي تولى الإمارة وهو ابن العشرين من عمره، إلا أنه كان أمة وحده، وقد تجلت عبقريته المتفردة في فتح القسطنطينية عام 1453م وهو ابن الثانية والعشرين من عمره القصير الميمون..

وكان السلطان محمد الفاتح ذا ثقافة واسعة، ومواهب جمة.. غلب على إمبراطوريتين، وفتح سبع ممالك، ورفع راية الخلافة على مائتي مدينة، وشيد المئات من المساجد ودور العلم، وأجاد اللغات العثمانية، والفارسية، واللاتينية واليونانية والسلافية والعبرية، وتبحر في اللغة العربية وآدابها، وتمكن من بلاغتها ونحوها وصرفها وعروضها وبحورها (موسوعة اللغة التركية وآدابها، اسطنبول، 1977م) وكانت الكثرة في مكتبته الخاصة من نصيب اللغة العربية، ودرس بها الآداب والرياضيات والفلك والفلسفة والكيمياء.

وديوان الفاتح يسمى ديوان "عوني"... وهو الاسم الشعري الذي اتخذه لنفسه، ليوقع به أشعاره، ومعناه "المخلص".. وقد كان هذا الديوان مجهولاً، حتى أخرجه المستشرق الألماني "جورج جاكوب" ضمن مجموعة خطية لأشعار الفاتح، ونشره فى برلين عام 1904م. ثم أعيد نشر الديوان مرة أخرى عام 1918 وعام 1959م باسطنبول. وقد قام رائد الدراسات الأدبية المقارنة العلامة د. حسين مجيب المصري بترجمة بعض معاني أشعاره منها:

أنا عبد لسلطان من عبيده

وهذا البستان إلى ذوى وذبول

وإذا ما وافى الخريف فلا ربيع ولا رياض

ويتناول الدكتور عبد الوهاب عزام طرفاً آخر من معاني أشعار الفاتح، حيث يشير فى مجلة (الرسالة، مارس 1933) إلى إحدى قصائد الفاتح التي يقول فيها:

لهذه الألوان من الآلام خلقتني يا رب

قد اجتمع على إحراقي وهدمي...

حرقة القلب، ونار الآهات، ودمع العين

ومن أشعاره الإسلامية الراقية يقول السلطان "محمد الفاتح" في إحدى قصائده:

نيتي: امتثالي لأمر الله "وجاهدوا في سبيل الله".

وحماسي: بذل الجهد لخدمة ديني.. دين الله.

وعزمي: أن أقهر أهل الكفر جميعاً بجنودي: جند الله.

وتفكيري: منصب على الفتح، على النصر والفوز، بلطف الله.

وجهادي: بالنفس والمال، فماذا في الدنيا بعد الامتثال لأمر الله.

وأشواقي: الغزو الغزو.. مئات الآلاف من المرات لوجه الله.

ورجائي: في نصر الله، وسمو الدولة على أعداء الله.

ومن مآثر هذا السلطان الفاتح العظيم، وتواضعه الجم، أنه عند دخوله القسطنطينية فاتحاً مظفراً، لم يستشهد ببيت من أشعاره، بل استشهد ببيت لشاعر فارسي، ترجمه د. حسين مجيب المصري في كتابه تاريخ الأدب التركي (القاهرة: 1951م) يقول:

البوم تنعقد على قباب الأكاسر، والعنكبوت تضرب نسيجها على قصور القياصر"... رحم الله فاتح القسطنطينية، أبا الخيرات السلطان الشاعر محمد الفاتح.

