مدنية الدولة.. وإسلامية التشريع

علاء الدين العرابي

علاء الدين العرابي

 لا يزال الجدل في مصر قائما حول الدولة المدنية والدولة الدينية ، وأعتقد أن هذا الجدل يمضي على غير هدى لأنه يدور حول مصطلحات نظرية دون الغوص في مدلولاتها ، وكذلك لأن أطراف الجدال ليس لديهم القدرة على الالتقاء حول الهدف الواحد الذي يفتت جوانب الخلاف 00

 وللوقوف حول القضية الذي يدور حولها الجدل دعونا نوضح جوهر المشكلة 00

 أصحاب الفكر الليبرالي العلماني يضعون الدولة أمام الدين ، وهم يستحضرون غالبا أمامهم التجربة الغربية ويقيسون على نجاحها عندما وضعت الكنيسة خلفها ومضت ، هؤلاء لا يقتنعون بأن الإسلام يختلف عن المسيحية أو أن المسجد غير الكنيسة ، ولا يقتنعون بأن لكل مجتمع خصوصيته

 وأصحاب الفكر الإسلامي يضعون الدولة خلف الدين وهم يستحضرون تجربة الحكم الرشيد ، علاوة على إيمانهم بأن الإسلام عقيدة وشريعة وأنه كل لا يتجزأ ولا يمكن تجزئته كما أنه يتناول كل جوانب الحياة ، ولا يقبل تنحيته عن أي جانب منها

 وخطورة هذه القضية تكمن في كونها تتعلق بهوية دولة تريد أن تتنسم عبير الحرية من جديد بعد حبس طال لعقود ، وتريد أن يكون لها مكانا لائقا في خارطة العالم ، فإما أن تكون دولة يقودها الدين ، أو دين تقوده الدولة ، والفرق واضح بين الاثنين

 على أيه حال فلن ينته الجدل ولن يتنازل أي فريق عن قناعاته للطرف الآخر ، والنتيجة المترتبة على ذلك هي انقسام المجتمع وتشتت رؤاه ، فكل فريق يريد أن يشد المجتمع ناحيته ، ويرسم لمصر هويتها ومستقبلها

 قديما تبنى بعض المسلمين المفتونين بالفلسفة اليونانية فكرها ، وحاولوا إقحامه على الفكر الإسلامي الصافي ، وشغلوا الناس بقضايا فلسفية لا طائل من ورائها 00 يسميها البعض " بقضايا الترف الفكري " مثل قضية خلق القرآن التي شغلت الكثيرين ، وعذب فيها فقهاء على رأسهم الإمام أحمد ابن حنبل رضي الله عنه ، ولكن هذا الفكر سرعان ما خرج من ساحة الفكر الإسلامي 00

 ولكن الفرق بين فكر المفتونين بالفلسفة اليونانية ، وأصحاب الفكر الليبرالي العلماني أن الأول كان يخوض في قضايا فلسفية فكرية بعيدة عن أساس الدين وأحكامه الثابتة ، وكانت محصورة في عقول العلماء والمفكرين 00

 أما أصحاب الفكر العلماني فيخوضون في قضايا تمس أساس الدين وأحكامه ويهاجمون الشريعة ويتهمونها أحيانا بالقصور ، وحربهم موجهة إلى عزل الإسلام عن الحياة ، وحصره في علاقة خاصة بين المخلوق والخالق ، وتلك هي فحوى دعواهم ، ومقصدها ، لأنهم لو كانوا يريدون دولة مدنية بالمفهوم العام لاكتفوا بما أكد عليه أصحاب الفكر الإسلامي ، وما أكد عليه الأزهر من أن الإسلام يدعو إلى دولة مدنية وهو بعيد كل البعد عن مفهوم الدولة الدينية ، كما أن الإسلام لا يناقض فكرة الديمقراطية – بمفهومها العام – كما أكد على ذلك كثير من علماء الإسلام 00 وأصحاب الفكر العلماني للأسف يدخلون هذه الحرب الفكرية ومعهم أقوى أسلحة العصر وهو الإعلام

