الانتخابات.. رؤية شرعية (1)

أ.د/ عبد الرحمن البر

وجوب المشاركة في الانتخابات

أ.د/ عبد الرحمن البر

عميد كلية أصول الدين بالمنصورة

وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين

وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين

تحت هذا العنوان كتبت من قبل دراسة لما يتعلق بالانتخابات من أحكام شرعية، خصوصا أن بعض الحركات الإسلامية كانت ترى عدم شرعية المشاركة في الانتخابات، وكانت تثار شبهات لدى الجمهور المسلم تدفع بعضه إلى العزوف عن المشاركة، مما استوجب عرض وجهة النظر الداعية والداعمة للمشاركة، التي آمنتُ بها شخصيا، وكانت ممثلةً للموقف الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين التي أشرُف بالانتساب إليها.

وقد تعرضت تلك الرؤية لكثير من المناقشات والانتقادات والمراجعات، سواء من القوى الرافضة لمشاركة الإسلاميين أو من بعض القوى الإسلامية أو حتى من بعض شباب الإخوان المسلمين الذين كانوا يرون أن المشاركة في ظل النظام البائد كانت تعطيه شرعية.

وها نحن بعد ثورة 25 يناير العظيمة نرى الكثيرين قد تغيرت آراؤهم لتتوافق مع كثير مما جاء في هذه الدراسة التي انتقدوها من قبل، وأنا لا أقول إنهم تحولوا، ولكنني أعتبر هذا تطورا فكريا جيدا وتفهما فقهيا مناسبا، وأعتقد أنه عندما ينزل المتفقهون إلى ساحة الواقع ويعايشون قضايا الأمة من قريب فسوف تضيق مسافات الخلاف إلى حد كبير.

وقد وجدت أن كثيرا من القضايا التي أثرتُها من قبل لا تزال في حاجة إلى عرضها على جمهور الأمة، مع مراعاة المستجدات التي نعيشها بعد ثورة التحرير المباركة، خصوصا وأن بعض المشايخ –وإن صاروا اليوم قلة محدودي التأثير- لا يزال يفتي بعدم مشروعية المشاركة في الانتخابات، وينتقد مشروعية إقامة الأحزاب. ولهذا أستأذن القراء الكرام في أن أعيد طرح هذه القضايا في المقالات التالية، إن شاء الله.

وسأناقش في هذا المقال والمقالات التالية مشروعية المشاركة في الانتخابات، وحكم الإدلاء بالصوت، ولمن يكون، وحكم تكوين الأحزاب، وحكم تغليب العصبية للقريب أو ابن البلد أو غيره على المصلحة العامة، وحكم شراء الأصوات لضمان النجاح، وما الذي يفعله المرشح النزيه إن وجد خصما يلجأ إلى تلك الحيلة، وهل يحل له أو يحق له عندئذ أن يفعل ما يفعل خصومه حتى يدرأ المفسدة عن الأمة والشعب، وما علاقة ذلك كله بفقه الرشوة المحرم، وكذلك مسألة ترشيح المرأة؟

وكذلك آداب الدعاية الانتخابية، وحكم استغلال الدين كأحد العوامل التي تسهم في كسب الرأي العام، باعتبار أن الدين له مكانة عظيمة في نفوس الناس في دولنا العربية والإسلامية، وكذلك أموال هذه الدعاية، وهل يجوز أن ينفق عليها من الصدقات، وهل يصح أن تتبنى بعض الهيئات الحكومية أو الأهلية تأييد مرشح معين، وحكم التحالفات السياسية والانتخابية، وغير ذلك من الإشكاليات الفقهية التي يسأل الناس فيها كثيرا؛ مما يقتضي أن تُقدم لها معالجة فقهية صحيحة إن شاء الله.

ولست في حاجة إلى التذكير بأن ما أقدمه هو رؤيتي الشخصية من خلال فهمي لنصوص الشريعة وأدلتها، وأنها رؤية قابلة للنقد والتقويم، كما أنني لست في حاجة إلى إعادة ما كتبته في أعداد سابقة عن رفض الفصل بين الدين والسياسة، ولكنني أنبه الذين يتبنون فكرة الفصل بينهما بحجة أن الخلط قد أفسدهما بأنه ما أفسد الدين والسياسة إلا أمران: الاستبداد السياسي من القادة، والنفاق العملي (وليس الاعتقادي) وسوء العرض من بعض الشيوخ، وفي ذلك قيل : «صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والعلماء»، وقد أسهم ذلك في تشكيل صورة غير صحيحة عن حقيقة الدين، فخرج منها هذا (الخلط) الذي يفصل بين الدين والسياسة.

