في غرفة المدير

لم تمض دقائق على انصراف طلاب الفترة الصباحية حتى كان معظم الأساتذة و الآنسات قد اجتمعوا في غرفة المدير بناء على طلبه لمدارسة المناقشات الحامية التي جرت بين بعضهم اليوم و كذلك أمس مع طلاب الفترة المسائية الذين ازداد حراكهم و طال لسانهم و سبوا بشّارهم! و توزع الجميع على الأرائك و الكراسي الخيزرانية والمنتشرة في أرجاء المكان, و ترأس المدير المجلس من على طاولة معدنية سوداء قديمة انتصب عليها شعارا الحزب و الشبيبة بينما ارتفعت صورة بشار بزيه العسكري شامخة على الجدار ...

افتتح المدير الكلام مشيرا الى استاذ القومية قائلا قد طلبتكم اليوم بناء على طلب من الأستاذ, الذي أومأ برأسه بالايجاب مختطفا من المدير الخطاب: أشكركم على الحضور و سعة الصدور, فقد أحببت بأن أُعطى فرصة كلام صادق و موضوعي ينطلق من تجربة حياة واقعية غير تخيلية ولا إفتراضية, تجربة إمتزجت بحياة مدينة اسمها دمشق و بحياة وطن اسمه سوريا و أشار إلى لوحة جدارية نقش عليها (سورية ياحبيبتي) ... هنا بادر أستاذ العربي و قال: عفوا يا حضرة الزملاء, و قد كررت هذا الكلام مرات, من مصائب حزب البعث بعد ان أذاقنا الويلات أنه حول الجمهورية الدستورية الى ملكية وراثية وغير جنس الوطن فجعله مؤنث, صحيح اننا نقول الجمهورية السورية لان السورية صفة لكننا لا نقول الجمهورية السوريا, افهموني ياناس وطننا مذكر اسمه سوريا, ثم استدرك حماسه الزائد قائلا: فقط للتوضيح زملائي الكرام ...

نعم, حسنا حسنا, تابع أستاذ القومية الكلام, هي حياة لا تنطلق البتة من  إنقسام فرض علينا اليوم من أن نكون إما موالين أو معارضين. أرجو أن لا أجبر على السقوط في هذه المتاهة دون أن أولى ما جنيته من عمر طويل قضيته بل عشته بتفاصيله و بكل مايولده الإحتكاك العملي و المباشر مع مشاهد وصور وحالات تصلح لإخراج عشرات المسلسلات من بقع الضوء المثيرة المحزنة بل والمبكية أيضا, فمن الضرورة أن يتخذ المرء موقفا ذاتيا قويا وصلبا هو وليد فهم و رصد لتجربة حياة ... و هنا قاطعه أستاذ التاريخ:لست يا استاذ الوحيد الذي رد فعله موضوعي مدروس ناتج عن تجارب و خبرة و علوم! و التفت إلى الجمع قائلا, اليس الكثير منا كذلك ايضا؟ اليس كلّ منّا رأى وسمع وعايش المئات من القصص المبكية المريعة المؤلمة التي صبغت حياته و خيمت على شخصيته المكبوتة التي ترى الظلم و القمع و الاستبداد و لاتجرؤا ان تفتح فمها امام اقرب الناس؟ وتسمّر الجميع و قد فغروا الأفواه منتظرين رد الاستاذ الذي سكت هنية ثم قال:

ربما, لكني لا اريد لأحداث الساعة المرعبة و المريعة و ما أفرزته أن تجعلنا نصيغ مواقفنا بين خيارين شموليين موالاة أم معارضة, هنا قاطعه أستاذ التاريخ مرة أخرى قائلا: أليس هذا من نتاج مرحلة الاسد و قمعه و ايدولوجيته, إما معي و إما ضدي؟ و على اية حال بعد هذه الاشهر التسعة الطوال أي نتاج ساعة او رد فعل لحظي قد يندم عليه الانسان, لقد صرنا في اغتصاب جماعي من عدو مجرم همجي –تنكر بصورة مَحْرَمٍ من العائلة - لثورة مسكينة حملت حملا ثقيلا لكنها ستمر به باذن الله مكثت فيه تسعة اشهر و قاربت المخاض, و بعد المخاض نفاس ثم فرح عامر بمولود جديد تنسى فيه الامها و تحيا و تنتقل الى مستقبل عامر واعد حديث ..

اسمع, قال استاذ القومية بهدوء: ذاكرتنا الوطنية والقومية ما زالت حية و لم تتلف بالألزيهايمر بعد, هي قادرة في كل لحظة أن تستعيد أحداث الماضي المعاش  البعيد والقريب بثوان وهي ذاكرة لنفس حرة مستقلة تتوقف أينما شاءت عند كل حدث طواه الزمن لتكشف عنه وتعريه دون خوف أو وجل. وعندما أقصد بتعرية الأحداث فإنني لا أذهب إلى التعرية الأحادية لنظام سياسي أو رئيس نظام لأنني لم أنخرط في أي تنظيم سياسي ولم أمارس أي حياة سياسية ولله الحمد، ربما هذا ما أبقاني نظيفا صاحب موقف حر, عفوا, ابتدر أستاذ الديانة الكلام: و لكن يا أستاذ, صحيح ان دراسة الاحداث بشكل عام امر مطلوب لكنها تحتاج الى بيئة حرة مستقلة يمكن للفرد فيها ان يتخذ القرار, أمّا ان ندافع عن نظام احادي و رئيس ابدي و فكر ايدولوجي يقوم على دكتاتورية تحسب سلطتها إلهية, فامر غير مقبول ... ثم الا ترى ان كلامك مبطن باتهام لكل انسان دخل حزبا او انخرط في تنظيم او مارس السياسة في سوريا او الفيليبين بانه متقوقع محصور, عن التفكير بحرية او استقلالية ممنوع ؟ الا ترى انك بادعائك ذلك صنعت لنفسك مجدا و منهجا او حزبا و تقوقعت في داخله و انحبست بين حيطانه و انت تظن انك حر المواقف؟ لا انكر ان تكون نظيف اليد و لكن حرية المواقف امر اخر, والامور نسبية, الشيوعي يظن نفسه حر المواقف لانه بظنه لم يسلم عقله لله لكنه في الحقيقة جعل النظرية له اله, العلماني مثله هو الثاني و الشهواني كذلك لانه عبد فرجه و الفاسد عبد فساده *أفرأيت من اتخذ الهه هواه و اضله الله على علم* نظافة اليد لا علاقة لها بالاحزاب, بل بتكوين و مجتمع الانسان, و اما الموقف الحر فيحتاج اولا الى انسان حر يعيش في مكان حر يدار بفكر حر, مجرد وجهة نظر يعني.

