صورة من صور الإيمان الحق

في قبسات من كتاب الله

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

( قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَىٰ . قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ . فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَىٰ . قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَىٰ . وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا ۖ إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ ۖ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ . فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ . قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ . قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ . وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ ) [ طه : 65 ـ76]

إنه موقف رائع يهزّ القلوب بالإيمان الحق الذي يعلو فوق مُتع الدنيا وفواجعها وسلطانها من خوف وضعف ، وشهوات وهوى .

لم يستغرق الموقف أكثر من تلك اللحظات التي أدرك فيها السحرة أن ما أتى به موسى عليه السلام ليس بسحر ، وهم أعرف الناس بالسحر ، وأن ما جاء به موسى عليه السلام هو الحق من عند الله ، فوقعوا ساجدين خاشعين مؤمنين بهذا الحق الذي رأوه وعرفوه وصدّقوه . إنه إيمان لا يتزعزع ولا يتردّد ، فلم يصدّهم عنه ما كانوا فيه من نعم الدنيا وزخارفها في ظل حكم فرعون ، ولم يصدهم عنه ما هدّدهم فرعون به تهديداً مرعباً خطيراً : " فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ "! إنه تهديد مرعب مفزع صادر من فرعون الذي هو قادر على أن ينفّذ تهديده لهم بهذا العقاب المرعب . ولم تعد تفتنهم زخارف الحياة الدنيا الكثيرة التي كانوا يجدونها في ظل حكم فرعون : " قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا . إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ۗ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ " انفصال حقٌّ كامل عن زخارف الحياة الدنيا ومتعها ومصالحها الزائلة ، وإقبال حقٌّ على الدار الآخرة ، إقبـالُ إيمان ويقين لا يعتوره ضعف من شكّ أو ريبة ! تركوا الدنيا كلها ومباهجها كلها ، وزخرفها كله ، وفتنة النفوذ والسلطان ، وما كانوا فيه من مظاهر القوة الدنيوية الزائلة ، تركوا ذلك كله في لحظة غُرِس في قلوبهم الإيمان فعرفوا فتنة الدنيا وتفاهتها وقلة شأنها ، أمام نعيم الآخرة ! في لحظة سريعة عرفوا الحق فقرروا والتزموا جانب الله سبحانه وتعالى : " ... وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ " وعرفوا حقيقة الدار الآخرة وما فيها من عذاب شديد للكافرين ، ونعيم خالد للمتقين : " . إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ . وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ . جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ "

لا بد أن نلاحظ هنا قوة التعبير : " .. قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ ... " ، فإن كلمة قد تفيد معنى التأكيد والتحقيق . ليكون الإيمان الصادق مرتبطاً بالعمل الصالح ارتباط حق وتأكيد لا ريب فيه .

والأمر كله متعلّق بالله سبحانه وتعالى فله الأمر كلَّه . فانظر إلى هذا التعبير : " فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ " ! إنه فضل الله عليهم عندما عرف في قلوبهم الصدق فرزقهم حلاوة الإيمان واليقين وثبّتهم عليه ، وألقاهم ساجدين لله عارفين فضله ونعمته عليهم .

ولو رجعنا إلى الآيات الكريمة السابقة لهذه الآيات ، لرأينا كيف أن السحرة كانوا في حالة يقين وتأكّد من سحرهم الباطل ، حتى اعتبروا موسى وهارون ساحرين أيضاً يعملون بالسحر ، وظنّوا أنهم الغالبون بسحرهم . وعميت أبصارهم حينذاك عن قول موسى عليه السلام لهم : " قَالَ لَهُمْ مُوسَىٰ وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ۖ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَىٰ " ! إنها دعوة صريحة للإيمان بالله وعدم الافتراء والكذب . فاختلفوا عند ذلك وتنازعوا أمرهم ، وأخذوا يتناجون سرّاً : " فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَىٰ " . ثم قالوا :" قَالُوا إِنْ هَٰذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَىٰ. فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا ۚ وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَىٰ "

هكذا كانت قناعتهم الثابتة من أن موسى عليه السلام ساحر يعمل بالسحر مثلهم ، فالصراع إذن بين سحر وسحر ، ويعتقدون أن طريقتهم في السحر هي الطريقة المثلى . لقد كان ميزانهم هو الدنيا ومصالحها .

