النخب العربية والوجع السوري

حسام مقلد *

[email protected]

بصراحة لا أفهم سر حال الالتباس الموجودة عند بعض النخب العربية فيما يتعلق بالوضع في سوريا!! و لا أدري حقيقةً هل هناك حال من الالتباس فعلا عند هؤلاء؟! وهل الوضع غامض ومحير ومربك إلى هذا الحد أم هي لعبة المصالح وسيف المعز وذهبه؟! وإن كنت أعي وأدرك جيدا أننا كلنا بشر غير معصومين ومعرضون للالتباس أو الافتتان والابتلاء في هذه الحياة الدنيا، إلا أنني فعلا لا أفهم كيف تلتبس مشاهد الدماء السورية على أعلام من النخب العربية: مفكرون وكتاب وساسة وفنانون!! أكل هذه الأرواح التي أزهقت ـ أكثر من ألفي شهيد حتى الآن ـ وكل هذه الدماء التي أهريقت، والمجازر التي وقعت، والألوف التي اعتقلت وعُذِّبت ونكُِّل بها ـ أكل هؤلاء مندسون؟! أكل هؤلاء متآمرون على سوريا ومتحالفون مع أمريكا وإسرائيل وضد العرب والعروبة؟! أكل مئات الألوف تلك الغاضبة الثائرة في الشوارع منذ ستة أشهر مغيبة الوعي؟! أيُّ ساحر هذا الذي سحر كل هؤلاء الناس في كل هذه المدن السورية وطوال هذا الوقت؟! وكيف أقنعهم بهتاف واحد: الشعب يريد إسقاط النظام؟! أكل هذه الأعداد من الناس تكره وطنها إلى هذا الحد؟! وكيف فاض بهم الكيل وبلغ بهم الغضب هذا المبلغ الذي جعلهم يقفون: أطفالا وشبابا وشيوخا بصدورهم العارية وأياديهم الفارغة أمام الدبابات والمُجَنْزَرات والعربات المصفحة؟!! أيعقل أن يكون كل هؤلاء البشر في كل هذه المدن واقعين تحت تأثير تنويم مغناطيسي سلب إرادتهم وصهر وجداناتهم وقوَّى عزائمهم  وشحذ هممهم وجعلهم يطالبون جميعا بمطلب واحد هو: الحرية والكرامة؟!

إذا كان المرء لا يقدِر لأي سبب كان ـ سواء الترهيب أو الترغيب ـ على أن ينتقد علانية الجرائم البشعة المروعة التي يرتكبها النظام السوري الفاشي ضد أبناء وطنه الأبرياء العزل فأضعف الإيمان أن ينكر ذلك بقلبه، وليمسك لسانه وليسعه بيته، أما أن يرقص على أشلاء الشهداء ـ أمثال حمزة الخطيب... وغيره ـ رقصة تزلف ورياء وممالأة فأظن أن هذا مما لم يخطر على بال أحد من قبل! ألهذا الحد يتعامى الناس عن الحقيقة؟! أيمكن لعاقل أن ينكر وجود الشمس لأنه أغمض عينيه أو جعل بينه وبينها حجاب؟! وهل كانت سوريا قبل هذه الثورة المباركة واحة النعيم المقيم، وموئل الحرية والديمقراطية، وأرض الجهاد والرباط في العالم العربي، ثم جاء هؤلاء الثائرون ليفسدوا رأيها، ويثلموا عدلها، وينقضوا غزلها، ويقدموها لقمة سائغة لعدوها؟!!

