الحج، والثورة، وإرادة التغيير

حسام مقلد *

[email protected]

مهيب حقا مشهد حجاج بيت الله الحرام وهم يقفون على صعيد عرفات الطاهر، ويؤدون مناسك الحج متضرعين إلى ربهم سبحانه وتعالى، ويدعونه خوفا وطمعا، فقد أتت هذه الجموع المؤمنة من كل فج عميق، وتجردت من كل شيء يذكرها بالدنيا، وليس لها إلا مقصد واحد وغاية واحدة هي طاعة الله عز وجل والابتهال والتضرع إليه في خشية وتذلل، الكل يرجو رحمته ويخاف عذابه، أتى الجميع وصدورهم تنطوي على كثير من الهموم والأحزان، ولكل منهم حاجته ومسألته جاء يرفعها إلى الكريم المنان، تهتف الألسنة، وتخفق القلوب، وتختلج النفوس، وتختلط الأحاسيس، وتتدفق المشاعر، وتتلاحق الأنفاس والأفكار والخواطر!! فيا لها من سويعات إيمانية وروحانية رائعة حيث ترفع أكف الضراعة إلى الله، وتسمو الأرواح، وتطمئن القلوب، وتنهمر الدموع، وتتنزل الرحمات والبركات.

إنه مشهد بانورامي لا يمكن وصفه بصدق والتعبير عنه بدقة مهما ارتقى الأسلوب وعظم البيان، والله عز وجل الواحد الأحد الفرد الصمد يرى ويسمع أصوات كل هذه الملايين في نفس الوقت، وهي تناجيه وتدعوه، وتبثه الشكوى والأنين، فيجيب وهو في عليائه تبارك وتعالى كل طالب حاجته، ويعطي كل سائل مسألته، ويتجلى على هذه الجموع الغفيرة بفيوضات رضوانه ونفحات رحمته، ويباهي بهم ملائكته، فعن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال لمن سأله عن أمور دينه ومن بينها الحج: "... وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول: هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق، يرجون رحمتي ويخافون عذابي، ولم يروني فكيف لو رأوني؟ فلو كان عليك مثل رمل عالج، أو مثل أيام الدنيا، أو مثل قطر السماء ذنوبا غسلها الله عنك; وأما رميك الجمار فإنه مدخور لك، وأما حلقك رأسك فإن لك بكل شعرة تسقط حسنة، فإذا طفت بالبيت خرجت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك" (خرَّجه السيوطي، وحقَّقه الألباني، وقال: حديث حسن).

إن الحج فرصة عظيمة للتغيير، وموسم رائع لشحذ النفوس وتأهيلها لعمل الخير، ولكن ما يحزن النفس ويدمي القلب والفؤاد أننا سرعان ما ننسى أو نتناسى هذه المشاعر العظيمة، وسرعان ما تمتلئ قلوبنا بحب الدنيا والتنافس عليها، وتعمينا الحجب الكثيفة عن رؤية الحق وتحرفنا عن فعل الصواب!! سرعان ما ننسى آيات الله، ونخلد إلى الأرض، ونركن إلى أنفسنا، وتغرنا الحياة الدنيا، وتُعمِي أعيننا بغشاواتها!! فكم بيننا من عاق لوالديه، وقاطع لرحمه، وهاجر لأخوته، ومضيع لأبنائه!! كم من أكَّال للربا، ومستحل للسحت والمال الحرام!! كم من ساع بين الناس بالغيبة والنميمة!! كم فتَّان يفتن الناس عن دينهم وهو يظن أنه ينفعهم بفعله!! كم صانع للحقد والكراهية وناشر للبغضاء بين الناس بما ينفثه بينهم من سم زعاف!! كم من طمَّاع  حسود يحسد الخلق على ما آتاهم الله من فضله، ويسعى بكل طاقته لنشر الخراب والفشل والتعاسة بين الجميع!! 

