جوهرة الإعجاز المكاني بمكة المكرمة

د. محمد رفعت زنجير

وخصائص البلد الأمين

معجزة المكان مكملة لمعجزة الزمان والرسالة والرسول  صلى الله عليه وسلم

د. محمد رفعت زنجير

[email protected]

تمهيد

اختار الله تعالى لنبيه محمد  صلى الله عليه وسلم  خير الأزمنة، يؤكد ذلك قوله   صلى الله عليه وسلم  (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم...)[1]، واختار له أفضل الأمكنة قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (سورة آل عمران: الآيتان96-97)، وأنزل على نبيه محمد  صلى الله عليه وسلم  أحسن كتبه، قال تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (سورة الزمر: الآية23)، وبعثه  صلى الله عليه وسلم  في خير أمم الأرض، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (سورة آل عمران: الآية110)، فاجتمعت لدعوته كل خصائص الكمال والجمال، والتميز والإحسان في صورة مشرقة لم يعرف لها التاريخ نداً.

ولما كانت مكة أم القرى، فقد اختار الله لها موقعاً مميزاً، فجعلها في قلب الجزيرة[2]، بعيدة عن جيوش الروم والفرس، حتى تبقى آمنة من الغزو والسلب، فلما أراد طاغية من الحبشة أن يهدم كعبتها، ولم يكن لأهلها طاقة في دفعه تدخلت السماء للذود عنها، وقد تعهد الله بحمايتها بنفسه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج:25).

وقد سماها الله بأسماء كثيرة، فهي مكة وبكة والبلد الحرام والبلد الأمين وأم القرى، ولكل من هذه الأسماء دلالته، والواجب على زائرها أن يحترم قدسيتها ولا يفرط بأمنها، ولا يعضد شجرها، ولا يقتل صيدها، فكل ما في الحرم فهو آمن.

ولموقعها الذي اختاره الله تعالى خصائص متعددة، منها الآتي:

أولاً: وجودها بين الجبال جعلها في مأمن من الزلازل ونحوها، لأن الجبال أوتاد الأرض، وجعلها مهيبة تتناسب وجلال النبوة والوحي، وحماها من الرمال الجارفة التي قد تطمرها في ما لو كانت مكشوفة في الصحراء، فتمحى آثارها، ولا يعرف الناس سبيلاً إليها.

ثانياً: إن مكة قريبة من البحر، فلا تبعد عن جدة أكثر من ثمانين كيلو متراً، وهذا يسهل الوصول إليها عبر البر والبحر، قال تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (المائدة:96). ولو كانت مكة في أي موقع آخر بعيد عن البحر لتعذر الوصول إليها إلا عن طريق الإبل، وهذا فيه مشقة على الناس وتعريضهم للخطر نظراً لندرة المياه في الج

زيرة، وعدم توفر أسباب الأمن فيها قبل الإسلام.

ثالثاً: موقعها المتميز في منتصف الطريق بين الشام واليمن أتاح لها لعب دور اقتصادي وتجاري بين الشعوب، فأدت خدمة للإنسانية عبر تجسير العلاقات الاقتصادية والتجارية بين اليمن الذي تصب فيه البضائع الإفريقية والآسيوية وبين الشام المحكومة من قبل الروم، كما كانت جسرا بين نجد وشرق الجزيرة من جهة وإفريقيا من جهة ثانية.

رابعاً: بسبب موقعها الاستراتيجي كان هنالك استقرار اجتماعي وديني وسياسي واقتصادي بمكة، فهيأ الله لسكناها خير قبيلة في الأرض، وقريش منسوبة إما إلى نوع من السمك كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما، أو إلى القرش، فقد ربحوا وكدسوا الأموال من تجارتهم، وأيا كانت النسبة فهي تدل على الثروة السمكية الغذائية، أو على الثروة المعدنية المتداولة في الأسواق، وفي الحالتين كان هنالك استقرار اقتصادي، هيأهم لاستقبال الإسلام، فلا يمكن لجائع أن يستقبل رسالة أو يقوم بدين، لأن الجوع كافر، وفي وصايا عمر لعماله (حكام الأقاليم) قال لهم: (ولا تجيعوهم  يقصد الرعية   فتكفروهم). وأما كون قريش خير قبيلة في الأرض، ففي الحديث النبوي ما يؤكد ذلك، فعن عمرو بن دِينار عن عبدِالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: "بينما نحنُ جلوسٌ بفِناء رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ مرَّتِ امرأةٌ فقال رجلٌ مِن القوم: هذه ابنةُ محمد، فقال أبو سفيان: إنَّ مَثَل محمد في بني هاشم مَثَلُ الرَّيحانة في وسط النَّتَن، فانطلقتِ المرأةُ فأخبرتِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فخرَج النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُعرَف الغضبُ في وجْهِه، فقال: ((ما بالُ أقوال تَبلغُني عن أقوامٍ! إنَّ الله - تبارك وتعالى - خَلَق السمواتِ فاختار العُليا فأسكنها مَن شاء مِن خَلْقه، ثم خَلَق الخَلْق فاختار مِن الخلْق بني آدم، واختار مِن بني آدم العَرَبَ، واختار مِن العرب مُضرَ، واختار مِن مُضر قريشًا، واختار مِن قريش بني هاشم، فأنا مِن بني هاشم مِن خيارٍ إلى خيارٍ، فمَن أحبَّ العربَ فبحُبِّي أحبَّهم، ومَن أبغض العربَ فببُغْضني أبغضَهم))؛ رواه الحاكم في المستدرك. [3]

