فروق بين ثورتين

محمد العلي / دمشق

ثمة فروق جوهرية بين الثورة الشعبية السورية الملتهبة اليوم ( ثورة الخامس عشر من آذار ) ، وبين ثورة الإخوان المسلمين ( حماة ) في أوائل الثمانينات من القرن الماضي ، وهذه الفروق لها علاقة بالنتائج والآثار التي تمخضت عن الأولى والتي ستتمخض عن الثانية ، وفي البدء ، فإني إذ أحاول تلمس عيوب الأولى منهما ، لا أقصد الإساءة إليها ولا أبخسها حقها ، وحسبها أنها كانت السبَّاقة إلى مصارعة الطغيان والاستبداد ومحاولة إزالة النظام البعثي القمعي في وقت مبكر ، وكادت أن تنجح بل كانت قاب قوسين أو أدنى لكن لكلِّ أجلٍ كتاب ، وقد آن الأوان ! ثم كيف أسيء إليها ، وقد قدَّمت ما بين 30 ألف إلى 40 ألف شهيد ، حسب تقدير اللجنة السورية لحقوق الإنسان ، ووفقاً لتوماس فريدمان ؛ قام رفعت الأسد بالتباهي بأنه قتل 38 ألفاً في حماة ، وهُدِّمت أحياءٌ بكاملها على رؤوس أصحابها ؟!. ولعل هذا وجه التشابه بين الثورتين أن كلتيهما قامتا ضد الظلم والاستبداد ، وأنهما كلتيهما واجهتا قمعاً وحشياً منقطع النظير . إذن لا بأس بالنقد واستعراض الأخطاء والعيوب التي شابت ثورة الإخوان المسلمين ( 1982م ) ، سواءً كانت في الأهداف أو في المنهج أو في الوسائل والأساليب ، وذلك لاستخلاص الدروس والعبر والاستفادة منها ، بحيث لا نكرر الأخطاء ذاتها ، ولتفادى النتائج المروِّعة التي انتهت إليها !. وسأحاول اختصار الفروق بين الثورتين في النقاط التالية :

 أولاً – أهم الفروق بين الثورتين في نظري أن ثورة الإخوان المسلمين على النظام السوري في أوائل الثمانينات كانت ثورة حزب وهذه ثورة شعب !. فالأولى ثورة حزب سياسي ، له أيديولوجيته الخاصة ، وينضوي تحت جناحيه نخبة من المثقفين والسياسيين والطلاب ؛ نعم له قاعدته الشعبية ومرجعيته الإسلامية ، لكنها تبقى ضيقة إذا ما قيست بثورة الشعب كله ، والجدير بالذكر هنا أنها لم تكن ثورة جميع الإخوان المسلمين في سوريا بل كانت ثورة جناح خاص ، استقل بنفسه ، ونأى عن الجماعة الأم ، واختار طريق الثورة المسلحة .

- وفي السياق نفسه ، فإن ثورة الإخوان المسلمين في الثمانينات كانت ثورة إقليم أو بتعبير أصح كانت منحصرة في شمال سورية ( حماة خاصة وحلب وجسر الشغور ) ، ولم تمتد إلى بقية المدن والمحافظات ، نعم الاعتقالات والعنف والإرعاب والإرهاب ساد القطر السوري كله ، وذاق مرارته سائر الشعب وذُقْنا مرارته لكن الثورة انحصرت في ( محافظة أو محافظتين ) ، وانحصرت في ( جماعة أو فصيل مستقل عنها ) ، أما الثورة الشعبية اليوم فهي ثورة كل مواطنٍ سوريٍّ في طُول البلاد وعَرْضها ، ضد القهر والاضطهاد والاستبداد والاستعباد . نعم ، شرارة الثورة قدحتها ( درعا ) القريبة من دمشق لكن إرهاصاتها الأولى ، نبعت من الجامع الأموي التاريخي الشهير ، وهذا له دلالاته التي لا تخفى على فَطِنٍ ومن سوق الحميدية العريق ، ولهيبها الآن يمتد في جميع المدن والقرى ، طولاً وعرضاً ، شرقاً وغرباً ، بل أضحت حمص وهي في كبد سوريا بؤرة الثورة ومركزها وصارت دير الزور تباري درعا وتضاهيها ، ناهيك عن الساحل السوري حتى حلب الشهباء قد تنبهت بعد رقاد وتحركت بعد سكون!..

