إعادة قراءة المشهد السوري في أسباب تقهقر الاسد السريع مؤخرا

إعادة قراءة المشهد السوري

في أسباب تقهقر الاسد السريع مؤخرا

علي حسين باكير

شهدت الساحة السورية خلال الأشهر الثلاثة الماضية سلسلة انتصارات للمعارضة السورية وهزائم مدوّية للنظام لاسيما في إدلب وحلب ودرعا على طول المشهد الممتد من الجبهة الشمالية الى الجنوبية، وتعد نقطة التحوّل برأيي في هذا المجال معركة الجبهة الجنوبية ضد الإحتلال الرباعي الذي قاده الجنرال قاسم سليماني في شهر فبراير ومارس الماضي حينما اجتمعت قواته وحزب الله ومرتزقة شيعة أفغان “لواءا لفاطميون” بالاضافة الى قوات النظام لاسقاط هذه الجبهة. وقد فشل الغزو فشلا ذريعا، فانقلب المشهد على نظام الاسد الذي لم يعد قادرا على حشد قوات بشرية للقيام بعمليات بريّة، ولو نجحوا في تلك المعركة لكن الأمر مختلفا اليوم في كل هذه المناطق.

على ان نقطة التحوّل هذه لم تات معزولة عن المعطيات والتطورات المتزامنة واللاحقة المتعلقة بكل من النظام والمعارضة والتي هيأت المشهد لسلسة الانتصارات الاخيرة للمعارضة، ومنها:

أولا: العوامل المتعلقة بالنظام وداعميه

1- اهتراء أجهزة الاستخبارات: تعتبر اجهزة الاستخبارات التي تشكّل عماد المنظومة الأمنيّة السورية والتي تضبط توجيه الجهد الأمني والعسكري للنظام باتجاه الهدف المراد تحقيقه في حالة انهيار الآن. وكما اصبح معلوما، فان رؤساء اثنين من أصل اربعة أجهزة تم طردهم من مناصبهم مؤخرا بقرار غير مسبوق (رستم غزالي ورفيق شحادة ) وذلك بموازاة الفشل في العمليات التي تمت في الجبهة الجنوبية.

هناك عدة روايات حول السبب، احداها تقول انّ النزاع احتدم بين الرجلين على خلفية تنامي دور الميليشيات الايرانية وايران عموما في عملية القرار، وحقيقة انّ من تم تعيينه مكان رستم غزالي في رئاسة شعبة الأمن السياسي التابعة للمخابرات السورية بعد اقالته وهو اللواء الشيعي زهير الحمد قد يعطينا مؤشرا على صحّة هذا الافتراض.

وكما يقول السفير روبرت فور، فان هذه الاقالات تبعها رحيل حافظ مخلوف (وهو ابن خال الرئيس وكان رئيس جهاز الأمن العام في منطقة دمشق) والذي غادر البلاد وفقا للتقارير إلى روسيا أو روسيا البيضاء في الخريف الماضي. ويعد كل من مخلوف، غزالة (مات مؤخرا)، وشحادة، من أعضاء الدائرة الداخلية المقربين من الأسد، ويشير رحيلهم عن المشهد في غضون ستة أشهر إلى وجود خلاف داخلي كبير في النظام، لم يكن موجودا من قبل.

2- استنزاف قدرات الجيش السوري. يواجه نظام الاسد مشكلة مستعصية في الحشد البشري للقيام بعمليات هجومية أو دفاعية منذ نهاية العام الماضي، وقد حاول منذ ذلك الوقت التعويض بطرق مختلفة منها: حملات تعبئة لقوات الاحتياط ولاسيما في حمص وحماة ودير الزور ، تكثيف عمليات حواجز التفتيش وارسال لوائح باسماء ما يقارب 70 ألف من الشباب في مختلف انحاء سوريا من مجندي الاحتياط لامساكهم اذا لم يستجيبوا للاستدعاء، القيام بمداهمات وحملات اعتقال بعد عمليات تفتيش فجائية لاعتقال المتهربين من خدمة التجنيد، وتقديم مغريات وحوافز للمشاركة في ميليشيات الدفاع الوطني.

آخر مؤشرات فشل كل هذه الخطوات كانت في شهر ديسمبر الماضي في عدد من المناطق لاسيما في السويداء، تبعها حملة احتلال الجبهة الجنوبية (مثلث ريف دمشق، درعا، القنيطرة) بقيادة قاسم سليماني في فبراير الماضي حيث أوردت التقارير حينها انّ نسبة المقاتلين التابعين للنظام السوري في هذا الهجوم كانت تصل فقط الى 1 من أصل كل 5 مهاجمين.

