وقل اعملوا

عاد نعمان

[email protected]

ليس القرآن الكريم كتابهم المقدس، فلديهم كتبهم المقدسة التي يستلهمون منها روح الله(الرب) في تفاصيل حياتهم، وليس الجميع على إطلاع بما يكفي على ما تحتويه جميع الكتب السماوية، ولكن الشاهد على ما وصل إليه ذلك الجزء من العالم من تطور وتقدم، جعل منهم الجزء الأهم في العالم، وجعلنا نتساءل هل نحن جزء من هذا العالم؟، سيجد أن صانعي تلك الإنجازات والقفزات في مختلف مجالات الحياة، لم يأخذوا من القرآن الكريم - الذي ليس كتابهم - سوى تلك الآية التي تحض بمجمليها المعنوي والفعلي على العمل، قال الله(الرب) تعالى:(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).. آية غاية في الأهمية، ربما هي الأهم في اللوح المحفوظ، لأن الآخذ بها سيتمكن من رقم (1) number one في العالم، وسيكون صاحب الصف الأول ليقود الصفوف المتخلفة عن الركب، هي ما نطلق عليه إكسير النجاح والقوة الضاربة في الأرض. لا محال سُتعرض الأعمال يوم القيامة على الله والرسول والمؤمنين، وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا، كما قال الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة، لأخرج الله عمله للناس كائنًا ما كان).

 الغريب في الأمر أن القرآن الكريم الذي كثيرًا ما نحمله وبين أيدينا نتأمله، نردد آياته خلال صلواتنا الخمس اليومية وخارجها، نستشف منه دعواتنا الآنية، لحظات نكون فيها الأقرب إلى الله - كما ندعي - وبخشوع عميق - على حسب زعمنا -، بما يعني أننا ومن كثر المرور على ما يحتويه، قد تدبرنا ما فيه من معاني ورسائل واضحة، لا تحتاج لسؤال شيخ أو عالم دين. إلا أننا وللأسف الشديد لم نأخذ سوى تلك الآية، قال الله تعالى:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، ووضعنا باقي الآيات جانبًا، آية صرحت بالحكمة من الخلق وإرسال الرسل وأن دين الأنبياء واحد، والعبادة هي التوحيد، العبادة التي تأتي من العمل، لقد ألزمتنا الآية بالعبادة، التي تأخذ أكثر من شكل وعبر وسائل عديدة، المشكلة لا تكمن في كينونة هذه الآية والرسالة العميقة التي في طياتها، وإنما الكارثة تكمن في فهمنا السطحي(القشري) لها وعكسها على نفسيتنا وعلى نفسية البسطاء، الذين يترقبون من وقت إلى آخر إصدار فتوى حتى تعمم، وتبقى أمنية معلقة في السماء بـِ يا ليتنا فهمناها كما فهمها ذلك الجزء من العالم(الحقيقي) الذي حثنا الله عليه فعلًا.

 ينقسم العالم الذي استلم الرسالة المحمدية إلى قسمين، احدهما أهتم بعلامة الإيمان(السجدة) التي تطبع على الجبهة من كثر فحسها على البلاط الحار من عمودية أشعة الشمس في عز الظهرية حين السجود لله، والآخر اكتفى بعلامة الإيمان التي تحفر داخليًا. على الرغم من أن النبي محمد(ص) قد طمئننا مسبقًا بقوله:(إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى أعمالكم)، بما يعني أن تثبتوا ذلك الدين داخليًا واقطعوا بأعمالكم أشواطًا خارجيًا، تأكيدًا لقول الله عزوجل:(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ..)، حتى تكونوا جديرين بذلك الدين الذي ميزه الله وخصكم به وحفظه من أي مساس، إلا أنه يعيش منذ فترة بعيدة مساس فعلي يهدده، إن الدين الحق المنزل المحفوظ من التبديل لا يمكن أن يعوق البشرية عن مصالحها وتقدمها؟!..

 اجتمع نفر في عهد النبي محمد(ص) فقال أحدهم: أنا أقوم ولا أنام, وقال آخر: أنا أصوم ولا أفطر, وقال ثالث: أنا لا أتزوج النساء, فبلغ ذلك النبي محمد(ص)، فقال:(ما بال أقوام يقولون كذا وكذا، أنا أصوم وأفطر, وأقوم وأنام، وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني). أولئك النفر قد غالوا في الدين فتبرأ منهم محمد(ص)، لأنهم رغبوا عن سنته التي فيها صوم وإفطار, وقيام ونوم, وتزوج نساء. لم يأخذوا بالوسطية والاعتدال، فكانوا بين التقصير والتطرف، فانتقصوا وتجاوزوا مما حد الله. قلة هم من التزموا بالعقلانية وتماشوا بما فرضه الله وسنه النبي وما كان عليه السابقون كالصحابة والخلفاء وغيرهم.

