"هُم" و "نحن"

د. عامر منير غضبان

كم تحدثنا عن عظمة الإسلام، وعمق تأثيره في النفوس، وأنه أقوى أساس تقوم عليه المجتمعات، وأنه وحّد شعوباً وقبائل بعد تفرّق وخصام.

وكثيراً ما رأينا أعداء الإسلام لا يجتمعون على أمر، كما يجتمعون على حرب الإسلام.

وبعد هذا كله نعجب لواقع المسلمين المؤلم، فهم متفرقون أحزاباً وشيعاً، سواء منهم العامة، أو الخاصة الذين يعملون لنصرة الإسلام.

إنّ تفرُّق العامة قد يكون مفهوماً، فهو نتيجة جهلهم بحقيقة الإسلام، أو خضوعهم لأهواء الطغاة والجبارين. وأما تفرّق "الإسلاميين" والدعاة إلى الله فأمرٌ يبدو مستغرَباً. أليسوا جميعاً يبنون مواقفهم على هدي هذا الدين؟ أفيكون هذا الدين سبب تفرقتهم؟!.

لقد أخبرنا الله تعالى أن أهل الكتاب اختلفوا من بعد ما جاءتهم البيّنات والعلم، وأن هذا الاختلاف كان نتيجة البغي: (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم).

والبغي، كما يقول المفسّرون، هو التحاسد والتباغض والتدابر وطلب الرياسة وحظوظ الدنيا.

إن واقع المسلمين اليوم يرينا جماعات ومناهج وأفكاراً... تسير في اتجاهات متباينة. وفي كثير من الأحيان لا يلتزم المختلفون بأدب الاختلاف، ولا يعذرُ بعضهم بعضاً، ولا يتغاضى كل فريق عما يخالفه به فريق آخر، بل يصارعه ويناكده.

وأصبح مألوفاً أن نسمع عن انقسامات تترى، ومع هذه الانقسامات معارك كلامية واتهامات قد تصل إلى العمالة والخيانة والتكفير... وهذا ما يوغر الصدور ويستهلك قسطاً وافراً من إمكانات المتخاصمين.

ورحم الله الإمام البنّا. لقد خلّف لنا وصية تُكتب بماء الذهب: " لنتعاونْ فيما اتفقنا عليه، ولْيعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".

القرآن الكريم ينهانا عن التنازع، ويحذّرنا مغبّته: (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم). فإذا تنازع المسلمون ضعُفوا وذهبت قوتهم، وهُدرت طاقاتهم في خصوماتهم بعضهم مع بعض، والعدو الشامت يتشفّى.. والضعيف يناجز الضعيف مثله حين يعجِزُ عن منازلة عدوّه القويّ!.

* * *

ألا يمكننا أن نعتبر ما حلّ بالمسلمين من تفرقة بغياً بينهم؟!.

البغي هو المرض الذي يجعلنا مختلفين مع أننا نؤمن بعقيدة واحدة، ونواجه عدوّاً مشتركاً. والبغي مرض خبيث، يبدأ بالانتشار عندما ينزغ الشيطان بين المؤمنين، فيؤذي بعضهم بعضاً، ويكيد بعضهم لبعض، ويرد أولئك الكيد بمثله، وتعمّ العداوة والبغضاء، ويضعف وازع الدين... وتكون الحالقة!.

هل يمكن تلمّس أسباب ذلك، لعل المؤمن يصحو، ويمحو تلك الأسباب؟. إن من أسباب ذلك قصوراً في التفكير. فحين يحكمنا منطق "هُم" و"نحن"، ونتحدث بهذين الضميرين عن جماعتين مسلمتين، أو مجموعتين في جماعة واحدة، أو أبناء إقليمين في بلد واحد، أو أسرتين متجاورتين في حي واحد... ويردف هذا المنطقَ دوافعُ الهوى ونوازغ الشيطان، يطيش الصواب، ويعمى الفؤاد، ولا يبقى للدين تأثير على المواقف.