 وأعتقد أن هذا الجدل الدائر يمكن حسمه وتخفيف حدته إذا دخلنا إلى عمق القضية دون الوقوف عند سطحها ، فبدلا أن تدار المعركة حول المصطلحات ، فيكننا أن ندخل إلى العمق ونحاول البحث عن صيغة لإسقاط مفهوم الدولة المدنية العام - الذي لا خلاف عليه – على أرض الواقع دون أن يُسرق الإسلام من المجتمع ، ودون أن نمزق ديننا على حساب ترقيع دنيانا

كما يقول الشاعر :

 نرقع دنيانا بتمزيق ديننا 0000 فلا ديننا يبقي ولا ما نرقع

 فالجهد الفكري الآن يجب أن ينصب حول إيجاد صيغة واقعية توافقية تناسب روح العصر بين الدولة المدنية والإسلام ، ولا نقول بين الدولة المدنية والدولة الدينية فهذه الأخيرة لا مسوغ لها في واقعنا الفكري الإسلامي

 فالقضية إذن يمكن حسمها بعيدا عن جو الحرب المعلنة التي تصل في كثير من الأحيان إلى التعدي وإلى الإقصاء وإلى أشياء أكبر من ذلك ، وذلك بتبني صيغة أخرى للحوار تجمع ولا تفرق ، ومن وجهة نظري فإن هناك حلولا يمكن تبنيها في هذا الصدد ، وأطرح هنا حلين من هذه الحلول 00

الحل الأول :

 يتمثل في محاولة البحث الجاد عن منطقة وسط بين هؤلاء المتنازعين ، من خلال حوار جاد متجرد عن الأهواء والمصالح الآنية ، وهذه المنطقة الوسط تتقارب فيها القناعات لتصل في النهاية إلى صيغة توافقية ، والسبيل للوصول إلى هذه المنطقة هو تعريف تلك المصطلحات تعريفا دقيقا ، ثم بيان نقاط الاتفاق ونقاط الاختلاف ، فربما نجد أن المتفق عليه أكثر من المختلف فيه – وهذا هو المتوقع - ثم نبتعد عن نبتعد عن المسميات النظرية ونقترب من الجوهر 00 طالما أن المصطلحات المطروحة هي اجتهادات بشرية ليس لها قداسة ، لا لفظا ولا محتوى ، فيمكن استبدالها ، أو الإضافة عليها أو الحذف منه ، ويمكن توسيعها أو تضييقها بحسب الحالة ، فليس كل المجتمعات لها نفس الظروف ، وليس كل ما يصلح لغيرنا يصلح لنا ، فبدلا من استخدام مصطلح " مدنية الدولة " بتعبير فريق الليبراليين ، أو مصطلح " المرجعية الإسلامية " بتعبير فريق الإسلاميين 00 يمكننا أن نصنع مصطلحا جديدا " الدولة المدنية الإسلامية " والتي يكون فحواها : ( مدنية الدولة 00 وإسلامية التشريع ) 00

 وهنا لابد أن نؤكد على شيء هام وهو : أننا لا يمكن تفريغ المصطلح من معناه ، فعندما نطلق المصطلح لابد أن نصطحب معناه وننزله على أرض الواقع ، وإلا نكون قد ظلمنا المصطلح وظلمنا الواقع

 هذا المصطلح الجديد يتطلب أن يتبنى الإسلاميون دعاوى الفكر الليبرالي في شكل الدولة المدنية بعد تحرير مصطلح " الدولة المدنية " من دلالاته الخاصة الفلسفية ، وفصله عن سياقه التاريخي الغربي ، وبالتالي سوف نتعامل مع المصطلح فقط من خلال دلالته العامة ، والتي تقرر بأن السلطة بيد الشعب ، وأن الحاكم هو نائب عن الشعب ووكيل عنه ، وللشعب الحق في تعيينه وعزله ومراقبته ومحاسبته ، سواء كان هذا الحاكم فرد أو حكومة ، وأن الجميع متساوون أما القانون ، الحاكم والمحكوم

 ويتطلب أيضا أن يتبنى الليبراليون دعاوى الإسلاميين بأن يكون الإسلام هو المرجع الأساسي في أي تشريع ، بمعنى أن يمر أي تشريع من خلال بوابة الإسلام أولا ، وهنا سوف يكون أمامنا ثلاث مستويات تحدد علاقة الإسلام بالحياة أو بالأحرى علاقة الإسلام بالقوانين التي تلزم صاحب السلطة