 تكشف دعوة النبي يوحنا - عليه السلام - وهو يمهد لظهور السيد المسيح - عليه السلام - عن أمر العمل، بما لا يقبل الشك، وهو أن قيمة الإنسان يحددها عمله وليس انتمائه ولا نسبه ولا عنصره. وأن الله قادر على أن يجعل من الحجارة أبناء سيدنا إبراهيم - عليه السلام - إن عملنا بأعمال إبراهيم، إن أبناء إبراهيم الحقيقيين هم الذين سألوا عما ينبغي فعله. ذاتها قيمة الإنسان التي ارتبطت بقيمة العمل الذي يقدمه للعالمين كما جاء عن السيد المسيح - عليه السلام - فالإنسان ليس بنسبه أو انتمائه، عندما يقف الجميع أمام الرب في يوم القيامة، حينها سيكون التمييز على أساس الأعمال وليس بأي شيء آخر.

 في طريقي لكتابة هذا المقال تذكرت بعض زملاء دراستي في مرحلة الثانوية، حينما كانوا يتجاذبون أطراف الحديث حول حركة تبشيرية مسيحية ظهرت فجأة في مدينة عدن، وأن كل ما على الشاب أن يفعله هو الحضور إلى الكنيسة ليعلن دخوله الدين المسيحي، وعلى فوره تبدأ إجراءات حصوله على عمل بالإضافة لاستلامه مبلغ مالي مغري ومن الممكن جدًا أن يسافر إلى خارج البلاد، لم نكن على دراية كافية بمدى مصداقية ذلك. تسأل أحدهم محبطًا(ماذا سأعمل بدين لا يوظف إلا في أعمال التخريب وإشاعة الفوضى؟ - لما كانت تشهده البلاد في تلك الفترة من تفجيرات من قبل بعض العناصر المخربة المجهولة - وتسأل بلكنة يائسة، ماذا سأعمل بدين لا يوفر لي حياة كريمة؟، بينما هناك دين آخر سيوفر لي كل شيء، وفي الأخير كلها أديان الله). وفجأة أيضًا لم نعد نسمع أي أخبار عن الحركة التبشيرية المذكورة. كان أكبر هم يمتلك أحدهم هو ماذا سيعمل بعد المرحلة الثانوية؟، هل سيستطيع الالتحاق بالكلية التي يريدها؟ وإن لم يكن، فهل سيحصل على وظيفة تساعده على ذلك الحلم؟، أو على الأقل تساعده على توفير حياة كريمة في بيتهم إلى جانب والده؟، وتكوين أسرة هو ربها؟. هنا ينجلي الغبار عن توظيف غبي يسيء للدين وآخر ذكي يضيف له.

 ما زال العرب والمسلمين يتشاكون ويتباكون ويشيرون بأصابع الحسرة إلى تقدم الغرب في كل مجالات الحياة حتى الآن، ويرددون بحزن أنهم سر ذلك التقدم والتطور الذي يشهده الغرب، هو علومهم التي عمل عليها العرب الأولين طويلًا، ليأتي الغرب ببساطة، يأخذها ويعمل عليها بتفاني أصحابها، ليرتقي بحياته وبحياة من حوله. وكأن الغرب لطشوا تلك العلوم ومنعوها عن العرب. منذ تلك الحادثة، صار الغرب يمنحون العرب الجوائز والشهائد تكريمًا لهم عن أي إنجاز مهم في عالم الإنسانية في مختلف الجوانب، وعندما راح العرب يستلمون جائزة عن أي اكتشاف أو اختراع يفيد البشرية، ذهب المتشددون إلى التسفيه بتلك الجوائز وبمصادرها ويقللون من قيمتها مهما كانت مهمة وما ستعمله من نقلة نوعية للعالم، بل أنهم سفهوا بتلك الإنجازات نفسها وكأنها لم تقدم شيء للإنسانية، والتي قد تكون نواة لأعظم قادم واكتشافات ستزيل الستار عن أسئلة أرهقت العالمين وهم يبحثون عن أجوبة لها. لم يتوقف الغرب هنا، ولكنه سعى إلى استقطاب علماء العرب والمسلمين، وفر لهم المناخ الملائم للإنتاج والإبداع، فوجدوا فرصتهم هناك.

 سبق المسلمون الغرب في النهضة والتقدم، فحضارتهم العلمية سبقت بقرون عدة، أما الغرب فلم ينهض ويتقدم إلا منذ ثلاثة قرون، كان الإسلام هو سبيل الحضارة والتقدم والرقي في الشرق وكان حكم القساوسة سبب التخلف والجهل في الغرب، ثار الغرب على رجال الكنيسة وتخلصوا من نفوذهم، وصار(ما لقيصر.. لقيصر، وما لله.. لله)، بعد أن تقوقع الباباوات في الفاتيكان والمطارنة والقسس في أديرتهم، وانتهى تحكم الباباوات في مصائر الناس وحياتهم، فأتجه الغرب إلى الشرق، ليأخذوا العلوم من مصادرها بما يساعد على تقدمهم، وبدءوا العمل عليها. لقد ركب المسلمون الدالة التناقصية واتجهوا نحو التخلف، فانحدر منحنى الشرق المتقدم، وركب الغرب الدالة التزايدية واتجهوا صوب التقدم، فارتفع منحنى الغرب المتخلف.