3- تراجع دور الميليشيات الشيعية: كانت الميليشيات الطائفية الشيعية (لاسيما اللبنانية والعراقية) هي التي تغطي النقص البشري الحاصل في عدد من المحاور ولاسيما عند القيام بعمليات ذات طابع هجومي. منذ منتصف العام الماضي، اضطر عدد من هذه الميليشيات الى العودة الى العراق، وقد تكثّفت هذه العمليات بدءً من الربع الاخير من العام، وهو ما ادى الى خلل اثر افتقاد النظام لدعم هذه الميليشيات، وهو الأمر الذي يمكن الاستدلال عليه ايضا من خلال إضطرار النظام بشكل متزايد الى الاستعانة بمرتزقة شيعة افغان وباكستانيين (بعض التقارير مؤخرا سجلت مشاركة مرتزقة أفارقة الى جانب النظام كما حصل في معارك جسر الشغور).

أضف الى ذلك، بروز خلافات متزايدة تم تسجيلها مؤخرا بعد معركة الجبهة الجنوبية بين الميليشيات الشيعية والجيش السوري وبين ميليشيات الدفاع الوطني والجيش السوري ايضا وآخرها كما اصبح معلوما الاشتباكات التي حصلت بين عناصر الأمن العسكري وميليشيات “جيش الدفاع الوطني” في حمص. هذه المعطيات ادّت الى خلخلة العلاقة التي كانت متينة جدا في بداية الثورة بين النظام واجهزته الأمنية وجيشه وشبيحته وبين الميليشيات الشيعية والحرس الثوري الايراني.

4- تراجع الدعم الروسي والايراني: صحيح انّ الدعم الروسي والايراني للنظام السوري- بكافة أشكاله السياسية والاقتصادية والعسكرية- لا يزال قائما ويعدّ السبب الاساسي والرئيسي في بقاء النظام حتى اليوم، الا انّ الدعم المالي المقدّم للنظام من هذين البلدين كان قد بدأ ينخفض ويتراجع وفق عدد من التقارير وذلك بموازاة انخفاض اسعار النفط التي تعتمد عليها كل من موسكو وطهران في تمويله. وقد خلق هذا الوضع مشكلة للنظام في موضوع تمويل العمليات العسكرية. وعلى سبيل المثال هناك مجموعات من ميليشيات الدفاع الوطني لم تقبض مستحقاتها كما تقول منذ أربعة أشهر، والاشكال الاخير الذي وقع بين الجيش السوري وبين هذه الميليشيات سببه الاساسي نقص التمويل.

ثانيا: العوامل المتعلقة بالمعارضة السورية

1- توحيد وتنسيق عمل المعارضة المسلّحة تحت تجمعات كبرى: مع نهاية شهر يناير وبداية شهر مارس، بُذلت جهود كبيرة لتوحيد عمل عدد كبير من الفصائل المسلّحة لاسيما في الجبهة الشمالية التي اتّسمت بالفوضى خلال المراحل الماضية. وقد تمخّضت عن هذه الجهود على سبيل المثال ولادة “جيش الفتح” الذي يعكس مدى تطور ونضج قدرات العمل المشترك والتنسيق بين الفصائل المقاتلة. ولوحظ في نفس الفترة ايضا تدني مستوى الاشتباكات بين الفصائل وضد بعضها البعض مقارنة بفترات سابقة.

ولا شك انّ جزءً كبيرا من هذا الجهد يعود الى تحسّن العلاقات بين كل من تركيا والسعودية وقطر حيث كانت جهود هذه الدول تصب في السابق في دعم جهات مختلفة بل ومتضاربة في كثير من الاحيان. امّا اليوم فالجميع يعمل في نفس الخط لاسيما مع انفتاح المملكة العربية السعودية على التعامل مع جميع الفصائل المهمّة في الخارطة السورية باستثناء “داعش” المصنّفة ارهابية.

وقد انعكست هذه الجهود بشكل واضح على العلاقة بين الفصائل، ولا تزال نتائجها تتوالى، اذ شهدنا قبل ايام مصالحة بين جيش الاسلام وكتائب أحرار الشام، بعدما كانوا قد اختلفو ا وحصل استقطاب في الجبهة الاسلامية بين تيارين، جيش الاسلام وصقور الشام من جهة، ولواء التوحيد وأحرار الشام من جهة أخرى.

وعلى عكس ما نقلته بعض التقارير، ليس هناك من شواهد تشير الى انّ هناك تدفّقا استثنائيا ونوعيا في السلاح والعتاد الى الفصائل المقاتلة. فما كان قائما لا يزال كما هو، ولكن كما سبق وذكرت فان تنسيق الفصائل مع بعضها البعض وتنسيق الجهات الداعمة لها ايضا مع بعضها البعض ادى الى نتائج افضل في وقت كانت فيه العلاقة المتينة القائمة بين قوات النظام وميليشياته والميليشيات الشيعية تتزعزع وتتفكك.

