وسقطت الثمار مختارة

مهمة الموت انتحارا

عزة مختار

[email protected]

وتباعدت بنا الأيام كثيرا عن كل ما رجوناه يوما ، خيالات الطفولة  وأحلام " حين نكبر " ، أحلام الصبا وكيف أن الغد يشمل تحقيق كل الأمنيات مقدمة بين يدي ، الممكن والمتاح والمباح ، محمولة إلينا علي أجنحة السعادة ، ثم يأتي الشباب لتبدأ معه كل المحاولات حثيثة نحو كل الأهداف ، السباحة ضد كل التيارات ، والحفر في الصخر ، والجري ضد الريح العاصف ، فيمضي كل ما سبق دون أن تدري أي المعوقات كان السبب في قتل حلمك ، يضعف القلب ، ويغزو الشيب المفارق ، وتخفت أضواء الأمنيات كلها ، لتصير كل أمنيتك أن تعبر متاهات المستحيل حتى ولو بالموت ، فيصير الموت أمنية .

ألهث وأمسك بقلبي أعتصره ليكف عن ضرباته المتلاحقة والمؤلمة في بعض الوقت ، ولا يوقفني ذلك عن إطلاق الضحكات البريئة الصاخبة ،، أرتمي علي الأرض من شدة الإعياء من سرعة الجري وطول المسافة والضحك المتواصل ، كلهم من حولي في مثل حالتي ، أولاد وبنات ، نتسابق علي أعلي كوبري بالمنطقة ،كنت قليلا ما أسبق أحدا ، لكنني لم أغضب يوما ، ولم تتوقف ضحكاتي .

في المدرسة كانت الأساطير تستهويني ، قضيت فيها الليالي رعبا ،  أخبئ رأسي في صدر جدتي ، وأغمض عيني خوفا مما يصوره لي خيالي ، وأنكمش حتى أصير ككرة منسية في ركن من أركان الزمان .

المدرسة موحشة ، صمتها مخيف ، علي كل درجة من درجات سلمها العالي شبح يحاول إغرائي بالاقتراب ، أما أنا فأقاوم ، ليس بصراخ ، فقد حبس صوتي ، وليس بالهروب وقد شلت قدمي  كل مقاومتي كانت تتمثل في إرادة ،  مجرد إرادة وصوت بداخلي يقنعني بأنني الأقوى ، وأن تلك حكايتي ، ولي كامل الحق في أن أكون بطلتها التي لا تهزم ، هم كانوا في عالمي ،  طوع أمري ، يحاولوا تخويفي بإرادتي ، وأنتصر عليهم برغبتي ، كل حكاياتي كنت أنسجها بكامل وعيي ، ولست أدري لم كنت أستدعي كل هذا قبل نومي ، ربما كنت أفعلها لأستدعي النوم ذاته ، ويبدوا أنه تعلم مجافاتي منذ الصغر ، فصار الطريق إلي الراحة يلزمه عبور مفازات الخوف والألم ليلا ، وصارت للحزن لذة ، نسيت بها أن ما أستدعيه مجرد وسيلة لاستجلاب النوم والراحة ، فصار في حد ذاته مطلبا .

يتأجج الصراع بيني وبينهم ، يحاولون جذبي عبر درجات السلم بشكل غريب فلا يقدرون رغم اجتماعهم ، فيتحول الصراع بيننا بين إرادة وإرادة ، بين قوة جسدي الواهن ، وبين قوتهم الغير مرئية ، والغير محدودة ، وحتى أشعر بلذة أكثر ، أنزع عني كل قوة محتملة ، وأضيف إليهم كل قوة متاحة ، يجذبوني وأقاوم

مرة بمساعدة جدتي ، ومرة بإدعاء القوة المطلقة ، أحاول فيها هزيمتهم بالإيحاء بأنني الأقوى ، لكنهم لا ينخدعون ، ثم في النهاية أهزمهم بادعاء الموت ، ينصرفون عني ، فتكون تلك لحظة الراحة الكبرى ، أدعي الموت ، فأترك نفسي له أستسلم تماما ، ولا أظهر أي حركة ولا يصدر مني صوت ينبئ عن كوني بين الأحياء ، ثم أتحسس جدتي لأطمئن أنها هي أيضا في سبات حتى لا تؤذيها الأشباح ، وحين أجد منها حركة أقنع نفسي بأنهم لا يستهدفون الكبار ، فيحتويني السبات وأستسلم له وتشملني الراحة بعد أن انتصرت توا بادعاء الموت .

                   ...................................................

