النظام الاقتصادي في الإسلام

أبي الأعلى المودودي

إن الإسلام قد صاغ بعض القواعد وشرع حدوداً معينة بقصد الحياة الاقتصادية للفرد على طريق الحق والعدل، حتى يتسنى لنظام الإنتاج وحركة الثروة كله، أن يجري وفق الحدود المرسومة له، والإسلام لا يصرف همه إلى طرق إنتاج الثروة وصور حركتها وتوزيعها، فإن مثل هذه الطرق تتطور مع كل عصر وتتغير مع تقدم المدنية والثقافة، وتثبت تلقائياً وفقاً للضرورات والظروف الإنسانية.

ولكن ما يهدف إليه الإسلام هو أنه مهما كانت الصورة التي تأخذها شؤون البشر الاقتصادية على اختلاف العصور والظروف، فإنه ينبغي أن تشغل المبادئ التي ينشرها الإسلام مكانها الخالد فيها، كما أنه يتحتم أن تقتبس وترعى كل حدوده التي شرعها.

إن الله قد خلق للإنسان الأرض وما فيها جميعاً – هكذا تقول وجهة النظر الإسلامية – ومن ثم يخول (حق المولد) لكل فرد أن يسعى لينال رزقه من هذه الأرض التي خرج إليها. وكل البشر شركاء في هذا الحق على السواء، ولا يجوز أن يجرد من هذا الحق أحد الناس كما لا يجوز أن يفضل فيه أحد على الآخر.

والشريعة الإسلامية تتجه إلى عدم السماح بإقامة أي عقبة في طريق فرد أو جنس أو طبقة يكون من شأنها أن تحرم بعض الناس من حقهم في الإفادة من وسائل معينة للعيش أو تغلق في وجوههم أبواب أي مهنة، كما أن القانون لا يقر أي تمييز يؤدي إلى تمكين طبقة أو جنس أو سلالة بعينها من احتكار وسيلة من وسائل العيش، فإن حق البشر جميعاً على السواء أن يكدحوا ويلتمسوا ما في وسعهم من وسائل كسب القوت التي أتاحها الله لعباده على أرضه وينبغي أن تبقى الفرص مباحة متكافئة لكل فرد من الأفراد من أجل هذا الكفاح.

ولقد أباح الشارع دون مقابل كل ما قام في الطبيعة دون أن ينفق في إعداده أو في تهيئته للانتفاع منه جهد أو طاقة. وكل فرد مخول من أن ينتفع من مثل هذه الأشياء إلى الحد الذي تستلزمه حاجاته، فمياه الأنهار والينابيع، وأخشاب الغابات، وثمار الأشجار الفطرية، والعشب والعلف الطبيعيان، والهواء والماء، وحيوانات الآجام، والمناجم التي على ظهر الأرض، كل ذلك وما في حكمه لا يمكن لفرد أن يحتكره، كما لا يجوز أن توضع أية عوائق لا يتمكن الناس معها من الوفاء باحتياجاتهم من غير أن يدفعوا شيئاً، غير أنه من الطبيعي أن يطالب من يبغون الانتفاع من هذه الأشياء على نطاق واسع، بقصد التجارة بأن يدفعوا ضريبة على ذلك للدولة.

وليس من صواب الرأي أن تدخل أشياء خلقها الله لنفع الناس كافة في حيازة البعض ثم تبقى على حالها دون انتفاع، فإما أن ينتفع الإنسان بنفسه منها، وإما أن يتركها لنفع الآخرين، وعلى أساس هذه القاعدة تنص الشريعة الإسلامية على أن حداً لا يستطيع أن يضع يده على أرض دون أن يفلحها أكثر من ثلاثة أعوام، فإذا لم يستغلها بالزراعة أو العمارة، أو يستفيد منها بأي طريقة أخرى، فإن هذه الأرض تعامل بعد مدة ثلاث سنوات معاملة الأرض المهجورة، وكل من يستعملها آمنٌ من التعرض في المستقبل لمأخذ قانون، كما أنه ليس للحكومة الإسلامية حق تسليمها لسواه(1).

