‎سجين سابق وذكرى شحاطة البلاستيك

فداء السيد

لن أزعم أني سآتيكم بجديد في مقالتي ولن أحدثكم عن غريب لم تسمعوا به من قبل, ولا أنوي مفاجئتكم بعجيب قد تبيض له  رؤوس بعضكم فليس هناك جديد في سورية غير الثورة. ولكني مررت بين شهادات معتقلي الرأي في سورية فطفت على سجون تقشعر الأبدان لسماع اسمها ويتجمد الدم في العروق لذكر قصصها المرعبة وكأنها فلم رعب يتحدث عن مصاصي دماء خلعوا الرحمة من القلوب وأبدلوها قطران ما الله به عليم. وأذكر أني كنت كثير قراءة لقصص معتقلي السجون السورية الدامية ولكنني مررت على قطعة نصية جعلتني لا انام الليل بطوله وانا أفكر واتفكر في عظمة السوري عندما يستعظم معنى العزة والكرامة في النفس فتسمو به لدرجة تشعر وقتها انك طفل تتعلم من مدرسة العقول الحرة والأبدان المعتقلة.

لن أطيل عليكم فإني وإياكم لنعلم قساوة السجون ومصير المساجين وكيف كانوا يعاملون وعلى أي أرض ينامون وكيف كانوا ياكلون وبأي الأدوات كانوا يعذبون, وعن مهاجع السل والجرب ومصير  الأحداث والشيوخ ونوع الكرابيج والخوازيق وحفلات الإستقبال وساعات الإعدام وفترات الحلاقة ورواقات السقف وشتائم السجانين وأنواع التعذيب والبلاء ... عن رجال دخلوا وهم بنور العلم والتطوير يحلمون, شباب جامعات وعلماء ومفكرين كانوا الشمس الساطعة في سماء وطننا, ثم صاروا في كهوف وزنازين طيلة 20 او 30 عاما لا يرون إنسيا ولا جنيا, لا يكلمون الا خيالات تستجمعها الذاكرة يتذوقون طعم الحلاوة وهما, ويسمعون نهيق حمار فيطربون نهما, تدخل عصفورة خطأ من نافذة السجن فيجعلون لها اسما وينتظرون ولادة أطفالها ويهيئون لها عشا ترتاح فيه ويبكون لرحيلها كأنها الأمل الوحيد في الحياة وقد مات أحدهم غما وهما عندما غادرت العصفورة يوما ولم تعد, يسمعون من بعيد أجراس الكنائس وتكبيرات المساجد فيخرون لها عشقا ويتمنون ان لا تنقطع ولكن هكذا هي الحياة فلكل شئ نهاية, حتى  الظالم له نهاية ولو بعد حين.

طالت الحكاية وبطولها سيقصر الطريق وتقترب النهاية ... قرأت عن معتقل يروي سنينه العشرين يرويها وكأنه يشرب كأسا من الماء البارد فلقد أوتي من الصبر ما لا تتحمله  سنام الإبل, يروي قصصا عجيبة ما سمعت بها ولم أكن لأصدقها لولا أني التقيت أحدهم يوما فرواها لي كأنه كان في تلكم القصص. ثم وبخطفة سريعة ينتقل لذكرى أخذت منه

شهرا كاملا(على حد قوله) كي يستجمع نفسه وتقوى عزيمته لروايتها: يقول كان يوما حارا والعرق يتصبب من الـ300 سجين داخل المهجع الذي لا يحتمل اكثر من 70 شخص,  ولكل واحد منا مقدار شبر ونصف للجلوس والإستلقاء والنوم والتمتع بيوم صيفي وشمس حارقة لاذعة , يفتح الباب الحديدي, رؤوسنا مطأطأة الى الأرض ووجوهنا الى الحائط, ناداني بصوت عال ليس لنا أسماء هناك, نحن مجرد أرقام لا معنى لها, غالبا نحن أولاد الـ... أقبلت أرتشف دمعتي تمتزج بدماء وجهي المشوه المتشقق, لا يجوز لي الكلام ولا يجوز لي السكوت لا يجوز لي الوقوف ولا الجلوس, أمرني برقص الدبكة: قدماي مشققة مدماة وإلا لضربت الأرض بقدماي حتى يسمع أهل الأرض صلابة المجروح, حاولت, سقطت أرضا, رفسني بحافره أمر اثنين من الحراس بحملي و أمر جميع المعتقلين بالنظر إلي, ومن ثم ذهب ألى الحمام وأحضر شحاطة بلاستيكية عفنة تخرج الروائح الكريهة منها طوال اليوم ثم أمرني بفتح في ووضعها هناك.

لا أعلم وقتها أي منقلب سأنقلب ولكني صرخت في وجهه: الله أكبر عليكم, اعتقلوني اضربوني عذبوني لكن لن اسمح 

لكم ان تهينوا كرامتي(يقول: لا اعلم كيف قفزت فوق كل الحقوق التي كفلها لي القانون: فليس لهم الحق في اعتقالي اصلا وليس لهم الحق بهدر كرامتي وتعذيبي كحيوان او ضربي كقطعة خشبية هالكة ولكنني كنت مستعدا وقتها لأن أموت دون أن يضع أحدهم شحاطة بلاستيكية في فمي). لم أستطع إكمال قراءة تعليقات هذا الشريف وهو يؤصل لمعاني الحرية والكرامة والعزة والشرف والعدل والمساواة فوالله لكأني اقرأ لسقراط وهو يتحدث  عن الفضيلة والمعرفة او بلاتبيرغ وهو يتحدث عن جدلية الدميقراطية والحرية ... ثم فهمت بعدها سر عظمة الشعب السوري فهو الشعب الصابر رغم الصعوبات ولكنك ما ان تختبر صبره فسيصيح في وجه الظالم كلمة حملتها لنا الأيام جيلا فجيل: الشعب السوري ما بينذل.

أيها الكرام لا تنسوا معتقلي الرأي في سورية فهم الكرامة المتبقية.