هل السلفية تنظيم

محمد حامد محمد

[email protected]

تمثل قضية "التنظيم" إشكالية كبيرة عند دراسة الحالة السلفية في مصر، فبالرغم من اتساع الرقعة التي يشغلها السلفيون المصريون من الخارطة الإسلامية في هذا البلد، فإن أصحاب هذا الحيز موجودون بلا تنظيم هرمي ينخرطون فيه ويسير شئون دعوتهم.

وعلى عكس "الإخوان" و"الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" و"حزب التحرير" و"التبليغ" ليس في أدبيات السلفيين كلمة "تنظيم" على الإطلاق، بل يستعيضون عنها بمصطلح "العمل الجماعي"، ويرون ذلك تحصيل حاصل؛ لأن كلمة "جماعي" تغني عندهم عن كلمة "تنظيمي".

أما تعريفهم للعمل الجماعي فهو: "التعاون على ما يُقدر عليه من إقامة الفروض الكفائية مثل الأذان، وصلاة الجماعة، وصلاة الجمعة، والأعياد، والدعوة إلى الله، والقيام على حقوق الفقراء والمساكين، وتعليم المسلمين وإفتائهم بمقتضى الشرع، وسائر ما يقدر عليه من فروض الكفايات".

ولأصحاب هذا المنهج تأصيل شرعي في كافة تفريعات العمل التنظيمي، مثل: البيعة، والسرية، والشورى، ووجود الإمام من عدمه، وأيضا قضية "المسمى"، وهم يستمدون موقفهم في العمل الجماعي (التنظيمي) من فتاوى وكتابات عدد من العلماء القدامى مثل ابن تيمية، والإمام الجويني، والعز بن عبد السلام، ومن العلماء المعاصرين الإمام الألباني، وعبد العزيز بن باز، وابن عثيمين، وعبد الرحمن بن عبد الخالق، الذي يقول في كتابه "أصول العمل الجماعي":

"إن أي جماعة تجتمع على مقتضى الكتاب والسنة والالتزام بإجماع الأمة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم هي جماعة مهتدية راشدة ما دام أن اجتماعها وفق هذه الأصول ووفق قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2]"، ولا يفرق عبد الخالق في تأسيس الجماعات بين حالتي حضور الإمام وغيبته، مؤكداً "أن وجود الإمام العام لا يلغي وجود الجماعة الصغرى، وجماعة الدعوة والبر والإحسان.. فإذا كان الإمام العام راشداً قائما بالحق فإن الجماعة الصغرى سند له وقوة".

وبشكل عام يرى السلفيون جواز ومشروعية العمل الجماعي (المنظم)، بشرط تحقيق المصلحة ودفع المفسدة، وهو ما يلزم عندهم أشياء منها:

عدم المصادمة مع الحكومات المدنية؛ لأن ذلك يجر على الدعوات كثيراً من المفاسد ويجعل الناس تستهين بدماء المسلمين، والبعد عما يفهم منه خطأ البيعة والسرية حال التمكن من الجهر بالدعوة، فتكون السرية حينئذ مخالفة للمقصود من الدعوة، وعدم التعصب للجماعة، بل يكون التعصب للحق.

البيعة والسرية والخروج على الحاكم

وفي إطار الجدال حول "البيعة" المعروفة لدى "الإخوان" و"الجماعة" و"الجهاد"، وقضايا أخرى مثل "السرية" و"الخروج على الحاكم"، يرى السلفيون أن البيعة ليست شرطاً للعمل الجماعي، بل يرون إمكانية وجود عمل جماعي بغير بيعة، وكذلك عمل جماعي علني غير سري، وأيضا من دون خروج على السلطات القائمة، بل يرون أن هذا هو الأصل والأكثر شيوعاً لديهم.

فقد سُئل الشيخ ياسر برهامي - أحد أبرز رموز السلفية في مصر - عن رأيه في البيعة التي تأخذها الجماعات لقادتها؟

فأجاب: "أقول بلا مداراة، ولا مداهنة، ولا كذب لمصلحة الدعوة، ولا تعريضًا - كما يحاول البعض أن يتهمنا - ليس عندنا بيعة، وإنما نرى تحقيق التعاون على البر والتقوى.. وأن هذا لازم لنا من غير بيعة، و(البيعة) أمر حصل فيه نوع من الخلل في الفهم؛ لأن البيعة التي رآها بعض العلماء جائزة على الطاعات أو مشروعة، ظنها الناس أنها بالمعنى السياسي، وتحولت على يد الإخوان من بيعة تشبه البيعة الصوفية إلى البيعة السياسية، وأصبح المرشد بمنزلة الإمام والحاكم على أفراد الجماعة".