حين تكبر أحلامك عن أيامك فسوف تأخذك راغمة إلي حيث المستقبل قبل الأوان ، تكون هنا فقط جسد ، مجرد جسد  محبوس في الزمن لو استطعت العبور به لفعلت ، يمر اليوم وعيناك هناك ، وقلبك هناك ، وروحك هناك ، يكبر فيك الوطن ، وتكبر فيك الأشياء ، وتحملك الأيام إلي حيث الغد الذي لا يأتي أبدا

غدا سوف يكون لي شأن أحقق فيه ما أشاء

غدا سوف ألهم الأيام كيف  تفكر من جديد تجاه هذا الوطن المكروب بأبنائه

غدا سوف أنتصر بغير الموت هروبا

غدا سوف تصير بلادي ملاذا للأحرار

غدا سوف يصير لدي أمنيات محققة ، وأحلاما أرويها لأبنائي وأبنائهم عن كيف صارت حقيقة في أروقة بلادي

غدا تشرق شمس جديدة لا تحمل معها ظلما أو قهرا أو حرمانا

تمر الأيام وكل يوم يحمل معه شمس لا تدفئ أحلاما فتنمو وتكبر بشكل طبيعي ، وإنما تحمل نارا تحرق فنتخلي عنها مرغمين ، وفي بعض الأحيان راضين مستسلمين

الأشباح لم تعد تكتفي بالانتظار علي سلم المدرسة ليلا ، إنما انتشرت في كل أرجاء بلادي

كنت ألوذ منها في صدر جدتي وأغطية سريري ، الآن صارت تطاردني حتى بداخلي ، الأشباح لم يعد يجدي معها ادعاء الموت ,

صعدت درجات كثيرة ، غادرت المدرسة بسذاجتها ، وصعدت درجات الجامعة ثم درجات أكثر في رحلة البحث عن تحقيق حلم ، أي حلم

يطويني الليل ، أصوات أبواق السيارات توقظ النوم في عيني وتسلب الراحة من قلبي

ترسم ظلالا مختلفة بأضوائها الخافتة أو الصارخة ، تسبح عيني معها علي الجدران أينما سارت

تأتي مسرعة وترحل مسرعة لتبدأ من جديد مع ضوء سيارة أخري ، ترسم ظلالا كالعمر الذي بدأ ، ويبدو أنه قرر الرحيل .

ظل قصير ، صغير ، بطئ ، يبدوا أنه لسيارة متهالكة تصارع الأحداث كي تصل لمبتغاها  ، سار قلبي معه ، حملني إليه ، صعدت روحي برفق قبل جسدي ، وكانت قد اعتادت أن تفارقني ثم تعود ،  لكن جسدي الآن أبي إلا أن يصحبها وتسابقا صوب الظل ، شعرت بدوار رهيب ، دوار روح وليس دوار جسد ، كانت الدنيا كلها أرض ثابتة ، أما هذه المرة ، فلم يكن هناك شئ ثابت ، الكون كله يدور ، تهاوت روحي في مكان وجسدي في مكان آخر ، وظل الزمن يتأرجح بي محاولا جمع شملهما معا ، وعيني رغم كل ذلك لم تفارق ذلك الظل الراحل ,

كنت في الصف الأول الابتدائي حين تهاوت مئذنة الحي ، لم أر المشهد نفسي ، وإنما رأيت آثاره ، واستمعت لوصف من شاهدوه عينا ، فكأنني رأيته ، كنت أصغي لكل كلمة وأضيف عليها مشاعري فصرت وكأنني شاهدة عيان

شعرت بدوار بينما تتهاوي ، شعرت  وكأن الأرض تغيض بي ، تحسست موضع قدمي فلم أجده ، رأيتني معهم ، وكأن الحطام كله فوق رأسي ، شعرت بحرقة التراب في حلقي ، والاختناق يجتاح صدري ، والرعب كالثمالة يسري في جسدي بدءا من قدمي لأجدني أعلو وكأن الرياح تحملني

رأيتهم بجواري أجساد ملقاة تحت الركام ، كل منهم ينظر صوب هدف واحد ، هو ذات الهدف لنا جميعا ، نظرت معهم ، ويا لروعة ما رأيت ، إنه طريق ممهد من السحب البيضاء التي يتخللها ضباب أبيض ، سمعت من بينه نداء الله " يا أيتها النفس المطمئنة  " شعرت ببرودة تسري في جسدي ، شعرت بملمس السحاب علي وجهي ، اشتقت  لجدتي ، هي أماني ، وجوابي علي كل سؤال أكبر من قدرتي علي الفهم  ، وهي حكاياتي  كلها التي عرفتها وكنت وأسمعها منها كل ليلة ، حين رحلت عن العالم ، لم ترحل عني ، كانت معي  دوما ، كانت تناديني فأستجيب وأسرع إليها فتدفعني بعيدا ، وتهمس لي ، يكفي أن رأيتك ، رأيتها يوما علي مائدة ترتدي ثيابا بيضاء وكأنها في عرس ، كانت فرحة كما لم أرها من قبل ، تحتفل بعرس أحد أحفادها لعروس كنت أعرف مسبقا أنها رحلت ، شهدت معهم الحفل ثم دفعتني لأمضي بعيدا ، وفوجئت بعدها برحيل ذلك الحفيد ، قضيت في صدرها تقلبات الطفولة كلها ، حين كنت أصارع أشباح مدرستي حتى أستطيع النوم وكأنني أدمنت مذاق الموت وسكينته ، سكينة وطمأنينة غريبة سرت بداخلي مع ملمس البرد القادم ، سمعت صوت الجنة ، رأيتني علي أبوابها ، عالم أهواه ، سكون طالما رحلت إليه بقلبي ليحميني من صخب الأحلام والعجز