وبعد الإسلام معلوم فضلهم، وأما في الجاهلية فكانت حكومتهم قائمة على الشورى في دار الندوة، وكان لديهم حلف الفضول لنصرة المظلوم، وسُموا جيران الله لجوارهم بيته، وكانوا يخدمون الحجيج مجاناً، وتمتعوا بالفصاحة والبلاغة ومكارم الأخلاق، ولو أقمنا موازنة بين قريش وأية قبيلة أخرى في العالم قبل الإسلام سنجد أن قريشاً تتميز عليها، وصدق الله العظيم إذ يقول: (لإيلاف قريش)!

وما أحسن ما قيل في هذا الصدد:

(ذهبت قريش بالمكارم والعلا)

من كان منتسبا لها حقا علا

ما في القبائل مثلها لا.. ألف لا

أكرم بها .. قُمْ حَيها بين الملا

يا بلدةً قد شع فيها وانجلى

نور النبي محمدٍ بين الألى

لولا قريش كنتِ قفراً كالفلا

لكنْ ترابك من غلاهم قد غلا

إني لأعشق مكة ذات الحَلا

فترابها لحلينا أحلى حِلى

وأموت حباً في قريش والولا

وأقول أهلاً ثم أهلاً .. يا هلا

أكرم بمكة للعقيدة موئلا

فيها قريش ليس يبليها البلى

وأصالة القرشي ليستْ تُبتلى

هيهات أن تفنى وأن تتبدلا

كالسيف منجردا وليس مُهلهلا

كالليث يحيا للعدا لا للكلا

خامساً : جو مكة حار في نصف العام ومعتدل في نصفه الآخر، وهذا الجو يتناسب مع ملابس الإحرام، ولو كانت بلداً بارداً لتعذر ذلك، وملابس الإحرام تجسد خلاصة العبودية لله، والانعتاق من الدنيا وزخرفها، والتهيؤ للآخرة بلبس الأكفان، قال الشاعر:

لما لبستُ من الإحرام أبيضها

ثوبا تذكرت أكفاني وآخرتي

فبيضنْ يا إله الكون أوجهنا

إذا الطغاة إلى النيران كُبكبتِ

وسهلنْ لجنان الخلد رحلتنا

واختم لنا ربنا بحسن خاتمة

وأعل للدين يا رباه رايته

واقصم عدا أمتي بشر قاصمة

واحفظ لنا ربنا أم القرى أبداً

من شرِّ حاسدها وشر طاغية

سادساً: جعلها الله في واد غير ذي زرع، حتى يقصدها الحاج مخلصاً لله تعالى، ولو كانت ذات حدائق لاختلط القصد عند بعضهم بالسياحة، وقد أراد الله من الحاج أن يتجرد له، فأمره بخلع ملابسه ولبس الإحرام، وحرمه من أطيب اللذات، وهما: الطيب والنساء، فكيف يريده متجرداً له، ثم يقيم له الحدائق الغناء، والأنهار العذبة، والطبيعة الفاتنة التي ستلهيه عن ذكر الله، ولذلك ساعد الله عباده بأن جعلها بواد غير ذي زرع لكي لا يشغل أنظارهم وأفئدتهم سحر الطبيعة الغناء، فيكون القصد خالصاً لوجهه الكريم.

والإخلاص لله تعالى مطلوب في كل الأعمال والأحوال، ومن ذلك في شعيرة الحج، ولا بد أن يصحب الإخلاصَ صوابُ العمل، ومن صوابه في رحلة الحج أن يكون الحج من مالٍ حلالٍ، وقد جسد هذا المعنى أبو الشمقمق فقال: [4]

    إذا حججتَ بمالٍ أصله دنسٌ

                            فما حججتَ ولكنْ حجت العيرُ

ما يقبل اللهُ إلا كلَّ طيبةٍ

                            ما كل من حجَّ بيت الله مبرور

سابعاً: ومكة بعيدة عن مراكز الحضارة في بلاد فارس والروم، وأهلها أميون، وكان بعض العرب يدفعون الضرائب للأمم الأخرى اتقاء لشرها، فكيف يعقل أن تخرج شريعة ذات قوانين تعلم الناس قواعد الحضارة والتعايش السلمي من قلب الصحراء؟ إنها النبوة ولا احتمال غير هذا، وخروج الشيء من غير موضعه المعتاد أظهر لقدرة الله تعالى، ودليل على أن معجزة ما قد حصلت، وقد أقر بهذا هرقل عظيم الروم في حديثه مع أبي سفيان، وذكر بأن محمداً هو نبي آخر الزمان، وهذا من فضل الله على أهلها والعرب، قال تعالى يتحدث عن النقلة النوعية للعرب بفضل الإسلام: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة:2).