كما أنني أؤكد أنه لا معنى لتخوف البعض –بحسن نية أو بسوء قصد- من أن إقحام الدين والشريعة (بزعمهم) في مسائل السياسة يعني تكميم الأفواه وعدم جواز المعارضة؛ باعتبار أن المخالف أو المعارض لرأي الفقيه يكون مخالفا للدين! فهذا خطأ ظاهر، ففي أحكام الشريعة ما هو ثابت لا يتغير، ومنها ما هو دائر مع مصلحة العباد، ومسائل السياسة الشرعية هي من هذا القبيل الدائر مع المصلحة. ولهذا وجدنا المذاهب الفقهية تختلف في مسائل كثيرة جدا من أصول الدين وفروعه أهم بكثير من موضوع الانتخابات والمسائل السياسية، ومع ذلك لم نسمع أحدا يقول إن المعارض لرأي الفقيه الفلاني معارض للدين على الإطلاق، ولم أقف –في حدود علمي– على وجود لهذا الخلط الذي يروجه البعض هذه الأيام؛ لتخويف الناس من الشريعة الإسلامية، ومحاولة فض الجماهير من حول الداعين إليها.

فالاختلاف بين العلماء لا مفر منه، ولا سبيل لمنعه، ولا خوف منه على الإطلاق، إذا صحت النيات، ولم تكن الفتاوى على سبيل المكايدة أو مبنية على الميل مع الهوى، بل كان الاختلاف دائما إثراء للفقه والفكر وتوسعة على الأمة، والعبرة بأن يكون الاختلاف مؤسسا على علم وفقه ودلائل شرعية ومقصودا به طلب الحق وابتغاء وجه الله، وليس قائما على الهوى الشخصي والميل النفسي أو التعصب الحزبي.

بل أعتبر هذا الاختلاف بين أهل العلم إحدى صور حرية الرأي الناضجة النافعة التي تدل على أن تحكيم الشريعة في كل المجالات يفتح آفاقا رحبة للاجتهاد والنظر وحرية الرأي، وتدحض قول القائلين: إن إقحام الشريعة في المجال العام يسبب الحرج للأمة.

لهذا لا أجد أدنى حرج من إبداء رأيي في تأييد القول بوجوب المشاركة في الانتخابات متى كان في ذلك مصلحة شرعية معتبرة واجبة، كما هو الحال في مصر الآن، فمن واجب المسلم الذي يعيش في أي مجتمع أن يسهم إيجابيا في حل قضايا هذا المجتمع، بحسب وجهة نظره الإسلامية، وبالتالي فإذا أتيح له أن يشارك في انتخاب النواب الذين ينوبون عن الأمة في المسائل التشريعية أو في اختيار الحكومة، وفي إعطاء الثقة لها، أو نزعها منها، أو في مراقبة أدائها، وفي درء المفاسد عن الأمة، أو رفع الظلم عموما عن الناس، وغير هذا من المصالح المترتبة على دخول النواب في مجلس الشعب؛ فإن وجهة النظر الشرعية أنها فرصة لا يجوز للمسلم أن يضيعها.

وإذا تخلف المسلم عن المشاركة في مثل هذا الأمر؛ فقد قصر في القيام بواجبه الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الحديث: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ»، وإن من أهم وسائل إنكار المنكر: أن ينكره النائب عن الأمة، الذي يتلقى الناس عادة، وتتلقى الحكومات ويتلقى ذووا الرأي كلامه بالقبول، وتنشره وسائل الإعلام على كل صعيد.

ومن ثَمَّ كانت المشاركة في الانتخابات ترشيحا وإدلاءً بالصوت واجبة، والقائم بهذا الأمر له أجره بحسب نيته، والمتخلف عن هذا الواجب بغير عذر عليه إثمه؛ لأن ترك هذه المواقع لمن يسخرونها للفساد والإفساد ومخالفة الشريعة واستلاب حقوق الضعفاء والمحرومين ينافي مقاصد الشرع الحنيف، الذي جاء للعمل على تحقيق الحرية والعدالة والمساواة، ورفع الظلم والقهر والتسلط عن عباد الله في حدود المستطاع.

كما أن المشاركة في المجلس النيابي هي باب من أبواب الدعوة إلى الإسلام، وعرض أفكار الإسلام ومبادئه، من خلال المناقشة والحوار والاحتكاك بالآخرين، وإيصال الصوت الإسلامي إلى كل الناس، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم الفكرية ومواقعهم السياسية والنقابية والعلمية والاقتصادية، حتى لا يبقى للناس على الله حجة.

كما أن من واجب أبناء الحركة الإسلامية تعبئة الفراغ الذي خلفه سقوط التيارات والأفكار العلمانية، لنقوم بطرح الإسلام كبديل حضاري وتشريعي وحيد، ليس للمسلمين فقط، بل للبشرية أجمع.

وكم كنت أتمنى على كل فصائل الحركة الإسلامية أن تتقدم للمشاركة في هذه العملية الانتخابية تحت سقف مشروع إسلامي وطني واحد لمواجهة العربدة والمشاريع الأمريكية الصهيونية التي تريد أن تجتاح الأمة على كل صعيد.

يتبع إن شاء الله.