2- توظيف قدرات جبهة النصرة: نُشرت تقارير خلال شهري فبراير ومارس عن محاولات لاقناع جبهة النصرة بالانفصال عن تنظيم القاعدة على اعتبار انّ غالبية اعضائها اصلا من السوريين الذين يحملون أجندة محلّية صرفة، وانّ مثل هذه الخطوة قد تتيح تأمين الدعم العسكري والغطاء السياسي للجبهة وازالتها عن قائمة الارهاب. وعلى الرغم من أنّه لم يتم الوصول الى نتائج قاطعة بعد في هذا الشأن نظرا للاختلاف الحاصل بين بعض مكونات الجبهة حول هذا الموضوع كما نقل، الا انّه لوحظ في الأونة الأخيرة تغيّر في الخطاب وايضا في طريقة العمل.

التغيّر في الخطاب وطريقة العمل لا يقتصر على الجبهة فقط بل على فصائل أخرى كبرى في سوريا، حيث بدا انّ هذه الفصائل تتّبع نمطا جديدا يقوم على ثلاثة عناصر: الاول هو التركيز على محاربة النظام، وحيثما يتم طرده او الانتصار عليه، يأتي العنصر الثاني حيث يتم الاعلان عن القبول بالادارة المدنية للأمكان التي يتم الظفر بها –او عدم معارضة ذلك على الأقل-، أمّا المعطى الثالث فهو التوجّه لمقاتلة “داعش” في الاماكن القريبة أو المحيطة.

هذه المعادلة اتاحت لبعض الفصائل تحقيق خلطة مثالية وذات تاثير عالي لناحية النتائج من جهة ولناحية ايضا ارسال رسائل طمأنة الى الخارج بشان محاربة “داعش”، ونجحت في الجمع بين الاثنين.

3- الجبهة الجنوبية: الجبهة الجنوبية كانت المعنطف الاساسي في سياق سلسلة الانتصارات التي بدأت مؤخرا بعدما هزمت محاولات الاجتياح الايراني بقيادة سليماني، مما عمقّ المشكلة لدى النظام السوري لناحية عدم القدرة على الحشد وتراجع الدعم المالي والبشري في ظل الخلاف بين مكونات هذا النظام الداخلية من جهة، وبين النظام السوري وحلفائه من جهة اخرى.

لكن من الواضح انّ هناك معارك جديدة تندلع في هذه الجبهة الآن ضد “داعش” خوفا من انقلاب المعطيات او تحوّلها، وهذا امر ايجابي لناحية أنه قد يفتح الباب واسعا امام تقديم المزيد من الدعم العسكري النوعي للفصائل المقاتلة هناك، لكن حرمان “داعش” من التواجد في الجبهة الجنوبية قد لا يكفي، اذ سيكون على جبهة النصرة ان تعلن موقفا نهائيا ازاء الانفصال عن القاعدة، فموقفها الرمادي قد لا يخدم أحدا خلال الفترة القادمة باستثناء النظام ونعود حينها الى الدوران في نفس الدائرة.

هذه المعطيات الكلّية عموما التي يذكرها المقال تريح حلفاء الثورة السورية ولاسيما المثلث التركي- السعودي – القطري، وتمهّد الطريق ايضا لعدد منهم لاتخاذ خطوات أكبر في الاشهر القليلة القادمة اذا ما تطلّب الامر ذلك، كما وتضغط هذه المعطيات على الغرب لاعادة دراسة خياراته، وتجبر النظام على خطوات لا يريدها ومن المنتظر ان يرد عليها بوحشية اكبر نتيجة حالة اليأس التي يعيشها في ظل الاستنزاف المتواصل الذي يعاني منه.

ومع ذلك، فان المصاعب لم تنته بعد، ولا تزال هناك العديد من المعارك المهمّة التي من الممكن ان يؤدي الانتصار فيها الى تسريع انهيار النظام لاسيما معركة القلمون على سبيل المثال، اما المعارك الحاسمة الأخرى ضد معاقل النظام في دمشق واللاذقية فهي لا تزال تخضع لفيتو حتى هذه اللحظة، وما لم يتم الفصل في المعطيات الجانبية التي تؤخر تسريع اطلاق عمليات كبرى ضد النظام تؤدي الى انهياره في لحظة غير متوقعة (كموضوع توجّه جبهة النصرة القادم)، فقد تتباطأ سلسلة الانتصارات الجارية حاليا. كما من المتوقع ان تحاول بعض الدول الغربية ان تستغل التقدم الحاصل للمعارضة على الارض والزخم الذي تحققه من أجل الدفع باتجاه عملية تفاوضية جديدة مع النظام. وفي حال لم تكن النتيجة النهائية لمثل هذه العملية التفاوضية معروفة سلفا وتؤدي الى اخراج الاسد من المعادلة فستكون فرصة اضافية للنظام واعوانه لاستعادة الانفاس من جديد.