السلفيون واستحقاقات اللحظة الراهنة

حسام مقلد *

[email protected]

تفاجأ الكثير من المصريين أو النخب المصرية تحديدا بحجم السلفيين في مصر، وأذهلهم وأزعج قطاعات واسعة منهم ولوج هؤلاء السلفيين المكثف إلى عالم السياسة بعد الثورة، وراحوا يتساءلون: من هؤلاء؟ وما أهدافهم؟ وما حقيقية رؤيتهم لطبيعة الحياة المستقبلية في مصر؟ وكيف سيتعاطون مع مجالاتها المختلفة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ وما مدى نضجهم ووعيهم السياسي؟ وما مستوى إلمامهم بالمتغيرات الإستراتيجية الحاصلة في المنطقة والعالم؟ وما مدى فهمهم واستيعابهم لحقيقة الوضع الإقليمي والدولي؟ وما نظرتهم بالتحديد لمجالات بعينها كحقوق المرأة والسياحة، والفن بأنواعه المختلفة وفي مقدمتها الموسيقى والتمثيل...؟ وما الأدوات التي يمتلكها السلفيون لتشكيل دولة حديثة تحمل أفكارهم، وتتجسد فيها عمليا ملامح رؤيتهم العقدية للكون والحياة؟!!

ورغم طيبة السلفيين، ونبل مقصدهم، ونقاء طويتهم، وصدق مشاعرهم، و حسن نواياهم، وقدرتهم الفائقة على التأثير في عواطف الكثيرين إلا أنهم فشلوا في تسويق أنفسهم سياسياً، ومردُّ ذلك في رأيي أن التيار السلفي يمثل مدرسة عقدية خاصة لها توجهات فكرية معينة، لكنه لا يمثل حركة سياسية عميقة ومنظمة، ولا يعبر عن رؤية أيديولوجية متكاملة، ولا يطرح مشروعا إصلاحيا متماسكا، وخطابه الديني بحاجة ماسة لكثير من التطوير والتحديث لإقناع العقل أكثر من الاعتماد على التأثير العاطفي والوجداني من خلال الترغيب والترهيب، ولا أتفق مع الذين ذهبوا إلى أن العالم العربي والإسلامي أوشك على الدخول فيما أسموه بالزمن السلفي (وفي مقدمتهم الباحث النابه الأستاذ حسام تمام الذي توفي بالأمس القريب، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته) بل إنني أزعم أن السلفية المعاصرة ـ مع احترامي الكامل للفكرة والأشخاص ـ مجرد ظاهرة شكلية في معظم الأحوال، ساعد على ذيوعها مؤخرا الكثير من العوامل العاطفية والنفسية، والمشاعر الدينية الجياشة التي يظن المسلم أنه لمجرد امتلاكه لها فستنحل كل مشاكله الحياتية في عالمه النظري الافتراضي؛ حيث فقد الناس الثقة في كافة المشاريع غير الإسلامية، ويعتقدون أنه بمجرد أن يحكم الإسلاميون فستنصلح أحوال الدنيا كلها، وسيسود العدل وينتهي الظلم، ويحصل  كل واحد في المجتمع على حقوقه كاملة، وبالتالي سيعيش الناس كلهم سعداء مسرورين بعد عثورهم على الفردوس المفقود!!