 لقد تقدم الغرب لأنه عمل بجد على عوامل النهضة، لم يترك وسيلة إلا وأستغلها ليتقدم، حتى وإن كانت خطوة واحدة إلى الأمام، أدرك جيدًا سنن الله الكونية ولبى الدعوة إلى الفطرة السليمة، التي ليست حكرًا على أحد من البشر مهما كانت ديانته، فالريادة والوصول إلى السيادة لا بد لها من الاجتهاد بالعمل المستمر. لقد أستغل الغرب الثروات واستفاد من القدرات بأفضل الطرق وفق خطط مرسومة إلى أهداف محددة يرعاها نظام يَحترم. بأجندة مدروسة رغب الغرب بالتقدم فكان له ذلك.

 بينما العرب والمسلمين اكتفوا برفع شعار الإسلام، واستماتوا بذكر الله صباحًا ومساءًا، اعتقادًا منهم بأن ذلك سيعيد الأمجاد السابقة دون استغلال الوسائل والطاقات والسعي في الأرض. لقد غفلوا بالفعل من أن الإيمان بالله حياة متكاملة لا تختزل في الجانب التعبدي. لم يأخذوا بحياة العلماء الأولين الذين كانوا قمة العبادة وفي نفس الوقت قمة الاجتهاد والعمل والأخذ بالأسباب. يعيش العرب والمسلمون على الأطلال البائدة والأمجاد الضائعة، بينما يشهد الغرب نهضة مبهرة وتقدمًا مدهشًا على جميع المستويات.

 وجدت محاولات جادة من بعض الدول الإسلامية مثل ماليزيا للتقدم واللحاق بركب الغرب. قطعت ماليزيا شوطًا مهمًا، فتحررت من هيمنة الغرب إلى حد ما، واستفادت من الطاقات في الداخل، فبدأت عملية التطوير تؤتي ثمارها، لقد استطاع رئيس الوزراء الماليزي الأسبق/ مهاتير محمد تحقيق قفزة تنموية هائلة لبلاده في وقت قياسي، أبهرت العالم وخاصة الإسلامي، لتدخل ماليزيا في مصاف الدول المتقدمة. ترك مهاتير كل شيء جانبًا واعتنق قيم العمل السائدة في اليابان وكوريا - الأقوى اقتصاديًا حول العالم - من الانضباط الشديد والإخلاص التام بالعمل والحرص على اختيار الأشخاص الأكفّاء لأنهم قدوة لمن هم تحت إدارتهم.

 إن العرب والمسلمين يعانون من فقدان التخطيط والمثابرة، وهما عنصران حيويان ومحوريان في التنمية والتطوير، لذلك لا بد أن تعيد الحكومات الإسلامية النظر في حساباتها، وأن ترسم خطة تنموية وإستراتيجيات مناسبة، آخذة بالاعتبار التجارب الناجحة لدول شرق آسيا. على الرغم من أن الدين الإسلامي قد أشار لأهمية التخطيط والنظام والحفاظ على الوقت والالتزام وإتقان العمل و.. الخ، أراد الدين الإسلامي لمعتنقيه أن لا يكونوا في يوم عالة على أحد، إلا أنهم خذلوه وأعالوه بالتقاعس والكسل.

 إذا كان من أهم أسباب تقدم الغرب هو الحد من سطوة رجال الدين وإبعادهم عن التدخل والتحكم بشؤون الحياة المختلفة وحصر صلاحياتهم في الأمور الدينية فقط، فإنه على العكس من ذلك، قد كان من أهم أسباب تأخر العرب والمسلمين هو عدم فهمهم للب دينهم والحكمة من استخلاف الله لهم في الأرض، ويبقى سبيل استعادة العرب والمسلمين لأمجادهم واللحاق بركب التقدم بفهم الآية الكريمة(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ..)، دون أن يعني ذلك تركهم لشؤونهم الدينية وباعتدال.

 يقول الشيخ محمد الغزالي(إذا كُلف الإنسان بعمل، فإن إنجاز هذا العمل على أفضل وجه يعد فرض عين، وجب أداؤه كالصوم والصلاة، ولا يجوز له أن يتراخى فيه أو يفرط، وكل ذرة من استهانة, فهي عصيان لله واعتداء على الدين)، وتقول الأم تريزا(أعطِ العالم خير ما عندك علي أي حال، ففي النهاية الأمر بينك وبين ربك ولم يكن بينك وبين الناس)، وورد عن أنس بن مالك عن النبي(ص) قال:(إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة"أي نخلة صغيرة"، فإن استطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها). على مدى خمسين ألف سنة سُنسأل عن أعمالنا وسُنجزئ عليها في يوم القيامة بحضور الجميع وأمام الله(الرب)، فالجزاء من جنس العمل.

وقل اعملوا..؟!