ثامناً: وإذا كانت مكة في بلد غير ذي زرع، فهذا قد يقتضي جوع أهلها، ولكن أنى يجوعوا وقد دعا لهم إبراهيم عليه السلام بالرزق، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (البقرة:126)، وهذا الدعاء معجزة باقية متحققة إلى يوم القيامة، والبلد الفقير لا تكاد تجد فيه ما يسد الرمق، ولكن الله هيأ لأهلها أسباب الرزق والتجارة، فلا تعدم شيئاً إلا وجدته بمكة، أليس هذا دليلا على فضل الله ورعايته لأهلها؟

تاسعاً: وأما ماء زمزم فهو الشفاء لكل داء بإذن الله تعالى، وهو أمر مجرب، قال الشاعر:

يا منْ يعاني ... همه الأسقامُ       

وتذيقه مرَّ الأسى الأيامُ

اهرعْ  لزمزم فارتشفْ من بيرها

تلقى المنى .. وكأنكَ الضرغامُ

والله قدْ جعلَ الشفاءَ بمائِها  

فتحققتْ من فضلهِ الأحلامُ

وبقاؤه حتى يومنا هذا دليل على الكرم الإلهي الذي لا ينفد، ويندر أن تجد بئراً في الصحراء لا تنضب عبر آلاف السنين مع شرب الألوف منها.

عاشراً: وأثبت العلم الحديث أن مكة مركز للأرض، ولما كانت مركزاً استحقت أن تكون قبلة لأهلها أيضاً، وقد نشرت مجلة العلم والإيمان الليبية مقالات عدة بهذا الخصوص[5].

فطوبى لأمة هذه بعض مزايا قبلتها، وطوبى لمن سكن بلدة هذه بعض خصائصها، وطوبى لمن زارها  حاجاً أو معتمراً يطلب عفو الله وغفرانه إلى يوم الدين.

والخلاصة أن مكة المكرمة خصها الله تعالى بخصائص عدة، وموقع جغرافي مميز، فمن ذلك وجودها بين الجبال جعلها في مأمن من الزلازل ونحوها، وكون مكة قريبة من البحر، فلا تبعد عن جدة أكثر من ثمانين كيلو متراً، وهذا يسهل الوصول إليها عبر البر والبحر، وهي مدينة أدت خدمة للإنسانية في ربطها للأنشطة الاقتصادية بين الشام واليمن بسبب توسط موقعها، وقد استوطنتها خير القبائل قريش، ومناخ مكة حار في نصف العام ومعتدل في نصفه الآخر، وهذا الجو يتناسب مع ملابس الإحرام، وجعلها الله في واد غير ذي زرع، حتى يقصدها الحاج مخلصاً لله تعالى، ومكة بعيدة عن مراكز الحضارة في بلاد فارس والروم، وأهلها أميون، فكيف يعقل أن تخرج شريعة ذات قوانين تعلم الناس قواعد الحضارة والتعايش السلمي من قلب الصحراء؟ إنها النبوة ولا احتمال غير هذا، وإذا كانت مكة في بلد غير ذي زرع، فهذا قد يقتضي جوع أهلها، ولكن أنى يجوعوا وقد دعا لهم إبراهيم عليه السلام بالرزق، وأما ماء زمزم فهو الشفاء لكل داء بإذن الله تعالى، وهو أمر مجرب، وأخيراً فقد أثبت العلم الحديث أن مكة مركز للأرض، ولما كانت مركزاً استحقت أن تكون قبلة لأهلها أيضاً، وهذا من فضل الله على العالمين.

               

[1] - من حديث رواه الشيخان وأحمد والترمذي عن ابن مسعود، انظر: الجامع الصغير، (3/478).

[2] - هذا المبحث في الأصل مقالة بعنوان: من خصائص البلد الأمين، نشرتها في مجلة منار الإسلام، عدد ذي الحجة(348)، 1424ه.

[4] - المستطرف، للأبشيهي، (1/21)، مكتبة الحياة.

[5] -انظر أيضاً: قضية الإعجاز العلمي للقرآن الكريم وضوابط التعامل معها، د. زغلول النجار، ص (180)، دار نهضة مصر، ط2، 2006م.