والأمر كله في رأيي مجرد أحلام يقظة!! ولا يعدو كونه حيلة نفسية يهرب المرء عبرها من مرارة الواقع إلى فردوسه الخاص، وعالمه الجميل المريح، حيث العدالة والحرية والكرامة والمساواة بين الناس لمجرد ادعاء التدين والصلاح، وواضح أن هذا الوضع المتخَيَّل بعيد كل البعد عن الواقع العملي في دنيا الناس، والتاريخ باستثناء عصر صدر الإسلام (فترة النبوة والخلفاء الراشدين) لم يسجل لنا تحقق هذا الحلم الجميل في أرض الواقع، والممارسات العملية الحالية التي نراها بين الأفراد السلفيين في حياتنا المعاصرة، وتحديدا في المؤسسات التي يمتلكها سلفيون، أو ذات الطابع السلفي لا تختلف كثيرا عن ممارسات غير السلفيين، فبإمكاننا بوضوح شديد أن نرى: إهمال الموظف السلفي في عمله، وعدم تقديره لقيمة إتقان العمل وتجويده، ورسوخ السلبيات المجتمعية الخطيرة في أعماق شخصيته، شأنه في ذلك شأن غير السلفيين، بل يمكننا بمنتهى اليسر والسهولة أن نجد بين صفوف السلفيين الشخص المتسلق والنفعي والبراجماتي (بالمعنى السلبي...) والوصولي والانتهازي و... و... إلخ، وحسب علمي لم أرَ أو أسمع أن أحد الموظفين المنتمين للفكر السلفي في أي موقع من مواقع العمل والإنتاج رفض أن يأخذ ما ليس من حقه من ترقيات أو مكافآت مادية أو معنوية، أو أنه قدَّم زميلا عليه أحق منه بذلك التكريم؛ لأنه يتمتع بالخبرة والتميز في مجاله أكثر منه، ولا نرى بين السلفيين الحرص التام على أوقات العمل وعدم إهدارها في غير صالحه، بل الأدهى والأمر أن نجد من بين السلفيين من يرفع شعار (على قد فلوسهم...!!) ولا أدري كيف نسي هؤلاء أن الله تعالى يراقبهم، وأنهم مراقَبون من بقية زملائهم، فهم يتابعونهم لحظة بلحظة ليتعرفوا عمليا على نموذجهم القيمي الذي يقدمونه للمجتمع على أنه طوق النجاة!!

وطبعا السلفيون في النهاية بشر كغيرهم من البشر وليسوا معصومين، وليس بمستساغ أن نحملهم فوق طاقتهم، لكنهم أولى بالصواب من غيرهم، ومن المحزن جدا أن نجد أخطاء المجتمع تتسلل إلى نفوسهم، وتتمكن منهم وتترسب في أعماقهم وتصبح جزءا من شخصيتهم، ويتصرفون من خلالها كغيرهم ممن لا يحملون دعوتهم، وهذا ما يجعل الكثيرين يعتبرون السلفية ظاهرة صوتية شكلية لا تُحْدِث تغييرا جوهريا في سلوك الناس، وإن كان بإمكاننا أن نرى بوضوح حضور الاتجاهات السلفية المختلفة المكثف في الفضائيات وفي الشبكة العنكبوتية، حيث السلفيون هم الأكثر حضورا في مواقع الإنترنت، لكن هذا الحضور الطاغي يبقى حضورا شكليا فقط يهتم بالمظاهر الشكلية للتدين، ويجيد الكلام عن الإسلام، ويبرع في إثارة أشواق الناس إليه، لكن لا يعيشه في الواقع!! وكل ذلك لا يعنينا في شيء فالمواطن العادي يريد أن يلمس فرقا جوهريا في سلوكيات الإنسان السلفي (وغير السلفي...) وممارساته العملية، وليس فقط في مظهره التقليدي بثوبه القصير الأبيض وسواكه الجميل في فمه أو في جيبه بجوار القلم!! فعلى المستوى الفردي ينبغي أن لا نلمس في الفرد السلفي فقط صدق النية، وحسن السمت والهيأة، وكل ذلك مهم ولا شك، لكن الأهم أن نلمس: التواضع، وطيب الكلام، ولين الجانب، وحسن المعشر، والعدل والإنصاف، وإعطاء الحقوق إلى أهلها، والحرص على إتقان العمل، ونفع الناس،... وغير ذلك من الأخلاق النبيلة، والقيم الجميلة، والمبادئ الرفيعة، والسلوكيات الحسنة.

وأعتقد أن الفكرة السلفية الحالية إن استمرت على ما هي عليه فستظل مجرد حلم جميل يدغدغ مشاعر الجماهير ويخاطب عواطفهم الدينية، وهذا جيد وله تأثيره النفسي المؤقت على المستوى النظري، لكنه لا يكفي وحده؛ ففي لحظة معينة لا بد أن يتحول التنظير إلى واقع وإلا افتقد أثره، وهذا لن يتأتى ما لم تمتلك المدرسة السلفية ( بتنويعاتها...) خطة عملية واضحة لتنفيذ مشروعها الإصلاحي، لكن المشكلة في ظني ـ والله أعلم ـ أن مجمل أطياف وتنويعات التيار السلفي تفتقر إلى امتلاك مشروع إصلاحي متكامل البنية، مشروع تتوافر له مقومات الديمومة والبقاء، وما يسميه البعض بالمشروع الإصلاحي السلفي لا يزال حتى الآن بذرة  في مرحلة التكوين الجنيني لمولود يجري استنساخه وتعديله وراثيا وفق أساليب شتى من الهندسة الأيديولوجية ـ إن صح التعبير ـ وأظن أن عوامل تشوهه وولادته ميتا أكثر بكثير من عوامل ولادته سليما معافى قابلا للتطبيق!! وليس ذلك بسبب قصور الإسلام، وإنما بسبب ضعف البنية الفكرية والثقافية التي يرتكز عليها السلفيون.

