النيل الأزرق يتحرر من ربقة الأستبداد

الطيب عبد الرازق النقر

الطيب عبد الرازق النقر

الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

[email protected]

نعم، لقد استحوذت قواتنا الباسلة التي لا ترف إلا الركض في مضمار المجد الذي

قدحت زناده منذ أمد بعيد على مدينة الكرمك بعد أن عركت أوغاد من استفزه الغرب

بغروره، واستغواه بخدعه، وضلّلهُ بحيلهِ،عرك الأديم، وطحنتهم طحن الرحى،

ووطئتهم وطء القرار.

لقد ظنّ شرُ الورى والجبلة أنّ حصونهم الشامخة الذرى، ومعاقلهم الوعرة

المُرام، وموئلهم المنيعة المرتقى، سوف تقيهم من ليوث الغابة، وأبناء الكريهة،

وحتوف الأقران، معاصِمهُم تلك التي أطلقوا منها السلاح الجبان على من هم أصبر

على اللقاء، وأمضى في الوغاء، لم تمنع أصحاب الحديد المشحوذ، والنصل المسنون،

والرمح المعطون في رقاب الأوخاش الأوباش من قطع دابر من تسربلوا بالعار،

وتجلببوا بالشنار، وتعمعموا بالدنيئة، وجعلهم أحدوثة سائرة، وعظة زاجرة،

ومثلاً مضروبا.

لقد أهدتنا صاحبة العزة القعساء، التي هي ساعد عند الرخاء، وعصمة عند البلاء،

نصر ثمين غالي لذّ على أفواه القائلين، وعظُم في أسماع السامعين، خبر أفرح

السود أصحاب الشرف الباذخ، والكرم الغالب، وجعل من يعانون مرارة الكبرياء

المهيضة يخرجون إلي عرصات المدن، وحواشي الطرق، تلوح على وجوههم المسكونة

بالطيبة والإباء مظاهر الغبطة والبشاشة، تتقدمهم في خضم هذه المشاعر المترعة

بالوطنية فرق الموسيقي في شتى آلاتها وشاراتها، لقد هللّت الجموع الغفيرة التي

لا تعنو لقهر، أو تطمئن إلي غضاضة للكرام القادة الذين ضجت حناياهم من فيض

الابتسام، واحتفت بالبهاليل السادة الذين ذوت متونهم أهازيج الوئام، وفي

الدمازين التي كانت منبعاً للألم، ومبعثاً للشكوى، حاضرة النيل الأزرق التي

تطاول ليلها، واحلولك ظلامها، هبّ كل طرف وسنان، وانتعش كل عضو ذابل سلبه عقار

الأمل، وحرمه الراحة، تُبارِك جلاء صفحتها عن أصحاب النِحل الخبيثة، والمطامح

الخسيسة، الذين سلطوا الغرائز، وحكّموا الشهوات، وأثاروا الفتن، تُبارِك طي

صفحة عُبّاد اللذة، ورواد المُنكر، الذين لم تنشد حركتهم خير، أو تعضد قيم، أو

تُسجِل نهضة، تُبارِك محق عقار الذي منته نفسه، وامتدت أماله، وتشعبت أطماعه

لاجتياح القصر الجمهوري وإخضاعه عنوة.

إنّ مالك عقار الذي ليس له في المعالي مكان يرمق، أو شأن يذكر، هو من جعل

البِشر يفْترُ على الشفاه، والتهاني تجري على الألسنة، والقصائد العور تجلجل

في القاعات، والخطب البتر تدوي في المنابر، هو من جعل الشيخ الذي علاه المشيب

وبلغ ساحل الحياة يبدو في شرخ الشباب، والشاب الذي يميس في بُرْد شبيبته يبدو

في نزق الطفولة، ولم لا يستشري الجزل والحبور بين قاطني الولاية، ويتساقوا

أقداح النشوة الفاترات وقد تعافت الولاية من شُكاتها، فلن يفضح جسدها عرى، أو

يغمر كبدها جوع، لن يجد المواطن الكادح نفسه مُرغماً على مصانعة الوالي، أو

مداهنة السلطة، أو ممالقة الحركة، بل لن يصيخ بسمعه لحاكم صراحته سافرة،

وشفافيته خليعة، وإشاراته ممجوجة، نعم لقد كان والينا الهمام الذي قبض على

أعنة البذاءة، وملك ناصية المجون، يحلق في آفاق بعيدة من الخنا و الوضاعة،

وتزخر جُعبتهُ بمعاني جديدة من التهتك والانحلال، أما حاشيته التي كانت تسدد

ما تبصر من زيغه، وتؤول ما تسمع باطله، فقد كانت على شاكلته تأجج نار العصبية،

وتذكي حمي السخيمة، وتشعل أوار الحرب، لأجل ذلك غرقت الولاية في خضم الخلاف،

وغث الحديث، ولؤم الوقيعة.

والآن بعد أن انهار جرف الحركة الشعبية، وخمد ضرامها، حرياً بالخرطوم التي

تأتيها الأطايب وهي ضاجعة وادعة أن تتلطف بالمواطن الذي يشكو معرة الظلم

وفداحة التكاليف، وأن تطوي فؤادها الشهم على نية الإصلاح بالفعل لا بالقول،

وأن تجتث شأفة غلاء قوامه ثلة تحيزت لحزبها، وتشيعت لطائفتها، تلك الجماعة

التي احتكرت السلع، واختزنت الأرزاق، بعد أن هودتها المطامع، تعيش عيش الترف

والظهور والحذلقة، وتعاني من الكظة والبشم، ويعاني غيرها المخمصة والجوع،

ينبغي على النظام الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم آلا يلتمس لتلك الفئة

العلل، أو يتكلف لها الأعذار، وحرياً به وهو الحاني أن يهتم بشريحة الخريجين

الذين أكلت الأرض نعلهم من كثرة السعي وراء الرزق الشرود، وأن يتعقب جماع

العلل"الجهل، والفقر،والمرض" ويضيق الخناق عليه، وأن يحتاط لجميع الفواجع

فحدود هذه الولاية تجاور من يقصدهم عقار بالآمال، وبشد إليهم دوما الرحال، أهل

المراتب السنية في الغدر، والدرجات الرفيعة في النذالة.