وكل من يجوز شيئاً من كنوز الطبيعة عن طريق مباشر ويجعله صالحاً للانتفاع فإن يكتسب حقوق تملكه، فإذا ما كانت هناك أرض غير مزروعة مثلاً، لا يملكها أحد وحازها شخصٌ آخر، وشرع في استغلالها لمقصد حلال، فإن هذه الأرض لا يمكن أن تنتزع منه(1)، وإنما تنشأ حقوق التملك على هذه الطريقة طبقاً للنظرية الإسلامية، فحين ظهر البشر لأول مرة على هذه الأرض كان كل شيء في متناول كل إنسان، وكل من حاز شيئاً مباحاً وهيأه للانتفاع بأية طريقة صار متملكاً له، وبعبارة أخرى حصل على حق استعماله خصيصاً لصالحه الفردي وحق تحصيل عوض من الآخرين، مقابل استعماله إن شاؤوا.. وهذا هو الأساس الطبيعي للشؤون الاقتصادية المتعلقة بالنوع الإنساني وينبغي أن يصان هذا الأساس سليماً، وحقوق التملك التي يتأتى لكل فرد أن يحصل عليها في هذا العالم عن طريق مشروع مباح، حقوق جديرة بالاحترام في أي حال، وإنما يمكن أن يثور الجدل بصدد ما إذا كان التملك في حالة بعينها سليماً من الناحية القانونية أم لا، فإذا ما كان التملك غير صحيح من هذه الناحية تحتم أن يوضع له حد دون جدال، ولكن ليس للدولة أو لسلطة التشريع فيها أن تتجاوز ذلك إلى الملكيات الصحيحة قانوناً فتجرد أصحابها منها أو تتدخل في حقوقهم الشرعية، فإنه لا يجوز أن يقوم نظام يطيح بالحقوق التي كفلتها الشريعة بدعوى العمل للصالح العام للجماهير. وإنه لمن الجور أن ينتقص من الحدود التي حفظت بها الشريعة حقوق التملك الفردي في سبيل الصالح العام للمجموع، تماماً كما لو زيدت هذه الحدود والقيود، وإنه لمن واجب الدولة الإسلامية أن تحمي الحقوق الشرعية للأفراد، كما تراقب أدائهم لالتزاماتهم التي فرضتها عليهم الشريعة.

إن الله جل جلاله لم يشأ التسوية بين الخلق في نعمه وعطاياه، ولكنه قدر لواسع حكمته أن يفضل بعض الناس على بعض فلم يهب الجميع على حد سواء جمال الصورة وعزوبة الصوت وصحة الجسم وسلامة البنية، ولم يستووا في المواهب والميول، ولم يتحدوا في البيئة التي خلقوا فيها إلى غير ذلك، وكذلك الأمر بالنسبة لوسائل المعيشة، فالطبيعة الإنسانية كما برأها الله من شأنها أن يتباين الناس في معاشهم.

أما المساواة التي يؤمن بها الإسلام، فإنما تكون فيما يتعلق بفرص الكفاح لكسب العيش، فالإسلام لا يريد وجود عوائق في المجتمع - سواءً كانت نتيجة العرف أو القانون – من شأنها أن تعرقل الفرد في كفاحه للمعاش بقدر ما في وسعه من كفاءة ومقدرة، والإسلام لا يريد كذلك قيام فوارق من شأنها أن يصبح الثراء الموروث لطبقات أو أجناس أو آسرات بعينها إلى حصانات أو احتكارات مستديمة تحميها القوانين!!

فكل من هاتين الطريقتين إقامة العوائق وإقامة الفوارق، تعمل – متعسفة – على أن تقيم تفرقة مصطنعة بين الناس تحل محل التباين الطبيعي بينهم. ومن ثم يهدف الإسلام إلى إزالتهما تماماً، ويضع نظام اقتصادي للمجتمع على أساس طبيعي غير متكلف، تكون فيه فرص الكفاح متناول الجميع، ويكون ذلك النظام أقرب ما يكون إلى الطبيعة – وهي التي فيها يدور التنافس في الكفاح في الميدان الاقتصادي – حين يتمشى مع ظروف كل فرد ودوره في الحياة، فكلٌ ميسر لما خلق له، فهذا الذي ورث سيارة ينبغي أن يكدح مجهزاً بسيارته، وذلك الذي لم يوهب غير ساقيه عليه أن يسعى على قدميه، في حين يجب على العاجز أيضاً ألا يتخلف عن العمل بآخر وسعه.

وينبغي لقوانين المجتمع ألا يكون من شأنها أن تفرض احتكاراً دائماً لصاحب السيارة على سيارته، أو أن تجعل من المستحيل على العاجز أن ينال مثل هذه السيارة كما ينبغي ألا يكون من شأنها في الوقت نفسه أن تقصر صاحب السيارة والآخر العاجز عن البدء في سباق الكفاح من نقطة واحدة في ظروف واحدة تلزمهما الارتباط معاً إلى نهاية الشوط! بل على العكس من هذا ينبغي للشرائع أن تكون بحيث تتيح للعاجز أن ينال السيارة بكفاءته ومقدرته في حين أنه قد يتخلف صاحب السيارة إذا أعوزته الكفاءة والمقدرة.