ويفرق بين معان مختلفة للبيعة بعضها سياسي "وهذا يكون للإمام الممكن"، لكن هناك بيعة أخرى على الطاعات، ويضرب برهامي مثالاً لذلك بالمبايعة على إقامة الصلاة، حيث إن "الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يبايع الناس على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وهو أمر مشروع إذ هو نوع من العهد، كأن أقول لك مثلا: عاهدني بأن تحافظ على صلاة الجماعة، عاهدني على أن تحقق التعاون على البر والتقوى، عاهدني بأن تحافظ على طلب العلم".

وبالنسبة لـ"العلنية" فهي اختيار فكري لدى السلفيين، غير متأثر بالظروف الأمنية أو غيرها؛ لأن "السرية" كمبدأ عندهم مرفوضة تماماً، رغم كونهم يعترفون بأنها (السرية) منهج نبوي قديم، كما كان عليه الحال في دار (الأرقم بن أبي الأرقم) ودعوات الأنبياء في كثير من الأحيان، وقد سئل الشيخ ياسر برهامي عن شعار (السلمية والعلنية) الذي رفعه السلفيون، فذهب إلى: "أن الأصل في الدعوة العلن والبيان، ونحن في واقعنا لا نحتاج إلى سرية، وقد تمكنا من الدعوة العلنية بحمد الله"، وبالنسبة للسرية يوضح: "فهي سرية وهمية أضر من العلنية"، أما (السلمية) فبها يحصل أنواع من الخير ودفع الشر لأهل الإسلام، لكن "لا يعني ذلك أن كل أحوال المسلمين في كل مكان وزمان كذلك، فنحن لا نبطل الجهاد بالقوة والسنان، وموقفنا واضح من الجهاد في بلاد المسلمين التي نزلها الأعداء، كأفغانستان والبوسنة وفلسطين والشيشان والعراق"، على حد قوله.

رؤية التغيير تحكم رؤية التنظيم

يرى السلفيون أنهم ليسوا بحاجة إلى ما اصطلح على تسميته بـ"التنظيم"؛ نظراً لأن جل دعوتهم منصب على العمل التربوي والدعوي داخل المساجد، وبالتالي فوحدة العمل عند السلفيين لا تحتاج إلى قدر كبير من العمق التنظيمي، حيث لا حاجة لأجنحة سياسية وأخرى اقتصادية، ونحو ذلك مما "يغري" الأحزاب والجماعات السياسية، ولعل طبيعة العمل السلفي الذي يبتعد عن السياسة ومعاركها، جعل اهتمام السلفيين موجهاً بالأساس إلى تربية الأفراد، ورفع مستواهم العلمي (الديني)، وقدرتهم على رؤية الواقع وقياسه بمقاييس شرعية.

ولعل ما سبق يفسر لنا طبيعة الحركة السلفية وعملها في الإسكندرية؛ إذ كان منصبًا بالأساس على نشر المنهج السلفي من خلال الدروس والندوات والدورات العلمية، ومن ثم تحول اسم الجماعة إلى "الدعوة السلفية"؛ رغبةً في توسيع المساحة التي يتحرك فيها الدُّعاة السلفيون والعمل من خلال مساحات دعوية مختلفة، مثل أوساط الشباب بالجامعات، وداخل المناطق السكنية.. ولم يتوقف النشاط السلفي في الإسكندرية على الجوانب التعليمية والدعوية فحسب، بل تعداه إلى جوانب اجتماعية وإغاثية ككفالة الأيتام والأرامل، وعلاج المرضى، وغير ذلك من النشاطات.

وقد استلزم الانتشار السريع للفكرة السلفية قدرا من السعي نحو ترتيب العمل سواء داخل الإسكندرية أو خارجها، لاسيما مع ازدياد أعداد المنتسبين للدعوة والمتأثرين بمنهجها.

إشكاليات في العمل التنظيمي

لا يُخفي السلفيون أن العائق الأمني وما قد يجره من اتهامات وملاحقات كان نصب أعينهم وهم يتخلون طواعية عن العمل التنظيمي، مبتعدين بمنهجهم عن مسلك باقي الجماعات الإسلامية، وهم يعتبرون في ذلك بتجارب تاريخية مأساوية مرت على المجتمع المصري، وكانت نتيجتها سيئة على صحوة العمل الإسلامي، ليس في مصر وحدها بل في العالم، فهم يعدون العامل الأمني أحد العوامل التي تؤثر في رؤيتهم للتنظيم، وإن كان ليس العامل الوحيد.

ولقد كانت للدعوة السلفية في الإسكندرية تجربة عملية في هذا الاتجاه أواخر ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن الماضي، حين استفز توسعهم الأجهزة الأمنية التي شرعت في التضييق عليهم، محاولة تفكيك الروابط التنظيمية لهذا التجمع الأصولي، وبلغ هذا التضييق ذروته في القضية التي تم فيها توقيف الشيخ عبد الفتاح أبو إدريس - قيم الدعوة السلفية (أي مسئولها) - والدكتور سعيد عبد العظيم عام 1994، وهي القضية التي تم فيها وقف مجلة "صوت الدعوة" وإغلاق معهد إعداد الدعاة المعروف بـ(معهد الفرقان) أمامهم، وهو الذي أنشأته الحركة وظل شيوخها يشرفون عليه باعتباره أول مدرسة منهجية سلفية لتخريج الدعاة السلفيين.