ثانياً - الخطاب في ثورة الإخوان المسلمين غلب عليه الخطاب الديني الطائفي ( أي أنه كان موجهاً ضد الطائفة العلوية ) ، ومن الجدير بالذكر أن الإخوان المسلمين استخدموا في تلك الأيام فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية (ت728) في طائفة النصيرية ، التي تبيح دماء الطائفة وأموالهم ، ومن المضحك أن عم بشار رفعت الأسد ، صاحب سرايا الدفاع سيئة الذكر ، والذي ورثه في دوره القذر ابن شقيقه ماهر الأسد ، استشاط حينذاك غضباً ، وطلب من جنوده البواسل من سرايا الدفاع القبض على الشيخ ابن تيمية ، حياً أو ميتاً ، وبعد بحث مضن تم العثور على قبره في جامعة دمشق قرب كلية الطب قديماً ، والذي يعود إلى ما يقارب سبعمئة عام ( ابن تيمية ت728 ) !. وفتوى ابن تيمية بالحقيقة فتوى مرهونة بظروفها وسياقاتها التاريخية والسياسية ، ولا يجوز توظيف هذه الفتوى وغيرها من فتاوى العلماء في الطائفة النصيرية في إدارة الصراع ، في الحالة الراهنة ، لتغير الظروف والأحوال ، ثم ليس فتوى الشيخ ولا غيره هي مصدر التشريع ، والرجل غير معصوم ، وفتواه غير ملزمة . والحاصل أن خطاب الثورة الحالية خطاب شعبي منفتح واع ، يحاول تجييش كل الطوائف والانتماءات لتأييد الثورة والمساهمة فيها .

ولذلك رأينا ثورة 15 مارس ترفع شعارات ومطالب وأهداف ، تلتقي عليها جميع ألوان الطيف السوري من عرب وكرد وشركس وتركمان وسنة وعلويين وشيعة ودروز وإسماعيلية ومرشدية ويزيدية .......إلخ ، فالشعب مطالبه واضحة ، ويقول بلسان واحد : "  الشعب السوري واحد " ، والشعب رفض رشوة النظام ، وقال كلمته : ( مصاري ما بدنا ، بدنا كرامة ) ، ورفع الشبان الأكراد شعارات وعبارات تنادي بالأهداف ذاتها : ( مطلبنا حرية لا جنسية ! ) . فالمطالب جدُّ واضحة والأهداف موحدة لا يختلف عليها اثنان ، ولا ينتطح فيها عنزان كما تقول العرب ، ولا أحد يستطيع أن يتجرأ على التلاعب بها ، وهي تستوعب الشعب السوري كله . وما فتئ كثيرٌ ممن ينظِّر للثورة ، ويحرك فعالياتها وأنشطتها ، يحرص على سلمية الثورة ووطنيتها ، ويحذِّر من مزلقي العنف والطائفية ، وهو ما يحاول النظام استدراج الشعب إليه منذ الأيام الأولى للثورة ، وقد ظهر ذلك جلياً في أحداث حمص خاصة لكن أنَّى له ذلك !.

ثالثاً - قبائح النظام السوري وسوءاته قبل أحداث حماة ليست كاليوم ، ولم يكن بعد ثمة مجازر تذكر ، والفساد الإداري والأخلاقي كان أقل !. أما الأسد الابن ، فقد عم الفساد في عهده وطم ، فضلاً عن أنه ورث عن أبيه كل مفاسد مملكته بالإضافة إلى كلَّ جيناتِه الاستبدادية السادية ، وورث أزلامَه وأقلامَهُ المأجورة وإعلامه الغبي ، وتدمرَ وصيدنايا وفرعَ فلسطينَ ووحوشَه الآدميةْ ، وورثَ عن أبيه حتى نائبَه ، وورث المفتي ( مع تبديل الصورة ) والشيخ البوطي نفسه ببساطته وسذاجته ودروشته ، وورثْ " الشَّعبَ " و" مجلسَ الشعب " ، و" قصرَ الشَّعب " و" حزبَ البعث " الذي ما يزال يعيث في سوريا فساداً وتخريباً واستبداداً ، ويجترَّ شعاراتِهِ المتهرِّئَةِ ؛ وحدةً وحريَّةْ !. كما ورث الحليف التاريخي الإيراني ، وهو حليف طائفي ، وأجندته طائفية ، تتستر بدعم المقاومة الفلسطينية ، ويعتبر في نظر كثير من المراقبين والمتابعين للحالة السورية سبباً رئيساً لنقمة الكثير من السوريين ، وباختصار فإن الأسد الابن وقع ضحية نظام متهالك وورث عن أبيه تركة ثقيلة لا يُحسد عليها !. وهنا أقول : أنه لا يمكن الفصل بين ضحايا الشعب السوري اليوم وضحايا حماة ، في ذاكرة السوريين التاريخية ، وفي ضمير الشعب ، ولا بين ( 2011م ) و ( 1982م ) ، ولا يقبل بحال القول بأن الابن مختلف عن أبيه ، وألا تزر وازرةٌ وزرَ أخرى ، وقد أثبتت الأحداث الدامية الأخيرة أنه صنو أبيه في سفك الدم الحرام وأنه ( عنيدٌ كأبيه ) كما يقول الصحفي البريطاني باتريك سيل ، صاحب كتاب ( الأسد - الصراع على الشرق الأوسط)!. لكن ثمة فرق ليس في مصلحة الابن ، وهو أن الرئيس حافظ الأسد كان له شخصية قوية ، وكان يقبض على كل مفاصل الدولة ويمسك بزمام الأمور بقبضة حديدية !. أما بشار اليوم فإنه يبدو أنه لا يقبض على السلطة كما يجب ، وقد بدأ جيشه بالتفكك ، والانشقاقات في أوساطه تتصاعد!.