وإن الإسلام لا يبغي مجرد قيام السباق الاقتصادي في الحياة الاجتماعية على أساس تكافؤ الفرص وعدم التحيز فحسب، ولكنه يريد ألا يكون المتسابقون متظالمين أو متقاطعين، إن عليهم أن يكونوا متعاطفين متعاونين، لذلك نرى من ناحية أن الإسلام يرمي خلال وصاياه الخلقية إلى خلق عقلية بين الناس يستعينون بها على تدعيم رابطتهم الواهمة التي تمزقها الأهواء، ومن ناحية أخرى يطالب الإسلام بقيام نظام دائم واجب في أي مجتمع(1)، يضمن العون والمساعدة للعاجزين الذين تعوزهم الوسائل اللازمة للوصول إلى القوت الضروري، فمن لم يستطع المشاركة في المنافسة الاقتصادية وجب أن ينال حظه من رعاية المجتمع، كما أن الذين يحتاجون إلى العون كي يتمكنوا من العمل والإنتاج الاقتصادي لا بد أن ينالوا بغيتهم عن طريق هذا النظام، ومن أجل هذه العناية سن الإسلام في شريعته أن تجبى زكاة بنسبة 2,5% سنوياً على الثروة المكدسة في البلاد وعلى رأس المال المتداول في التجارة سواء بسواء، ويجمع مقدار 5% أو10% من الإنتاج الزراعي للأراضي العشرية(2) جميعها، كما يجمع من إنتاج بعض المناجم بنسبة 20% كذلك تجبى هذه الضريبة السنوية بنسبة خاصة على الماشية التي يملكها أي فرد إذا زادت عن حد أدنى مقرر يتمتع بالإعفاء (النصاب) وحصيلة هذه الجباية كلها يجب أن تنفق لمساعدة الفقير واليتيم والمسكين، والزكاة بهذه الصورة أسلوب في تحقيق الضمان الاجتماعي، في ظلها لا يتأتى أن يعيش واحد في المجتمع الإسلامي بغير ضرورات الحياة، ولا يمكن أن يجبر عامل تحت ضغط الجوع على الرضوخ لشروط العمل التي يمليها صاحب المصنع أو مالك الأرض، ولن يكون الفرد عرضة لانهيار قواه عن أدنى مستوى يمكن صاحبه أن يدلي بدلوه في الكفاح الاقتصادي.

ويهدف الإسلام بإقامة ميزان بين المصالح المتقابلة للفرد والجماعة كي يرقى بذاتية الفرد وحريته الشخصية، على أن يضمن في الوقت نفسه أن لا تكون هذه الحرية ضارة بمصالح المجموع، بل ينبغي حتماً أن تنتفع الجماعة منها، فالإسلام لا يؤيد تنظيماً سياسياً أو اقتصادية يرمي إلى إذابة الفرد في المجموع وتجريده من الحرية الضرورية لنمو شخصيته على أساس سليم، فإن النتيجة المحتومة لتأمين كل وسائل الإنتاج في قطر من الأقطار هو تعجيز الجماعة للأفراد جميعاً، فيتعذر استمرار كيانهم الفردي وتقدم هذا الكيان إلى حد كبير إن لم يصر هذا مستحيلاً تماماً، فإن الحرية الاقتصادية ليست أقل ضرورة للفرد من الحرية السياسية أو الاجتماعية بل هي لازمة إلى أبعد مدى، فإذا كنا لا نقصد إلى استئصال شعور الفرد بكيانه وإنسانيته تماماً، فإن علينا أن نفسح له في حياتنا الاجتماعية المجال الكافي ليزاول حريته في كسب عيشته حتى يثبت في نفسه حرية الضمير ويغدو وفي وسعه أن ينهض بمواهبه الخلقية والعقلية وفقاً لميوله الذاتية، وهيهات لمن يعيش على حصة مقررة، تقديرها في أيدي الغير، أن يكون سعيداً بحالة مهما كانت حصته هذه وافية كافية، لأن تعويق السمو الخلقي والروحي الذي يؤدي إليه هذا الوضع المهين لا يمكن أن يعوض أو يعادل بمجرد صحة البدن ووفرة الثروة!