الدكتور ياسر برهامي من جانبه نفى أن يكون قد تم إيقاف جميع أنشطة الدعوة كاملة في عام 1994 .. مؤكداً في تصريحات سابقة له أنه "بقي العمل مع الجامعة والطلائع، وهو لم يتم الاعتراض عليه (من قبل الأمن) وظل مستمرا حتى سنة 2002"، وهو العام الذي تم فيه إيقاف العمل في الجامعة والطلائع والعمل خارج الإسكندرية، وقد كان السفر والتنقل ممنوعاً على الدعاة السلفيين خارج الإسكندرية منذ أواسط التسعينيات.

وإلى جانب الحاجز الأمني يذهب السلفيون إلى أن ظروف النشأة لديهم - التي تختلف عنها لدى الإخوان - سبب آخر جعلهم لا يفكرون في مسألة التنظيم، فبينما أتاحت نشأة الإخوان القديمة تاريخياً فرصة أكبر من أجل تنظيم صفوفهم وترتيب وظائفهم وواجباتهم والتزاماتهم الإدارية، لم تكن نشأة السلفية الحركية لتهيئ جواً مساعداً للتنظيم، وهم يرون أن الواقع الحالي لا يسمح بأي صورة من صور التنظيمات السلفية، في حين تم التعامل مع الإخوان كأمر واقع مع محاولات عديدة لاستئصالهم لا تنجح غالبا؛ لأن التنظيم عند الإخوان قديم قدم دعوتهم ذاتها.

وفي حين تمثل قضية (السمع والطاعة) عاملا رئيسيًا في الانضباط التنظيمي لدى الإخوان، يعول السلفيون على تقديم الدليل (الشرعي)، والنظرة الإسلامية الأصيلة للعلماء والدعاة من حيث احترامهم وتوقيرهم، مما يجعل حبهم وطاعتهم لازما من لوازم التعاون على البر يقوي البناء الروحي بين عناصر الحركة، وإن كان يلغي الارتباط التنظيمي أو على الأقل يضعفه.

السلفية حالة دينية لا تحتاج لـ(تنظيم)

يؤرخ جمال سلطان - الكاتب والمراقب الإسلامي - لفكرة "التنظيم" التي تمثل تراثا حديثا تاريخيا للحركة الإسلامية، بحركة الشيخ حسن البنا رحمه الله، إذ لم يُعرف التنظيم في التاريخ الإسلامي إلا لدى أصحاب العقائد الجديدة التي كانت تريد منازعة الأمة، ولم يكن ثمة ضرورات أو احتياجات لها حينئذ.

أما بالنسبة للدعوة السلفية فهي في نظر سلطان حالة دينية في عمومها تهتم بالأبعاد العلمية والدعوية والتربوية، وهذه لا تحتاج إلى تنظيمات ولا عمل تنظيمي، والسلفيون ليس لهم مشروع حركي - كما يرى - وليس لهم خبرات تنظيمية، ولا يوجد لديهم أي تفكير في عمل تنظيم في مصر؛ لأنه ليس لهم مشروع سياسي (على الأقل حالياً)، والتنظيم إنما يوجد فقط عندما يكون للجماعة مشروع سياسي أو أجندة سياسية تعمل وفقها.

وبشأن الفارق بين السلفيين وجماعات إسلامية أخرى كـ"الإخوان" و"الجماعة الإسلامية" و"الجهاد" في وجود التنظيم الهرمي، يربط سلطان ذلك بوجود المشروع السياسي لهذه الجماعات والتنظيمات متأثرة بخبرات عصرية في هذا المجال.

ومن جهته يرجع الدكتور عمرو الشوبكي - الباحث بمركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية - عدم وجود تنظيمات سلفية في مصر إلى أن السلفية ظهرت بينما كانت هناك تنظيمات عديدة مؤثرة موجودة على الساحة كالإخوان والجهاد والجماعة الإسلامية، بما يشبه حالة احتكارية لساحة العمل التنظيمي، ومع فشل التنظيمات الجهادية بشكل أساسي رأت السلفية أن هناك مساحات دعوية وفكرية لم تستغل بعد، وأن هناك مجالا للدعوة الفكرية والانتشار التربوي عبر المساجد بما لا تستفز معه الدولة وأجهزتها الأمنية. وإن لم يفصل الشوبكي بين إشكالية التنظيم لدى السلفيين والسياقات السياسية الحالية والأمنية.