أم لكنها داعية

جمال خلف

- من قال أن زمن القدوة قد ولى واندثر؟ . فلا تخلو الحياة من صور هي شواخص ترشد وتهدي ،  وفي زمن العولمة و في بلدان تدين بتطبيقها، تورق شجرة الإسلام جناً، وبعيداً عن التنظير ومن الواقع المعاش، أهدي لكل أب وكل أم حصراً، صيد دعوي طارده سمعي الشغوف بالبحث عن الأنموذج ،  وحملته الذاكرة، وولدته العجلة، فأحياناً لا أمتلك الصبر على نفيسة دعوية ريثما يهدأ البال ويصلح الحال ، أكتبها بدم الولادة وبلا أي زخرفة، لعلمي كم من أب و أم رفعا أيادي الاستسلام، اعترافاً بالعجز، في زمن النت والهواتف الذكية .،و.....،  يقولون فقدنا السيطرة وإمكاناتنا لا تف بتربية الأولاد، أما هنا في الغرب فالمصيبة أعظم .

في جلسة أخوية دعوية ضمت لفيفاً من الدعاة، رغب كبير الدعاة باسترجاع الخطوات الأولى، لا أدري هل كان قصده التذكير أم مراجعة البدء والعودة إليه ؟  فهو طبيب يعمل بسجيته الطبية التي تشخص قبل أن تعالج ، الجلسة كانت لكبار الدعاة، ومن مهامها مناقشة الصعوبات الدعوية، ، فعجبت في نفسي لطلبه أن يتحدث كل داعية عن طريقة التزامه، بعض منا اشتعل الشيب في سواد شعره، وبعض ما عاد يتذكر إلا نتف فالمهام أكبر من وسع الوقت، والأولويات تجعل الحاضر يأخذ صفة الاستعجال .

كان الجلوس من بقاع متباينة ، من ثم ّأفرغ جميع الحضور كل ما في جعبهم ، بما فيهم العبد الفقير إلى الله كاتب هذه السطور، إلا شاباً مغربي الأصل فرنسي الجنسية،  كنت جالساً  إلى جواره تحدث بما أظنه فتحاً دعوياً، لقد أجاب عن عويص المشاكل التي تواجه كل أب وأم على الأخص في الغرب  ومنها :

التعامل مع الأولاد وتنشئتهم تنشئة إسلامية .

وأنجع الطرق في التفاهم مع المراهقين .

 وحتى لا يكون الكلام تنظيراً فحسب، طلبت إليه في جلسة خاصة من بعد، أن يوضح لي كيف حدث ذلك ، وإليكم القصة كما أعدت تنسيقها :

بداية أعرف والده وهو رجل مغربي أحسبه على خلق ودين والله حسيبه، بيد أن استشفاف القصة، جعلني أردد مع حافظ إبراهيم قوله :

من لي بتربية النساء  فإنها    =    في الشرق علة ذلك الإخفاق

الأم مدرسة إذا أعددتها      =   أعددت شعباً طيب الأعراق .

 الأخت الداعية الفاضلة صباح أم بلال ، أم لأربعة أولاود، محدثي ما قبل أخر العنقود، سمعته مرة خطيباً في مركزنا زائراً فحمدت الله أن مّن على أبناء المسلمين ممن ولدوا وعاشوا وتعلموا في فرنسا مقدرته على التحدث بطلاقة عربية واضحة وجميلة، مع موضوع شد انتباه المصلين مما اضطرني لكيل المدح له بعد خطبته المميزة .

في مدينة وجدة المغربية ولدت ونشأت تلكم الداعية أم بلال، ولمشايخ وجدة مكانة خاصة في قلبي منذ أن حصل لي احتكاك بالمغاربة عموماً، فطالما رأيت في الغرب ثماراً رائعة من غراسهم المباركة .

تزوجت أم بلال ذلكم السيد  الفاسي- نسبة لمدينة فاس - المحب للمساجد، حتى خيل إلي وأنا أزور مسجدهم لأول مرة، أنه أحد أعضاء إدارة المسجد، وتبين لي فيما بعد أنه مجرد متطوع .

قال الشاب :

منذ نعومة أظفاري والوالدة لا تحرص على أن أدي وإخواني الصلوات فحسب، بل وتأخذنا إلى الحلقات المسجدية، فحيث نسكن لا يوجد مسجد ، والمسجد الذي تعرفه أنت حديث البناء، كانت تأخذنا بالسيارة مسافة 18 كيلو متر، لحضور الحلقات المسجدية ونحن أطفال، والغريب أن بين بيتنا والمدرسة مسافة كبيرة نعود بعد انتهاء المدرسة في القطار، وكانت تقرأ جدول الدوام المدرسي، فإذا كان القطار في يوم ما يتأخر ولو ساعة كان تقف بسيارتها لتقلنا إلى البيت، حتى لا نرافق زملاء السوء ، قلت : تلك لفتة تربوية قلما يفطن لها .

وبني المسجد القريب منا، فكانت تقوم بدروس للنساء بعيد صلاة الجمعة .

ويقيم مسلمو فرنسا مؤتمراً سنوياً في بورجيه، يبعد عن سكنهم مسافة السبعمائة كيلو متر، قال: لا أظن عاماً واحداً فاتنا الحضور .

لقد سمعت من أمي عن الالتزام، قصة أثرت في نفسي أيما تأثير، ونحن في المرحلة الاعدادية ذكرت قصة سيدقطب ، وهو يقف أمام زبانية الظلم، وهم يطلبون منه أن يكتب اعتذراً للطاغية، فينظر إلى حبل المشنقة، من ثم يلتفت إلى جلاديه ليقول كلمة حري أن تكتب بماء الذهب:

"" إن السبابة التي تشهد بأن لا إله إلا الله، تأبى أن تكتب كلمة استعطاف لطاغية "" .

هذه القصة كانت تمثل لي نبراساً كلما حدثتني نفسي بسوء، أو أتعب شيطاني نفسه بغوايتي .

وحرصاً منها على تجذير الانتماء في نفوس أولادها، كلما نزل خطب بأهلنا في فلسطين، تصر على أولادها لبس الكوفية الفلسطينية والذهاب بها إلى المدرسة فحسب .

قلت : وهذه ثانية اللفتات التربوية .

وعندما نما في نفسي حب المطالعة، كان تحضر لي  وإخواني كتباً عن الإمام حسن البنا، وكتيبات عن سيد قطب، فلما ذهبت للدراسة الجامعية، أصبح لدي خلفية إسلامية دفعتني للبحث عن المشابهين لي في التوجه، لم أكن أعرف الجماعة من قبل ، وفي الجامعة وجدتني وسط إخوة مشابهين لي فكرياً وعقدياً، وهذا هو دور الوالدة في انخراطي في هذه الدعوة المباركة .

وكان امددها لأبنائها بكتب المطالعة ، دليلاً عن التربية غير المباشرة .

كتبت ما قاله لي أخي أيوب، ولم يكن لي في هذا السرد ، إلا ترتيب الأفكار، واترك الحكم لكل أب وأم خصوصاً الدعاة، وكم من داعية يشار إليه بالبنان وللأسف أولاده لا ينتمون انتماءً حقيقياً للدعوة ، والله المستعان.