ثنائيات متداخلة في عملنا الحركي

بين يدي السلسلة :

تحديد المصطلحات وتصحيح المفاهيم والتمييز بينها

جمال زواري أحمد ـ الجزائر

[email protected]

إن كل من يجمع بين ثلاثية المدارسة والممارسة والمتابعة للعمل الحركي الإسلامي ، يلحظ بوضوح وجود إشكالات لدى العديد من أبناء الحركة الإسلامية وحتى قادتها ، في التحديد الدقيق والصحيح والسليم للكثير من المفاهيم والمصطلحات ، حتى ترقى في بعض الأحيان إلى مرتبة ما سمّاه مالك بن نبي رحمه الله مشكلة الأفكار ، ومن ثمّ يعتري العوج والنقص والقصور وحتى الانحراف الفعل والسلوك والممارسة المنبثقة عن هذه المفاهيم والأفكار.

ولعل الكثير من ضعف الإنتاج وتواضع النتائج وبساطة الإنجاز وتضييع الفرص ، في ميادين ومجالات وأحداث ومحطات مختلفة ، وحتى الهزائم والكوارث والتراجعات التي حدثت لدى بعض هذه الحركات على مدار تاريخها ، من أسبابها الجوهرية هو الوقوع الإستباقي في أزمة المفاهيم واهتزازها واختلال المصطلحات ومشكلة الأفكار هذه ، لأنه من غير المعقول أن يقام بناء سليم على أسس غير صحيحة أو قاصرة أو هشة ، أو تنتظر نهايات طموحة ومشرقة ، مبنية على مقدمات مختلّة.

فالخلط والتداخل في مفاهيم الكلمات ودلائل المصطلحات ، تسبب أثناء مسيرة العمل الدعوي والحركي الإسلامي ، في الكثير من الممارسات الخاطئة من خلال الإسقاطات غير الموفقة لهذه المفاهيم والمصطلحات من الناحية العملية والسلوكية والممارساتية والموقفية على أرض الواقع في التعامل مع الكثير من القضايا المطروحة .

وقد أُثار البعض معاركا طاحنة في وقت من الأوقات ــ ولا زال ــ داخل الساحة الدعوية والحركية الإسلامية عموما ، تخطئة وانتقادا اتهاما وتخوينا وتبديعا وتفسيقا وحتى تكفيرا ، من أجل مفهوم أو مصطلح ، اختلط عليه الأمر فيه ، وتداخل لديه بغيره ، فأسقط هذا في مكان هذا والعكس ، فأحدث بذلك فتنا وجراحات لازال بعضها لم يلتئم بعد ، في الجسم الإسلامي الحركي تحديدا ، سواء في شقة الدعوي أو السياسي .

فقد روي عن أحد ملوك الصين أنه لمّا ولّي الحكم ، استشار حكيم زمانه فيما يجب أن يعمل أولا ، فقال له : أول عمل ينبغي أن تقوم به هو تصحيح الأسماء ، أي تحديد المحتوى الصحيح للأسماء حتى لا تخلو من معانيها الحقيقية ، ولا تفقد الكلمات سلطانها.

فتحديد المفاهيم بمعانيها الصحيحة ، وعدم الخلط بين المصطلحات ، من الأمور التي يجب أن تراعى في العمل الدعوي والحركي ، وأن تحظى بالأولوية في بنائنا الفكري المعاصر ، والواجب علينا صقل مرأة أذهاننا ، حتى تلتقط صورا حقيقية للأشياء والأفكار والمفاهيم والمصطلحات ، لم تفسدها وتغبّشها المبالغة والتداخل ، كما لم تشبها نوازع الأهواء .

فكل الناس يعرفون الفضائل من الرذائل ويفهمون معانيها نظريا على الأقل ، لكن عندما نأتي للتطبيق والجانب العملي منها نجد الخلل والخلط والتداخل وانقلاب الصورة ، أما إدراك الفوارق الدقيقة والحدّية الفاصلة بينها وكذا غوامضها ومتشابهها ، فتلك مرتبة دونها خرت القتاد.

إن التمييز بين المتداخل من المفاهيم والمصطلحات وحتى الأفكار ، ومعرفة الحد الفاصل بين مدلولاتها وتفسيراتها وتطبيقاتها في الواقع العملي بشكل صحيح ، وعدم الخلط بين مفاهيمها ، من مستلزمات الفهم السليم الذي ننشده ، والذي هو مفتاح كل عمل جاد ، ومنطلق كل تحرك إيجابي ، وقبل ذلك وأثناءه وبعده هو الركن الركين لبنائنا الدعوي والحركي .

هذا التمييز التصوري والسلوكي ، وكذا الموازنة الدقيقة بين الأفعال والأعمال والمواقف أمر مهم في ضمان فعالية العمل الحركي واستمراره وعمقه وبقائه وتأثيره الإيجابي في الساحات المختلفة ،

وإن كان الجانب المقاصدي له دخل كبير في تحديد المفهوم والمصطلح والفعل الناتج عنه ، وتصنيف كل ذلك في الخانة المتناسبة مع هذا المقصد ، فكثير ما يحوّل وجود المقصد السليم والإخلاص والتجرّد من عدمه أو غيابه المفهوم والسلوك المنبثق عنه من جهة إلى الجهة التي تقابلها ، ومن مجال إلى المجال الذي يعاكسه تماما ، طبعا مع ضرورة توفر عنصر الصواب والفهم الصحيح لكل ذلك ، لذلك نجد الإمام ابن القيم رحمه الله ربط بين الأمرين ــ وهو محق ــ حسن الفهم وحسن القصد ، ليكتمل البناء الفكري والسلوكي لأي عمل لمّا قال :( صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده ، بل ما أعطي عبدٌ عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجلّ منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم ، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم ، وهم أهل الصراط المستقيم الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة ، وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به بين الصحيح والفاسد ، والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، ويمدّه حسن القصد وتحرّي الحق وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته إتباع الهوى وإيثار الدنيا وطلب محمدة الخلق وترك التقوى)..(1)