ماشي ماشي, تابع استاذ القومية لكنني أنزع إلى رصد الحدث الوطني والقومي بكل ما يصنع هذا الحدث من المجتمع تركيبته وحالاته الإجتماعية والإقتصادية والثقافية ومقدار وعيه لدوره المنفصل عن أي نظام سياسي أو مؤثر خارجي  في التكاتف والتلاحم على مستوى القاعدة المجتمعية للتحسين وللإرتقاء بالبنية الثقافية أولا و بالسعي للتخلص الذاتي من الآفات المجتمعية المتخمة بعلل الأنانية والفردية وبخصلة النبذ المفرط لاي عمل جماعي إبتداء في العمارة السكنية ثم الحي فالمؤسسة او مكان العمل سواء  الحكومي أو في المجتمع المدني ...

قفز استاذ التاريخ من مكانه يا أستاذ ... يا استاذ ... قد ترصد الحدث, قد تُنَظِّر, و لكن بالله عليك يعني, اتعتقد ان بالامكان تطبيق هذا الكلام و تحويله الى حقيقة من بعد خيال في بيئة ديكتاتورية فردية يحكم الديكتاتور الفرد فيها كأنه اله؟ انت في مكانك في المدرسة في الجامعة في الوزارة في المحافظة  قد ترى خطأ فتحاول لاصلاحه المستحيل واذا سالك احد عن رايك تجيب و لكن بالنتيجة الامر للمدير للكبير - الديكتاتور - او لواحد تاني جالس على المكتب الفلاني لاوئ حنكه و يتكلم جبلاوي و هكذا حدث و لا حرج تسير الامور من الاب في الاسرة الصغيرة صعودا الى راس النظام الله ياخده بلا رجعة, انتبه على كلامك يا أستاذ تاريخ يا محترم, قالها المدير بعصبية تجاهلها الأستاذ متابعا حديثه خذ مثلا الضابط لما يستقيل او يطوطولوا من الجيش ليستريح يجعل حياة اسرته جحيم لانه يريد ان يعكس حالته العسكرية الديكتاتورية على مرآة اولاده و بيته وعلى الجميع تنفيذ الاوامر من دون تردد او تذمر, يعني العمل الجماعي هو من يفرض ايقاعه – حافظ اسد رمز الثورة العربية - و العمل الجماعي الذي تكلمت عنه يجب ان يتم بناء على رغباته فكيف نحاسب اسرته معه؟ بينما بالمقابل انظر الدول الديمقراطية الحرة المنفتحة الكل يشارك لان له راي و يعلم ان رايه محترم مقبول قد يُفرض و يستمع له حتى اكبر الرؤوس, هذا يقلل الاخطاء بل يعدمها و يشرك الجميع في المسؤولية و تحمل الاخطاء والمحاسبة على السواء, انا معك من الضروري ان يعمل الجميع للوطن كما يحدث في الدول المتقدمة بغض النظر عن المذهب او الحزب او العمل, لكن أخبرني بالله عليك كيف تطبق ذلك عندنا و النظام – الذي تدفع عنه - يكرس عكس هذا الكلام؟؟ تريد ان ينسى العبد انه عبد بل يفكر بمسؤولية و يعمل للقضية و ينسى السيد انه اسد فيتنازل عن كرسيه و يسلمه للاكثرية!! كيف يعمل و يفكر الانسان المهمش الذي ليس له اعتبار؟ كيف يعمل الحزبي الذي سلمت له من دون كفاءة السلطات و قالوا له خود راحتك مافي حساب؟مارايك بحزب هو القائد للدولة و المجتمع ورئيسه يحكم للابد و لا ينتخب بل يستفتى من اجله و ليس له ثان او بدل؟ ما الذي يدفع مثل هذا للعمل؟ بل اذا جاء الاجل ووقع القدر تنصل من المسؤولية و قال مالي دور انا رئيس مو ملك و لا ديكتاتور شوفوا غيري اللهم سلم اللهم سلم!

 اما التخلص الذاتي من الافات و الارتقاء و معالجة الانا عند الاقليات و كذا الجراثيم و الطفيليات التي سمعناها في الخطاب فأمر خطير عميق يستلزم سنين و لا يمكن تحقيقه لان من يهدم اكثر بكثير ممن يبني و الرقع اتسع على الراقع و هذا امر مشاهد من الواقع, جرح العمليات لا يندمل في الوسط الفاسد بل لا بد من التطهير و التعقيم و سحب الدم الفاسد و اسئصال العضو الناشز و الصبر على الالم الناتج ريثما تلتئم جروح المريض و يعود للحياة من جديد.

و هنا مالت آنسة الرسم غادة على كتف آنسة اللغة حنان و همست: عن شو عم يحكو هدول الاذكياء؟

يتبع ...