المستوى الأول : وهو المستوى الذي له علاقة بالأحكام قطعية الثبوت قطعية الدلالة وكذلك المحرمات القطعية ، وهنا يجب أن تنتفي المعارضة من أي طرف لأن تلك المعارضة تهني معارضة الإسلام ، ولا يكون إلا التسليم المطلق والإذعان وعدم رفضه تحت أي دعوى ، وهذا المستوى هو الأقل في شريعة الإسلام لأن تلك الأحكام محدودة

المستوى الثاني : هو المستوى الذي منح الإسلام للعقل البشري الحرية المقيدة في صنع التشريع في إطار المبادئ العامة للإسلام ، وهذا المستوى أوسع كثيرا من الأول ، وفيه المجال للاجتهاد ، ويقبل فيه الخلاف ، وحرية اختيار ما يناسب الواقع وهو ما يسمى " بفقه الواقع" بشرط أن يكون رأي فقهي معتبر ، وفي هذا دليل على سعة الإسلام ومرونته ، وقابليته للتعامل مع الأحوال المتجددة

المستوى الثالث : وهو المستوى الذي منح الإسلام للعقل البشري الحرية المطلقة في صنع التشريع وهو ما يقع في حيز المسكوت عنه ، كتلك التي تتعلق بالأمور الفنية لإدارة المسائل الدنيوية البحتة كقضايا الزراعة والصناعة وغيرها ، وهو ما يدخل في عبارة " أنتم أعلم بأمور دنياكم "

، وقد ترك الإسلام للعقل البشري في هذا المستوى حرية البحث والاختيار ، وهذا المستوى أوسع بكثير من المستويين السابقين

 خلاصة هذه الفكرة المطروحة هو الدخول في حوار جاد يوصلنا لمنطقة وسط ويكون الهدف النهائي منه الوصول مصر قوية لها شخصية حضارية وثقافية متميزة ، ولا نكتفي بأن تكون دولة مدنية ممسوخة بلا ملامح

 وهنا ينشأ سؤال اعتراضي 00 فقد يقول الفريق الليبرالي أنهم يقبلون المادة الثانية من الدستور ولا خلاف عليها ، فأين المشكلة ؟ 00 ويرد الإسلاميون كيف يقبل الليبراليون المادة الثانية وفي نفس الوقت يرفضون الحل الإسلامي في كثير من القضايا ، ويتخوفون من تطبيق أحكام الإسلام التي لا تقبل مجرد الحوار عليها

الحل الثاني :

 إذا لم يتوافق الفريقان على صيغة توافقية توقف المعركة الدائرة بينهما فسوف يكون الحل الثاني هو تطبيق قوانين الديمقراطية التي ينادي بها الفريقان دون تعديل أو تعطيل لأي من مبادئها والتي تقتضي الاحتكام لإرادة الشعب

 والطريق إلى ذلك هو قبول كل فريق ورضائه التام بما تختاره إرادة الشعب ، وقد يري البعض أن الشعب لم يبلغ الرشد بعد في حسم مثل هذه القضية ، وقد ينسى هؤلاء أن هناك قطاع كبير من الشعب – إن لم يكن غالبيته - قادر على حسم خياره ، فليس كل الشعب أمي ، وليس كل الشعب جاهل كما يتصور البعض ، فعندما تحاور رجل الشارع العادي تجده يفهم ما يجري من حوله ويعيه جيدا ، وله رأي واضح فيه ، ولكنني لا أدعي أن كل المصريين على نفس المستوى ، ولكن أدعي أن أغلب المصريين الذين تعنيهم مصر ومستقبلها يفهمون القضية ، ولديهم إرادة أن يخرجوا مصر من مأزقها الحضاري والتاريخي الذي وضعها فيه النظام السابق 0

 فأرجو أن تخلي النخب - التي تدعي لنفسها الوصاية على الشعب - بين الشعب وبين دولته وأن لا تحتكر الحقيقة وتصادر على حق الآخرين.