بايزيد.. الشاعر الخطاط

أما بايزيد الثاني (1447-1512م) ابن الفاتح الأكبر محمد الفاتح،.. فقد كان ماهراً في فن تحسين الخط العربي، ومعه خطاط عصره "حمد الله" وكان متضلعاً بالعلوم العربية والإسلامية، يمتاز شعره بالعمق والطلاقة والإحساس الديني الدافق، وكثرة التدبر والتأمل في صفحة الكون البديع.. يقول في معاني إحدى قصائده:

استيقظ من نوم الغفلة، وانظر إلى الزينة في الأشجار

انظر إلى قدرة الله الحق،.. انظر إلى رونق الأزهار

وافتح عينيك لتشاهد حياة الأرض بعد الممات

السلطان سليم الأول خليفة حافظ الشيرازي

أما رابع هؤلاء السلاطين الشعراء، فهو سليم الأول (1470-1520م) بن بايزيد الثاني.. الذي نظم شعره بالفارسية.. لغة أكابر الشعراء في زمانه.. حتى قيل إنه الشاعر الذي سيتلو حافظ الشيرازي، أشعر شعراء الفرس.. وفى شعر السلطان سليم الأول.. رقة وجمال، وكتب الشعر أيضاً بالعربية التي كان يجيدها إجادة تامة..

وقد قام المستشرق الألماني "باول هورن" بطبع ديوان سليم الأول بأمر من الإمبراطور الألماني "غليوم" لإهدائه إلى السلطان عبد الحميد الثاني عام 1904، رمزاً للصداقة الألمانية العثمانية، ثم قام الدكتور "نهاد طارلان" بترجمة الديوان ونشره بالتركية في اسطنبول عام 1946م.

ثم خلفه السلطان، سليمان القانوني (1495-1566م)، الذي عاش في السلطنة ستاً وأربعين سنة في جهاد موصول، حتى لقي الله أثناء حصاره لقلعة "سيكتوار" بالمجر.. ويغلب على أشعاره الزهد والتدبر والتفكر، والخشوع والخضوع لله تعالى.. ومن ذلك.

فلننشر الراية العظمى.. ونردد اسم الله

ولنسيّر الجيوش نحو الشرق.

فرض الله علينا حماية الإسلام.

فلماذا نخلد للراحة فنحمل الذنوب

إني آمل أن يحسن تمثلنا بقيادة أبي بكر وعمر

أيها الشاعر "محبي": سر على بركة الله وسيّر الجيوش نحو الشرق من الحدود

وكان يكنى نفسه في أشعاره باسم (محبي).. رحم الله السلطان المجاهد، الذي استشهد على ظهر جواده، في حصاره لقلعة المجر الحصينة عام 1556م.

شعر السلطان عبد الحميد خان على جدران حجرة سيد الخلق

ولعل خير خاتمة لهذه الكوكبة من الشعراء السلاطين، هي قصيدة الدرة المضيئة التي نظمها السلطان عبد الحميد خان بن السلطان أحمد عام 1191ه، واستحقت بإخلاص ناظمها، وحبه الصادق للمصطفى صلى الله عليه وسلم، أن تنقش على جدران الحجرة النبوية الشريفة، وقد استخرجناها من كتاب "مرآة الحرمين" لأيوب صبري باشا.. وهى قصيدة مكونة من ستة عشر بيتاً من الشعر العربي الرصين، وقد أُفرد البيت الحادي عشر منها، بالكتابة على شباك الحجرة النبوية، أمام دكة الأغوات، أي في جهة المحراب المعروف بمحراب التهجد، والبيت المذكور هو:

ربُّ الجمال، تعالى الله خالقه       فمثله في جميع الخلق لم أجد

رحم الله هؤلاء السلاطين الفاتحين.. الذين حملت دولتهم وخلافتهم راية الإسلام والمسلمين قرابة السبعمائة عام، فكانوا أطول الدول عمراً، وكانوا عند وصية جدهم (عثمان: ت 1360م) الذي أوصى أبناءه، وصية غالية جامعة.. ثم قال لهم فيها: "نحن بالإسلام نحيا.. وللإسلام نموت، وبالجهاد يعم نور ديننا كل الآفاق، فتحدث مرضاة الله جل جلاله".