هكذا كانت حالتهم النفسية وقناعتهم الفكرية ، وهذا هو الجوّ الذي كان مسيطراً عليهم كلَّ السيطرة . فمن هذا الجو المسيطر عليهم ، ومن هذه القناعة الثابتة في نفوسهم ، تحرّروا بفضل من الله عليهم بعد أن عرفوا أن ما جاء به موسى ليس بالسحر ، وهم أعلم الناس بالسحر وخداعه وكذبه . لقد رأوا الحقَّ ظاهراً في عمل موسى عليه السلام ، ساطعاً ، قويّاً ، لا يقترب من السحر ولا من أجوائه . وكأن البيّنات في عمل موسى عليه السلام اقتلعتهم من الأجواء التي كانوا فيها وكشفت لهم الحق ، فآمنوا بفضل الله عليهم ، وأُلْقُوا ساجدين خاشعين لله .

إنها نقلة عظيمة ، نُقلة من عالم الشرك والكفر والسحر ، من عالم فرعون وظلمه وضلاله ، إلى إشراقة الحق والإيمان واليقين ، اليقين الذي هجروا فيه متاع الحياة الدنيا وزينتها وزخرفها ، ولم يعد يصدّهم التهديد والتخويف بالقتل والصلب والعذاب الشديد ، وأقبلوا على الآخرة إقبال صدق ويقين !

ويُخيّل إليّ أن صحابة رسول الله r آمنوا مثل هذا الإيمان ، ونزعوا من قلوبهم الدنيا وأقبلوا على الآخرة ببذلهم الممتد وجهادهم الصادق ، إلا من ضعف منهم فأراد الدنيا ، كما قال سبحانه وتعالى عنهم :

 ( ...ۚ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۚ ... ) [ آل عمران :152]

ولما علم الله أن في قلوب أولئك من الصحابة رضي الله عنهم صفاء الإيمان أنزل نصره عليهم ، وأمدّهم بعونه .

ألسنا نحن المسلمين اليوم بحاجة إلى مثل هذا الإيمان ، وإلى نقلةٍ مثل هذه النقلة ؟! لو نظرنا في واقع المسلمين اليوم لرأينا أن الدنيا غلبت الكثيرين ، وأن الهوى غالب عليهم كذلك ! فمن أين يأتي النصر ؟!

إن الله يقضي بالحق ولا يظلم الناس شيئاً ولا يظلم أحداً ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون .

( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ۗ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) [ غافر :20]

   وكذلك قوله سبحانه وتعالى :

 ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [ يونس :44]

يمر المسلمون في هذه المرحلة بمذلة وهوان وضعف ، جعلتهم عالة على أعدائهم يستنصرونهم على بعضهم بعضاً ، فيتمزّقون شيعاً وأحزاباً ، ودولاً وأقطاراً وحدوداً ، ومصالح وأهواء ، فيضعف الجميع !

فعن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول r : " يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذٍ ؟! قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل . ولينزعنّ الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفنّ الله في قلوبهم الوهن . فقال قائل : يا رسـول الله ! وما الوهن ؟! قال حبَّ الدنيا وكراهية الموت " [ أبو داود :31/5/4297]

وما هو المخرج من ذلك الوهن والهوان ؟! إنه في قوله سبحانه وتعالى :

 ( فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) [ الذاريات :50]

   إنه في نقلة عظيمة كما انتقل السحرة عندما رأوا الحق فآمنوا وتابوا وأقبلوا على الآخرة إِقْبال حَقٍّ ويَقين .