لقد أفلس العلمانيون والليبراليون واليساريون العرب فكريا وثقافيا وأيدلوجيا، وفشلوا في تبني أي مشروع نهضة ناجح على مدى العقود الطويلة الماضية رغم أن مفاتيح السلطة والثروة والنفوذ كانت كلها بأيديهم وحدهم دون غيرهم، لكنهم فشلوا فشلا ذريعا، ولم يجلبوا لنا سوى الفقر والجهل والتخلف والمرض والتشرذم والضياع؛ وذلك لأنهم لم يمتلكوا يوما مشروعا إصلاحيا حقيقيا، والآن جاءت الثورة المصرية المباركة وأسقطت كل هذا الوهم وأزالت كل هذا الركام، وفتحت الطريق أمام الإسلاميين وغيرهم لتقديم رؤاهم الإصلاحية والإسهام في إنقاذ الوطن وانتشاله من الحضيض الذي أوصلنا إليه النظام البائد، وعلى كل من يرى في نفسه القدرة والكفاءة أن يتقدم لإخراج مصر من هذه الوهدة السحيقة التي هوت إليها، وليعلم السلفيون وغيرهم أن الأمر جد لا هزل فيه، ولا مجال لإضاعة عقود أخرى في التجريب والبحث عن خارطة طريق تلائمنا!!

ولعل الإسلاميين في مصر وعلى رأسهم السلفيون معنيون أكثر من غيرهم الآن بتدبر الساحة السياسية المحلية والإقليمية والدولية جيدا، فبديهي أن هناك قواعد تحكم هذه الساحة، كما أن هناك ثوابت ومسلمات إستراتيجية تحدد تصرفات كل طرف، ولا يتخيل عاقل أن أوربا ذلك النادي المسيحي المغلق الذي لم يقبل تركيا العلمانية عضوا في اتحاده ستسمح هكذا وبكل بساطة بقيام أنظمة حكم إسلامية في فنائها الخلفي على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط!! ولا يعني ذلك أننا يجب أن نأخذ الأمر أو الموافقة من أوربا، أو ننتظر حتى تتكرم وتتعطف وتوافق على مشروع نهضتنا، فهذا لن يحدث أبدا، وكل ما أقصده أن علينا التحسب لكل خطوة نخطوها، ومعرفة ما سيترتب عليها من ردات الفعل، وتوطين أنفسنا على حسن إدارة مواقف كهذه!!

إن أوربا قارة مسيحية ـ رغم علمانيتها ـ ولن تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى بذور دولة الخلافة الإسلامية تغرس من جديد على مرمى حجر منها في دول شمال أفريقيا، كما أن أوربا وأمريكا تمران بأزمة مالية طاحنة، وهما في أمس الحاجة لأموال العرب ونفطهم، ولا شك أن الجميع قد تفاجأ بالربيع العربي، وهذه المستجدات ستلقي بظلالها على المنطقة برمتها، وستفرض حتما شروطا وأنماطا جديدة للعبة السياسية في العالم بأسره فللجميع مصالح في المنطقة، وللسيطرة عليها يدور صراع صامت بين كل القوى الدولية والإقليمية (وذيولهم وأتباعهم من القوى المحلية...!!) ولا أستبعد أن يجري توتير وإشعال بعض بؤر وجيوب هذا الصراع في هذه البقعة أو تلك من عالمنا العربي؛ لإفشال ربيع شعوبه التي تتوق إلى الحرية والكرامة!!

في ضوء ذلك على الإسلاميين عموما والسلفيين خصوصا تحديد خياراتهم وترتيب أولوياتهم والتعامل مع كل هذه المستجدات تعاملا مغايرا تماما لما درجوا عليه في الماضي؛ فالانتخابات البرلمانية والرئاسية ليست كانتخابات النقابات أو اتحادات الطلاب في الجامعات!! والتحرك الحر في ظل الانفتاح السياسي الحالي يفرض على الجميع مستوى معينا من الوعي والحنكة، ويتطلب قدرا كبيرا من الحكمة والنضج السياسي، وعلى السلفيين تحديدا إبداع خطاب سياسي أذكى كثيرا من السابق! 