 عجيب أمرنا حقا في هذه الحياة الدنيا!! فما بالنا نعرف أننا ضعفاء مساكين، وندرك أننا لا نقدر على شيء في الحقيقة، ومع ذلك نغتر بقوتنا المزعومة، ويحملنا غرورنا على ظلم الناس والتجبر عليهم، والأغرب أننا كثيرا ما نطغى على أحبابنا وأقرب الناس إلينا فنجور عليهم ونمنعهم حقوقهم!! فكم من والد أضاع أبناءه بتهاونه واستهتاره!! وكم من أخ أكل ميراث أخوته بطمعه وجشعه!! وكم من زوج أهان زوجته وحرمها حقها!! وكم من زوجة قصَّرت في حق زوجها عامدة قاصدة وجرعته الألم غُصصا، وحمَلَته بسوء فعلها على ظلمها وإهدار كرامتها، وحوَّلا معا بيتهما إلى جحيم يصطلي الأبناء بناره!!

وكم أسأنا إلى أقاربنا وجيراننا وزملاءنا!! كم أهدرنا أوقات العمل!! وبددنا عُهَده فيما لا يفيد!! كم ضيعنا على مؤسساتنا وأعمالنا ووطننا من فرص للنمو والتطور؛ لأننا لا نفكر إلا في مصالحنا الشخصية، ولا نهتم إلا بما يعود علينا فقط بالنفع!! وكم بذلنا من جهدنا وطاقتنا لإعاقة الآخرين عن العمل وإلحاق أفدح الخسائر بهم!! ثم نظن أن لحظات من الندم والبكاء الحار كافية لإصلاح ما فينا من خلل واعوجاج!! هيهات هيهات، فلن تنفعنا هذه اللحظات المؤقتة من التأثر والانفعال النفسي، ولن يثمر بكاؤنا كثيرا ما لم يولد فينا توبة صادقة، ونية جازمة وإرادة قوية للتغيير إلى الأفضل، يتبعها عمل جاد وجهد متواصل؛ إذ لابد من مسيرة طويلة على طريق الإصلاح تحفل بالعمل الجاد، ومجاهدة النفس لحملها على الصواب، وإلزامها طريق الله عز وجل الذي هو طريق كل خير وفلاح، وهذه المسيرة لابد أن تكون مسيرة جادة تستمر سنوات وسنوات، وليس فقط مجرد دقائق أو ساعات أو أيام...!!

لقد ثرنا وخلعنا النظام الفاسد الذي كان يحكمنا، وهذا جيد ولا شك، لكن أيظن أحد أن ما حدث كافٍ لاقتلاع بذور الفساد من قلوبنا؟! أهذا كافٍ لتصحيح مسارنا وعودتنا إلى الحق؟! أيكفينا فقط أن نغير بعض مظاهر الفساد الصارخ فينا وبعدها ينصلح كل شيء تلقائيا؟! لا أظن ذلك!! نعم لا أظن ذلك!! فداخل كل منا نظام فاسد يحكمنا ويدير حركتنا كلها، ولابد من الثورة عليه لإزاحته وتغييره!! ولن تفيدنا الأماني كثيرا ولن تنفعنا بشيء يذكر ما لم يعقبها عمل جاد وجهد متواصل للتغيير إلى الأفضل، فالجائع مثلا لن تكفيه أحلام الشبع ولن تغنيه عن الأكل، ولا بد له من بذل الجهد الكافي للحصول على الطعام، ولا أدري متى نثور على أنفسنا لتخليصها مما يكبلها من المعوقات!! ولا أعلم متى نحسن ممارسة الفضائل والقيم والأخلاق كما نحسن البكاء وذرف الدموع، لكنني أثق أن الله تعالى لا يريد منا فقط مجرد التأثر الشكلي بل العمل الحقيقي النافع الذي يفيد الناس في أرض الواقع، وفي الحديث الشريف: "أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام، وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل" (أخرجه الطبراني وابن عساكر، وقال الألباني: حديث حسن)  فإن كانت العواطف الصادقة مطلوبة، وأماني الإصلاح خطوة مهمة على الطريق، لكن هذا لا يكفي وحده، ونحن نعلم أن "اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد:11].

                

 * كاتب إسلامي مصري