وكما أن الإسلام لا يرضى عن مثل هذا النظام فإنه لا يعلن رضاه أيضاً عن نظام اجتماعي يعطي للأفراد حرية اقتصادية واجتماعية مطلقة العنان، ويمنحهم (إذناً على بياض) ليحققوا مصلحتهم الفردية ويرضوا غائبهم ولو على حساب مصالح الجماعة بأسرها وهكذا يختار الإسلام طريقة الوصف بين الإفراط والتفريط، فيدعو الفرد نفسه أولاً ليقبل قيوداً والتزامات معينة في سبيل مصالح الجماعة، ثم يدعه بعد ذلك حراً يدبر شؤونه الخاصة.

وليس هذا مجال إفاضة في بيان كل هذه الالتزامات والحدود فقد يغني هنا أن نعرض لهذا في إجمال

ولتناول أولاً قضية كسب العيش:

إن العناية الدقيقة التي تحراها الإسلام في التمييز بين الحلال والحرام في الكسب لا تتأتى لأي قانون قائم في العالم، فهو قد عدّ من الكسب غير المشروع كل وسيلة يرتزق منها الإنسان بالنيل من مصالح غيره من الناس، أو مصالح المجتمع كوحدة، سواء من الناحية الأخلاقية أو المادية، فشريعة الإسلام تحرم بتاتاً صناعة الخمرة وسائر المسكرات وتجارتها، كما تحرم الزنا واحتراف الرقص ولعب الميسر، والمضاربة وأنواع اليانصيب، كذلك تحرم الصفقات الوهمية والاحتيالية والصفقات التي تحمل في طبيعتها جراثيم النزاع بين أطرافها والمعاملات التي يكون الربح لجانب فيها مضموناً أكيداً بينما يتأرجح الجانب الآخر في مهب الريح مفتقداً الثقة والطمأنينة والضمان.

وشريعة الإسلام تحرم أيضاً التلاعب بالأسعار عن طريق الامتناع عن بيع ضرورات الحياة، إلى غير ذلك من أمثال هذه الصفقات التي تضر مصالح الجماعة.

وإذا ما أمعنت النظر في هذا الجانب من قوانين الإسلام الاقتصادية فسوف تعرض لقائمة طويلة من الوسائل التي حرمها الإسلام، والتي لو وجدت لها مكاناً لأتاح معظمها للكثيرين الفرصة كي يتربعوا على الملايين في ظل الرأسمالية القائمة، لكن الإسلام يحرم هذه الوسائل كلها في شريعته ويكفل حرية الكسب في حدود الوسائل الكريمة وحدها التي يستطيع الفرد خلالها أن يقدم للجماعة خدمة حقيقة نافعة، ومن ثم يكون له بعدها أن يطالب بعرض عنها عادل صحيح.

والإسلام إذ يقرر للفرد حقوقه في تملك ثروته التي كسبها عن طريق حلال، فإنه لا يدعو هذه الحقوق المقررة بلا حدود، فهو يدعو الفرد لينفق ماله الحلال في وجه حلال وبكيفية مشروعة.

وقد وضع من القيود على الإنفاق ما يحجز به المرء عن تبديد ثروته في الملاذ الكمالية في الوقت الذي يعيش فيه المعيشة اللائقة، فإبراز المكانة والاعتداد بالنفس من الأمور التي لا ينبغي لإنسان أن يتجاوز فيها الحدود حتى يقيم من نفسه إلهاً فوق البشر، ولقد حرمت بعض صور الإنفاق بوضوح وجلاء، أما بعضها الآخر فلئن لم يمنع صراحة إلا أن الدولة الإسلامية قد منحت من السلطة ما تحجز به الناس عن إنفاق الثروات في المحرمات.

ويباح للفرد أن يجمع من الثروة ما يتخلف عن نفقاته المشروعة والمعقولة، وله أن يستثمر هذه الثروات في إنتاج المزيد، ولكن لا يترك الإسلام كنز المال أو تنميته دون قيود.

ففي الحالة الأولى عليه أن يدفع زكاة ما يتجمع لديه من مال يربو على النصاب المقرر في كل عام بنسبة ربع العشر (2,5%) أما إذا رغب في استثمار ثروته في أحد المرافق فله أن يفعل ذلك ولكن في حدود المباح من الأعمال المشروعة، فمن المباح للشخص أن يباشر عملاً مشروعاً بنفسه، أو أن يشترك في الربح والخسارة مع غيره مقابل تقديم ما لديه من رأس مال قد يكون في صورة مال أو عقار أو قد يكون في صورة أدوات وخصائص لازمة لحرفة من الحرف، وفي هذه الحدود على الواحد من جناح في نظر الإسلام إذا ما بلغ به عمله إلى ذروة الغنى، بل إن هذا أحرى أن يعتبر هذا من الله فضلاً عظيماً.