رابعاً - أيضاً شهد عهد بشار انحسار المد القومي ، فقد كان الأسد الأب يقدم نفسه على أنه زعيم القومية العربية وبطل حرب تشرين التحريرية ، وأن دمشق قلب العروبة النابض ، وأن سورية الأسد قلعة الصمود والتصدي وكعبة الأحرار العرب في زمن التخاذل العربي ، وخندق المواجهة الذي يدافع عن شرف الأمة العربية وعزتها وكرامتها وكبريائها ، ويقود النضال العربي التحرري، ضدّ الإمبريالية والصهيونية ومحاولات الهيمنة على الأمة العربية والتصدي لاتفاقيات كامب ديفيد الخيانية، ….إلى آخر هذا الموال !. لكن هذا السحر الآن بطل ، وانقلب السحر على الساحر كما يقال ، نعم عزف بشار كثيراً على وتر القضية الفلسطينية مثلما كان يفعلُ أبوه تماماً ، وظلت دعاية الصمود والتصدي والممانعة والمقاومة على الطريقةِ الأسديَّةْ التي لم تعدْ تنطلي على أحد ، ولم تعد تُجْدِ ، فالشعب في جوع وتوق شديدين إلى الكرامة والحرية ، وهو يهتف : ( الله ، سوريا ، وحرية وبس ) بدلاً من : ( الله ، سوريا ، وبشار ، وبس ) ، فقد انتهى عهد اختصار البلاد والعباد في شخص واحد إلى غير رجعة !. ومن الشعارات والهتافات التي لم أملك نفسي ودموعي - والله – وأنا أسمعها هتافات دوَّت في فضاء مدينة جاسم : (ما بدنا مصاري !.. بدنا كرامة !!!!!) ، فهل يفقه النظام معناها ؟. وهل يفهم أن الحرية والكرامة لا تُباع !؟.

خامساً - ومن الفروق الجوهرية بين الثورتين أيضاً سطوة الإعلام اليوم ، فنحن نعيش في عالم مفتوح ، وفي قرية صغيرة كما يقال . أيام الثمانينات أبيدت مدينة حماة بأسرها وكنا في دمشق ولم نكن نخبر إلا بالنذر القليل مما يجري من تلك الأهوال التي يشيب لها الولدان ( دامت المجزرة 27 يوماً بدءاً من 2 شباط/فبراير 1982 م ، وقامت قوات النظام بتطويق مدينة حماة وقصفها بالمدفعية ومن ثم اجتياحها عسكرياً وحرقها وهدمها, وارتكاب إبادة جماعية سقط ضحيتها ما بين 30 ألف إلى 40 ألف قتيل ، وهدمت أحياء بكاملها على رؤوس أصحابها كما هدم 88 مسجداً وثلاث كنائس ) . هذا وقع في حماة 1982 ، ولم يخبر أحدٌ بما جرى ، أما اليوم فقد اختلفت الظروف كل الاختلاف ، والدليل أن النظام الآن يحاول التكتم والتعتيم والتشويش والتشويه ، ويضرب حصاراً خانقاً على ما يجري ، ويمنع وسائل الإعلام من تغطية الأحداث ، لتفادي الاحتجاجات الشعبية والإدانة الخارجية لكن عبثاً تذهب جهوده ، فالصور والمشاهد والأخبار تعرض على مواقع النت ، وتنقلها القنوات ، وتتبادلها الجوالات ، وتصل إلى جمهور الناس في ساعة حدوثها ، بشكل مباشر أحياناً أو غير مباشر ، وقد حققت شبكة شام الإخبارية نجاحاً رائعاً في تغطية الأحداث ومواكبتها في وقت حدوثها وكما وقعت بحرفية ودقة متناهية كما لعبت الجزيرة خاصة دوراً كبيراً في نجاح الثورة السورية واستمرارها . 