وحين نخضع لنوازع الهوى ووساوس الشيطان، تربو مشاعر الحقد والبغضاء والتنافر والتحاسد بين ضحايا العدوان... فإذا اجتمع مع هذه المشاعر تفكير محدود بحدود فرد واحد، أو إقليم واحد، أو حزب واحد... بحيث يُظَن أن هذا (الواحد) هو الذي يتمثل فيه الفهم الصحيح الواقعي العملي الجادّ.. لا نستغرب أن يصبح سعينا ركضاً وراء متاع زائل، أو كيداً ومكراً لإيذاء أخ في الدين.. ويؤدي ذلك كله إلى تكتّلات، ثم إلى خلافات وصراعات، ويسارع كل طرف من أطراف الصراع كي يستنطق النصوص الشرعية بفتاوى تثبت له أنه العامل لخدمة الإسلام والمسلمين ابتغاء رضوان الله تعالى.

قد يكون هذان المظهران المرَضيّان: قصور التفكير ونوازغ الهوى، سبباً في ضعف التزامنا بإسلامنا وتأثرنا به، أو يكونان نتيجة لهذا الضعف، بتأثير خلل في تربيتنا أصلاً. وسواء كان هذا أو ذاك فإن علاج هذين المظهرين ضرورة ملحّة للخروج من الفُرقة والخلاف، والمعافاة من البغي الذي نبغيه على أنفسنا.

ومن يقتنع بالمرض فليبادر إلى تناول العلاج ولو كان مُرّاً، فإن مرارته أهون من استفحال المرض، وإن تناول المسكّنات لا يغني عن العلاج شيئاً.

وقصور التفكير يعالج بأن يرتقي المسلم بفكره، وأن يعي ماذا تعني "نحن" و"هُم"، وأن يتعلم الموضوعية والدقة في أحكامه على نفسه وعلى الآخرين، وأن يعرف الحدود الدقيقة بين المفاهيم، والموازين الصحيحة لمحاكمة الأمور (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى). وكل ذلك ليعرف من هو؟ وماذا يريد؟ وماذا ينتظر منه؟ ولكي تبقى غاياته التي ينشُدُها ماثلة أمام عينيه، ويستبصر طريقه. ونحسَب أن من يفكر موضوعياً لا بد أن يصل إلى أن خدمة دينه تقتضي منه أن يضع يده بأيدي إخوانه فيكونوا يداً واحدة على عدوّهم الذي يكيد لهم ويقعد لهم كل مرصد..

أما نوازغ الهوى، وما يتبعها من تباغض وأحقاد، فإنها تحتاج إلى مجاهدة للنفس لتطهيرها من حظها، وتصفيتها من أكدارها وأحقادها... وهذا كلام جميل لكنّ حمْلَ النفس عليه عسير، فمن ذا الذي يستطيع أن ينسى نفسه، وأن يجتث ضغائن تأصّلت ونَمَت في فترات طويلة، وغذّتها أحداث متتابعة، وزيّنها وسواس خنّاس؟. ألم تر أن الله منّ على عباده أن وحّدهم بعد فُرقة ونزاع فقال: (وألّف بين قلوبهم. لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما ألّفتَ بين قلوبهم، ولكنّ الله ألّف بينهم). إنه لمرتقى صعب أن يتسامى إنسان على حظوظ نفسه وضغائنها ويفتح صدره لمن يحسَبُ أنه قد بالغ في الإساءة إليه... وإنه ليسير على من يسّره الله عليه ومنحه الوعي بأساليب الشيطان وحِيَله ومداخله، وأمدّه بعزيمة منه على المضيّ في طريق الرشاد.

ومن وسائل الشيطان ودسائسه أن يذكّر المسلم بمثالب أخيه وعيوبه وما كان قد صدر عنه، ويُغفل ما في أخيه من خير... وحين ينساق المسلم بغفلة مع هذه الوساوس ينسى أن فيه من العيوب مثل ما في أخيه، وأن عليه أن يتذكر الخير والفضل، ويتغاضى عن العيب والزلل، وهو يقرأ في كتاب الله: (ولا تنسوا الفضلَ بينكم).

وليعلم المسلمون أنهم، ما لم يكونوا أهلاً لحمل الرسالة، (فسوف يأتي الله بقومٍ يحبّهم ويحبّونه، أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم).

وسوم: العدد 848