ولكن الإسلام يشترط هنا على الفرد أمرين في سبيل مصالح الجماعة كوحدة: أول الأمرين أن يؤدي زكاة بضائعه التجارية وعشر غلة إنتاجه الزراعي(1).

وثاني الأمرين هو إلزامه بالقسط في المعاملة من شركاؤه في التجارة أو الصناعة أو الزراعة، ومع من يعملون تحت يده، وإذا لم يلتزم فرد واجب العدل من تلقاء نفسه فإن الدولة الإسلامية تجبره على ذلك.

وبعد هذه الحدود الشرعية في موارد المال ومصارفه لا يدع الإسلام الثروة المتجمعة بعد إنقاذ هذه التعاليم مركزة في يدٍ واحدة لأمد طويل، فعن طريق شريعته بالميراث ينشر الإسلام تلك الثروة من جيل إلى جيل، واتجاه الإسلام في هذه الناحية مخالف لاتجاه شرائع العالم الأخرى، فجميع هذه الشرائع تعمل على أن تبقى الثروة التي تجمعت يوماً مركزة جيلاً بعد جيل، أما الإسلام فيصوغ شريعته على عكس ذلك تماماً، فبمقتضى هذه الشريعة فرض على الثروة التي يجمعها الشخص مدة حياته أن تتوزع بين أقاربه الأقربين فور وفاته، فإذا لم يوجد هؤلاء جاء دور الأقارب الأباعد في الميراث وفقاً لما قررته الشريعة لكل واحدٌ منهم نصيب مفروض، فإذا افتقدنا هؤلاء أيضاً خول المجتمع المسلم بأسره حق الميراث، وهيهات أن يبرز في ظل هذه التشريع، أو أن يفلت منه صاحب قناطير مقنطرة أو ضياع واسعة!!

فإن هذه الضربة الأخيرة كفيلة بأن تطيح بما عسى أن يكون قد مرق، رغم القيود السالفة من مساوئ التجمع والتركز في الثروات.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

(1) يروي الإمام أبو يوسف رحمه في كتاب الخراج عن طاووس هذا الحديث (عادي الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعد فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لمحتجز حق بعد ثلاث سنين) ويروي الإمام عن الزهري عن سالم عن عبد الله أن عمر أثناء خلافته قد نادى في الناس من فوق منبر المسجد (ومن أحيا أرضاً ميتة فهي له وليس لمحتجزٍ حق بعد ثلاث سنين). (المودودي): وعادي الأرض ما تقادم ملكه، وسبب خطبة عمر أن رجالاً كانوا يحتجزون من الأرض ما لا يعلمون.

(1) قال أبو يوسف معنى هذا الحديث عندنا – أي عند السادة الحنفية – على الأرض الموات التي لا حق لأحدٍ فيها ولا ملك، فمن أحياها وهي كذلك فهي له: يزرعها ويزارعها ويؤجراها ويكري منها الأنهار ويعمرها بما فيه مصلحتها) والمزارعة هي معاقدة على الزرع بين صحاب الأرض والمزارع فيقسم الحاصل بينهما بالحصص التي يتفقان عليها وقت العقد. – وكري النهر حفره – (1) يحاول بعض المغرضين تشويه صورة نظام الزكاة جهلاً أو تجاهلاً مغفلين الصورة التي وردت في القرآن الكريم بقوله تعالى: "وفي أموالهم حقٌ معلوم للسائل والمحروم" فليس ما يؤخذه الفقراء منة وتفضلاً من الأغنياء.  (2) الأرض الزراعية من حيث الضريبة الواجبة فيها نوعان: أرض يجب فيها عشر ما يخرج منها أو نصف عشر، وتسمى الأرض العشرية، وأرض يجب فيها مقدار يعين عليها باعتبار مساحتها أو الخارج منها يسمى الخراج، وتسمى الأرض الخراجية، ومرجع هذا التقسيم إلى صفة اليد الموضوعة على الأرض ابتداء وقت فرض ضريبتها فإن كانت إسلامية كانت الأرض عشرية، وإن كانت غير إسلامية كانت الأرض خراجية – راجع رسالة الخراج – النظم الإسلامية.

(1) وقد يؤخذ منه أكثر من ذلك إذا اقتضته الحاجة العامة لجماعة المؤمنين ولم تقم الزكاة بهذه الحاجة ففي المال حقٌ سوا الزكاة وسلطان الدولة الإسلامية في ذلك مطلق حتى تستوفي الجماعة حاجتها.

وسوم: العدد 848