سادساً - ولا يمكنني أن أنهي هذه المقارنة دون الإشارة إلى سطوة وهيمنة النظام الدولي الجديد ، فالدولة اليوم لا يمكنها أن تقتل الناس ، وتستبيح دماءهم ، وتظن أن العالم من حولها سيظل ساكتاً أو مراقباً ، بدعوى عدم  التدخل في شؤونها الداخلية ، ولا يمكن للنائب السوري " خالد عبود " أحد أبواق النظام ، أن يتبجح ، ويقول : ( أنها بلدنا ونحن أحرار فيها ! ) ، وأمامه النموذج الليبي للتدخل الدولي ، لحماية المدنيين من بطش القذافي ونظامه الوحشي ، وإن كنا لا نتمنى لبلدنا مثل هذا السيناريو ولا نريده ، لكن النظام على ما يبدو يحاول أن يستنسخه ويدفع إليه ويضغط على السوريين حتى سموا إحدى جمعهم بجمعة " الحماية الدولية " !.    

سابعاً وأخيراً : من أهم الفروق والاختلافات أن ثورة الإخوان المسلمين كانت ثورة مسلحة منذ بداياتها ، مما أعطى الدولة مبررات القمع الوحشي لها إلى حد الإبادة ، تحت ذريعة أنها عصابة مسلحة ومؤامرة خارجية ومن حق الدولة حماية نفسها بل من واجبها حماية المجتمع والدفاع عنه ضد هؤلاء المخربين المجرمين !. وكون الثورة مسلحة وأنها اتخذت الصراع المسلح أسلوباً لها أعطى النظام القمعي غطاءً شرعياً داخلياً وخارجياً لإبادة الثورة . كما قدَّمتْ لها بالمجان مادة إعلامية دسمة لتشويه سمعة الثورة وأهلها وتقبيح صورتهم أمام المجتمع والعالم ، وكثيراً ما كان النظام يقوم بقتل شخصيات وطنية ودينية مهمة ومحترمة وعمل مجازر وتفجيرات ، مثل مجزرة الأزبكية في قلب العاصمة دمشق التي راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى ،  وتدمير منشآت ومؤسسات للدولة ثم يقوم بإلصاقها بالإخوان من خلال فبركات وألاعيب إعلامية كانت تنطلي على الناس في تلك الحقبة لكن الناس اليوم تغيروا تماماً ، ولا تنطلي عليهم ألاعيب النظام ، كما أن الثورة حرصت على أن تكون سلمية منذ بدأت وألا تُجَرَّ أو تستدرج إلى هذا المنزلق الخطير رغم المحاولات اليائسة المفضوحة التي يقوم بها النظام ، لافتعال صدام بينها وبين الجيش ، والنتيجة اليوم أن الثورة هي التي ظهرت للعالم بأنها تمثل الشعب وتحوز على الشرعية بينما النظام هو العصابة التي تقتل وتحرق وتخرب وتجند العصابات المسلحة والشبيحة والبلطجية لقتل الشعب وترويعه ، وقد خسر النظام بذلك إعلامياً ودبلوماسياً وأخلاقياً .

هذه بعض الفروق الجوهرية بين الثورة الشعبية السورية اليوم ( ثورة 15 آذار ) التي دخلت شهرها السابع ، وبين ثورة الإخوان المسلمين ( حماة ) في أوائل الثمانينات من القرن الماضي ، وهذه الفروق - كما قدمت - لها علاقة بالنتائج والآثار ، والمطلوب ألا نكرر الأخطاء ذاتها ، ونتفادى النتائج المروعة التي انتهت إليها ثورة حماة ، فالثورة اليوم ليست ثورة درعا ولا بانياس بل ثورة سوريا كلها !. والثورة اليوم ليست ثورة السنة ضد العلويين بل ثورة السنة والعلويين والنصارى والدروز وسواهم من مكونات النسيج الاجتماعي ضد هذه الطغمة الفاسدة .

أما الوجه الأخير من المقارنة ، والذي سأختم به ، هو أن الثورة الأولى قد أخفقت وخمدت ، وخلفت وراءها آلاف الشهداء والمعتقلين والمهجرين والملاحقين وأنها أقامت جداراً ضخماً من الخوف والوهم إلى حد المرض النفسي المزمن ، الذي حال بين السوريين وتحقيق مطالبهم لكن الثورة الآن كسرت حاجز الخوف بل نقلت الخوف إلى الجانب الآخر ، وأطلقت المارد من القمقم كما يقولون ، وكل الدلائل الآن تؤكد أن قذافي سورية لن يصمد طويلاً !.