 كما إن حاسة التمييز هذه التي نتحدث عنها ، والتي ينبغي أن يملكها كل فرد منا مهما كان موقعه في البناء الحركي ، يجب أن تشمل كذلك كل ما يدخل ويندرج تحت بابي الخير والشر في الأقوال والأعمال والسلوكات والممارسات ، بشكل دقيق كذلك يصل إلى المرتبة التي عبّر عنها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بقوله : (كما يقال ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر إنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين وينشد ... إن اللبيب إذا بدا من جسمه ... مرضان مختلفان داوى الأخطرا ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي سَائِرِ الْأُمُور..).(2)

فبناء على هذه القاعدة المهمة وإعمالا لها ، نحن في أمس الحاجة في عملنا الدعوي والحركي ، أن نعرف ونميز بشكل دقيق :

ــ الخير وما يندرج تحته من أقوال وأفعال وسلوكات وممارسات ، وكذا الترتيب الصحيح لكل ذلك وهو المعبّر عنه بخير الخيرين ، لأن :(ترك الترتيب بين الخيرات ، من جملة الشرور) ، كما قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله.(3)

وكذلك ضرورة تمييز الخير المشوب بالدخن والسعي لتصفيته منه والاستفادة منه.

ــ الشر وما يندرج تحته كذلك من أقوال وأفعال وسلوكات وممارسات ، وأيضا الترتيب الصحيح والموازنة السليمة لكل ذلك وهو المعبّر عنه بخير الشرين أي أهونهما وأخفهما ضررا ، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يصف المؤمن :( هذه حال المؤمن ، يكون فطنا حاذقا أعرف الناس بالشر وأبعدهم منه، إذا تكلم في الشر وأسبابه ظننته من شر الناس، فإذا خالطته وعرفت طويته، رأيته من أبر الناس ، والمقصود أن من بلي بالآفات صار من أعرف الناس بطرقها ، وأمكنه أن يسدها على نفسه وعلى من استنصحه من الناس ، ومن لم يستنصحه).(4)

كذلك ضرورة تمييز قليل الخير المنغمر في الشر والمختلط معه مهما كان صغيرا والسعي لتوسيع دوائره وتكثيره على حساب الشر الموجود فيه .

هناك الكثير من الثنائيات المتعلقة بالمفاهيم والمصطلحات متداخلة إلى حدّ كبير فهما وتطبيقا في عملنا الدعوي والحركي ، ينبغي الإدراك الدقيق للفرق والحد الفاصل بين الغوامض والمتشابه والمتداخل منها كما قلنا، حتى نكون على بصيرة من أمرنا بحق ، فقد يقع التداخل بين مفهومين أو مصطلحين أحدهما مطلوب مرغوب فيه ، والآخر مرفوض مذموم ، فيحل هذا محل هذا والعكس في أذهان البعض وسلوكهم. من هنا جاءت هذه المقاربة على شكل سلسلة ، للإشارة إلى مجموعة من الثنائيات الحدّية التي كثر ويكثر فيها الخلط والتداخل ، على مستوى الفهم والتصور والوعي والإدراك ، وكذلك على مستوى الفعل والسلوك والممارسة ، فرديا وجماعيا وحتى مؤسساتيا في بعض الأحيان.

وذلك محاولة لإيجاد شعرة الميزان ، وتمييز الحد الفاصل بينها بدقة ، للمساهمة في تعميق الوعي وتدقيق الفهم وتصحيح التصور ، لتمتين البناء الفكري ، وكذا تطوير الأداء العملي ، لوضع القدم على أرضية صلبة وأساس وثيق ، مهما كانت المنعرجات والمنعطفات والتحديات والمتغيرات ، ولكي يشكل كل واحد من أبناء الحركة قيمة مضافة إيجابية للمشروع ، بحسن فهمه وعمق وعيه وسرعة بديهته ونبل مقصده وفعالية تحركه ، بدل أن يكون عبئا وعالة وكلاّ على الحركة ومشروعها ، ودعاية سيئة لها ، فيكون هادما وهو يظن أنه من بناتها ، ومخذلا وهو يعتقد أنه من أنصارها ، وصارفا الآخرين عنها وهو يتصور أنه من دعاتها.

فقد أحصينا عددا من هذه الثنائيات المتداخلة لنقف عندها في هذه السلسلة ، تصحيحا لإختلالات وقعت وتقع في هذا الإطار لها تأثيرها السلبي على الفرد والمجموع وعلى الحركة والمشروع.

فإلى أول الثنائيات.......

يتبــــــــــــع .....

                

1 ــ ابن القيم ، إعلام الموقعين ، ج1 ، ص87.

2 ــ ابن تيمية ، الفتاوى ، ج20، ص 54.

3 ــ أبو حامد الغزالي ، الإحياء ، ج3 ، ص403.

4 ــ ابن القيم ، مفتاح دار السعادة ، ج2 ، ص289.