 رأيت ابتسامات القابعين تحت تراب الدنيا بجواري تشجعني علي المسير أكثر واكتشاف عالمي الجديد أكثر

 هذه المرة  رحلت بروحي وجسدي معا ، تدور الأشياء بينما أنا في السماء ثابتة رغم الحركة الصعودية ، يا الله ، كنت حين أسمع صوت المنادي في المسجد يعلن موت أحد محددا موعد الجنازة ومكانها يكتنفني الحزن ، ليس حزنا علي الميت وإنما كنت أحسب أن من يناديه الموت يكون بالمسجد ، وكنت أحسب أن الله عز وجل يتنزل من السماوات ليقبض روحه فيموت ، قلت لجدتي يوما أتمني أن أبيت في المسجد ، قالت ولم ؟ قلت لأري الله وهو يميت الميت ضحكت من قولي ولم تجبني ، ولست أدري لم لم تصحح لي ، ربما رأت عندي اشتياقا لرؤية الله عز وجل فلم تشأ أن تميت أمنيتي ،

وظلت نفس الأمنية تراودني في كل مرة أمر فيها بالمسجد ، وأتعمد النظر بداخله علني أجد أحدا منتظرا لله يميته ، كثيرا ما تقت لذلك إلا في وقت واحد ، هو وقت البحر ، حين يأخذني بسحره وصوته وأمواجه ورماله ، فما كنت أحب أن يأخذني من البحر شيء ، كنت أكره كل ما يأخذني منه أو يقتطع من وقته المقدس في رحلتي المنتظمة إليه

وقتها كنت أقول لو جاءني الموت لن أموت ، لن يهزمني الموت ، ولن أسلم له نفسي ، وسأبقي مع البحر حتى يلفنا الأبد في بقائه   

والآن ، ما أطيبه ، رائع هو الموت ، ما أروع  طريق الجنة عبر تلك السحب البيضاء والبرودة الدافئة .

ببن أصحابي علي سلم المدرسة الأمامي كنت أروي لهم حكايتي ورحلتي الاستكشافية في عالم البقاء الرحب

قلت لهم إن المئذنة كانت عالية جدلا ، أعلي من أي مئذنة تعرفونها ، وقد رأيت يد الله تطيح بها لتهوي وتبتلعها الأرض كأن لم تكن من قبل .

قلت لهم لقد حملت المئذنة علي رأسي حين ابتلعتني الأرض معها ، ومن بين الركام صعدت إلي السماء  مع الراحلين ، وقد أعادني الله لأحكي لكم عن روعة ما رأيت ، كانوا يحيطون بي في سكون الطفولة الشغوفة للمجهول حين تسمعه تحت شمس الشتاء الدافئة ، بعضهم كان فاغر فاه يشجعني بنظرة التصديق كي أروي المزيد ، وأن أطلق لخيالي العنان

                      ::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::

تواري الظل الشاحب البطئ بعيدا ليوقظني من حلم آخر ، حلم الطفولة الراحلة ، ليصير العمر كله أحلام راحلة .

لأعود إلي بلادي التي ملكتها الأشباح ، كيف هو الهروب منها ، أني لي بجدتي تحميني بحضنها الدافئ ،  أشباح بلادي ما عاد يغريها سلم المدرسة ، وإنما ملكت  وتحكمت

سرقت منا النوم الذي كنا نستدعيه حين نريد

سرقت منا العمر وأحلامه كلها

أصبحنا والخوف شركاء وطن يئن

وطن يفتقد للجدة وبراءة الطفولة

ماتت الأحلام فماذا تبقي منا ؟ وماذا تبقي لنا ؟

كثرت سلالم البحث ، ولم يعد هناك غيرها لنصعده

سلم واحد هو المتوفر الآن

أراه من بعيد ولا أري سواه

صوت جدتي لأول مرة يجذبني ولا ينهرني لأبتعد

حضنها يتسع لي من بين الركام

ابتسامتها الخجولة تنير درب الرحيل

تجذبني وأشعر بدفئها وأمان صدرها  

أشباح الوطن تطاردني ولن يحمين منها سوي جدتي

تناديني وأسمعها بوضوح

قادمة أنا يا غالية

سلم يحملني للسماء

واجهة كبيرة تحمل شعار موت الوطن

أقصد يحيا الوطن

هي مبتغاي للخلوص من تلك الأشباح التي طالما طاردتني

حضن الوطن يبرد ويخيف

حضن الوطن امتلكته الأشباح

هو حضن جدتي ليس لي سواه

قادمة أنا إليك

وداعا يا وطن الأشباح