إن الأمور في مصر لم تعد كما كانت في الماضي القريب قبل25 يناير، وليس بمقبول سياسيا أن يظل السلفيون واقعين تحت تأثير حالة من الازدواجية والفصام، والتذبذب والتردد في اتخاذ المواقف وتحديد الخيارات، ولن يستسيغ العقل المسلم بعد ذلك التناقض الحاد والتضارب الصارخ الذي لمسناه لدى أطياف السلفيين فيما يتعلق بالمسائل السياسية، فلم يعد مقبولا أن نسمع جماعة سلفية ما تُحرِّم المشاركة في الانتخابات ترشيحا وانتخابا، وتحشد لذلك الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة، ثم فجأة وعلى حين غرة توافق على المشاركة فيها(...!!) ولم يعد مقبولا رفض المشاركة في المظاهرات السلمية وتحريمها تحريما باتا باعتبارها خروجا على الحاكم وتأييد ذلك بالبراهين والأدلة الجازمة القاطعة، وبين عشية وضحاها يتم إباحتها والدعوة للمشاركة فيها، بل والأنكى الخروج بمئات الآلاف وتوجيه التهديدات شديدة اللهجة للسلطة الحاكمة!! ولم يعد مستساغا أن ندعو أمام الجميع بأهمية وحتمية توحيد الصف الإسلامي، والقضاء على أسباب الفرقة والخلاف، ثم لا نفتأ نعادي أطرافا إسلامية أخرى، ولا نرعوي أن نتخاصم ونتصارع ونتشظى فيما بيننا!!

في الحقيقة على الإسلاميين عموما والسلفيين خصوصا أن يدركوا أن أشواق الجماهير إلى الإسلام وعواطف الشعب الجياشة لتجريب الفكرة الإسلامية وتمكينها في أرض الواقع لمعرفة جدواها العملية في إنقاذ البلاد والعباد مما وصلنا إليه لم تعد كافية وحدها لضمان انتخابهم وإيصالهم إلى السلطة، فهناك أسئلة خطيرة ينبغي على السلفيين الإجابة عنها بمنتهى الوضوح، وتحديد مواقفهم منها بصراحة تامة قبل الذهاب لصناديق الاقتراع؛ وذلك إن كانوا جادين في تحركهم وراغبين في المنافسة فعلا، ولست معنيا هنا بالحديث عن الإخوان المسلمين وقطعا عليهم مآخذ كغيرهم، لكن لهم تاريخهم الطويل الذي يزيد عن ثمانين سنة، كما يتمتعون برصيد كبير وخبرة طويلة في ميدان العمل النيابي من خلال ممارساتهم العملية طوال السنوات الماضية، في الوقت الذي كان فيه السلفيون ينكرون عليهم ذلك، ويرفضون رفضا تاما الدخول في اللعبة السياسية باعتبار أنها تخالف الشرع!! وأرجو أن يُفهم هذا الكلام جيدا ويُؤخذ على المحمل الحسن، ولا تُتَّهم النوايا بالسوء، فلست معنيا هنا بامتداح أحد أو الدعاية الانتخابية لأي طرف، لكننا بصدد تجربة جديدة يخوضها السلفيون نتمنى لها كل التوفيق والنجاح؛ لتكون ردءا ومعينا لبقية الإسلاميين، وتكون فاتحة خير لأهل مصر كلهم مسلمين ومسيحيين، لكن هناك كثيرين غيرنا يتمنون لهذه التجربة الفشل الذريع، كما أن هناك من يسعى بكل جهده كي يكون الحراك السلفي بعد الثورة عملا مفخخا ومنظما لإجهاض التيار الإسلامي برمته، بل لقد شبه أحدهم السلفيين بـ"ألغام زرعها النظام السابق'' لوقف المد الإسلامي جملة وتفصيلا!! وكلي ثقة في حكمة إخواني السلفيين وأنهم سيتعاملون بكل حكمة مع استحقاقات اللحظة الراهنة، وسيثبتون للجميع أنهم أهل للمسئولية، والله تعالى أسأل أن يوفقنا إلى العمل بما يحب ويرضى، ويأخذ بنواصينا جميعا إلى البر والتقوى، وأن يجعل كلماتنا وسائر أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، ونافعة لمصر والمصريين!!

                

 * كاتب إسلامي مصري