ثم أين هذه المقاومة التي يمثلها النظام السوري ويحقق بها أي مصلحة وطنية أو قومية وتتشفع له عندنا وتجعلنا نغض الطرف عن جرائمه الوحشية التي يرتكبها ضد الأطفال والنساء والشيوخ والفتيان من أبناء شعبه المطالبين بالحرية والكرامة لهم ولوطنهم؟! أليست هذه مرتفعات الجولان السورية لا يزال الكيان الصهيوني يحتلها منذ نحو خمسة وأربعين عاما؟! أليس النظام السوري على مدى هذه العقود الطويلة من الزمن جزء من معادلة الانكسار والخنوع العربي وإن لبس لبوس المقاومة والممانعة؟! ورغم إدعائه العفة والطهر السياسي أليس جزءا من لعبة الرذيلة السياسية التي يمارسها الاستعمار مع معظم الأنظمة العربية منذ رحل عن عالمنا العربي قبل عقود؟! وإلا فليخبرني أحد من العالمين ماذا قدَّم هذا النظام للعروبة والإسلام؟! حتى قضية فلسطين التي يزعم زورا وبهتانا أنه حامي حماها فليدلني أحد ماذا قدم لها على أرض الواقع؟! إنني وأبناء جيلي لم نسمع يوماً أن هذا النظام الفاشي أطلق رصاصة واحدة على العدو الصهيوني، بل كلما ضربته إسرائيل على خده الأيمن أدار لها خده الأيسر ضعفا وعجزا وذلا وخنوعا وهوانا، وهاج وماج في وسائل الإعلام ليعلن أنه يحتفظ بحق الرد، وها هي دبابات الجيش السوري ومدرعاته وآلياته العسكرية تدك المدن السورية دكا وتحصد أرواح السوريين الأبرياء حصدا، ورغم تلقي النظام السوري الصفعة تلو الأخرى من طيران العدو الصهيوني، ورغم الإذلال والمهانة إلا أنه طأطأ رأسه وبلع خزيه وآثر السلامة معلناً أنه يحتفظ بحق الرد، وها هو الرد قد أتى وكأنه كان يحفظ المدن الإسرائيلية ويدخر قوته ويوفر جيشه ليبيد به أبناء حماة وحمص ودرعا ودير الزور وإدلب... وغيرها من المدن السورية العزيزة الأبية التي تقف بكل شموخ وعزة وإباء في وجه هذا الطاغية ونظامه وشبيحته وزبانيته الذين لا يعرفون الرحمة، بل أمعنوا في وحشيتهم مع دخول شهر رمضان الفضيل شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار.

وصدقا لا أدري عن أي وطنية أو أي عروبة يتحدث هؤلاء الذين يدعمون هذا النظام الفاشي المتوحش!! وزادت دهشتي وحزني وأنا أرى بعض الفنانين السوريين والمفكرين والكتاب العرب يقفون إلى جوار الطاغية ويولغون معه بألسنتهم في دماء الضحية!! وانفجر غيظي وغضبي كغيري من أبناء الشعب العربي حين رأيت وسمعت كلام الأمين العام لجامعة الدول العربية معالي الأستاذ الدكتور نبيل العربي عن سوريا، وعجز أو تخاذل الجامعة عن اتخاذ موقف حازم تجاه النظام السوري، وتساءلت كغيري في حيرة: أهذا هو الرجل الذي استبشرنا بمقدمه خيرا ودبج البعض منا قصائد الشعر يتغزل فيها بوطنيته وقوميته وثوريته؟! وكيف لا ومعاليه من أبناء ميدان التحرير؟! لكن أهذا الكلام يعبر عن روح ميدان التحرير التي تطالب بالحرية والكرامة لكل العرب أينما كانوا وحيثما حلوا؟!

وازددت هماً وغماً وأن أرى صمت الإسلاميين على امتداد عالمنا العربي والإسلامي! فأين هم السلفيون والإخوان المسلمون في مصر؟! ألا تستحق منهم هذه الدماء السورية الغالية جمعة من جمعهم المهيبة؟! أموقع السفارة السورية في القاهرة بعيد عنهم؟! لماذا لا يتظاهرون أمامها بشكل حضاري وسلمي كل يوم أو كل أسبوع؟! لماذا لا يضغطون على حكومة الثورة المصرية لسحب سفيرها من دمشق أو استدعائه للتشاور كما فعلت بعض دول الخليج وهذا أضعف الإيمان؟! ولا يقل لي أحد إن هذه هي السياسة بحساباتها بالغة الدقة شديدة الحساسية والتعقيد، فالشعب العربي السوري بكل أطيافه يستحق منا موقفا أفضل من ذلك، والدماء السورية ليست رخيصة إلى هذا الحد ليتعامى عنها الجميع بهذه الصورة المخزية، والأنكى أن يتشدق بعض من يسمون أنفسهم بالنخبة العربية بخرافات وأوهام من قبيل المقاومة والممانعة، فخير لهؤلاء أن يسكتوا ويريحونا من شعاراتهم الجوفاء، وليصمتوا إن كانوا عاجزين عن قول كلمة الحق والنطق بما نطق به غير العرب من الأتراك والألمان والأمريكان والطليان وغيرهم، أليس من عجائب هذا الزمن أن نرى هؤلاء الأعاجم أحرص على الدماء العربية من بعض دعاة العروبة والإسلام؟!! 

                

 * كاتب إسلامي مصري