عودة التتار في زمن العار

عودة التتار في زمن العار

منى مقراني – الجزائر

سعت الدول الإستعمارية جميعها بمختلف سياساتها الإحتلالية ، إلى سلخ الأمة العربية والإسلامية عن مقوماتها الثقافية خاصة الدينية منها ، كي يطول أمد إستبدادها لكنها فشلت في ذلك فشلا ذريعا ، ففي الجزائر على سبيل المثال لا الحصر حرقت الإدارة الفرنسية الكتاتيب ومنعت التعليم بالعربية ، ووصل بها الحال إلى منع الحج كي لايحتك الجزائريون بالعرب في المشرق ويمدوهم بعلوم الشرع والأدب والتراث الإسلامي لما فيها من حث على مجابهة الإحتلال وحشذ الهمم وذكر سير أعلام الكفاح في التاريخ الإسلامي كعقبة بن نافع وصلاح الدين الأ يوبي وغيرهم ، وهذا ديدن كل غاصب محتل خاصة في تلك الحقبة،فلا ثورة إتصالية ولا وسائل نقل حديثة تفسد عنهم خططهم، ومع ذلك باؤوا بخسران مبين. لكن من كان يظن ولو لوهلة أنّه سيأتي على العرب زمان يحرقون أبناءهم وكتبهم بأيديهم ، بدعوى مكافحة الإرهاب ؟ 

فقد سبقت المحرقة التي أقيمت للكتب في إحدى المدارس في مصر، حملة سياسية لزرع بذور الشك في الكتب الإسلامية قام بها قائد الأوركسترا المايستروعبد الفتاح السيسي حين تحدث عن ثورة دينية؟ وما إن أعلن الرجل عن هذا الخيار الفذ، حتى تسارعت الترسانة الإعلامية بإيقاع مضبوط إلى إبداء فروض السمع والطاعة لولي الأمر بكل مكوناتها الليبرالية والإسلاموية، والتي شهدت تبادل العمائم وربطات العنق بشكل هستيري ، فأصبح الليبرالي فقيها يعرف الصحيح من الضعيف ، وأصبح الأزهري علمانيا نزيها، يراعي الخطوط الدقيقة في الفصل بين الدين والحياة العامة ، عجبي.

وحيث تقاطعت مصالح بعض الليبراليين المرعوبين من الإندثار للفظ جل المجتمعات العربية لهم بسبب إصرارهم على نسخ التجربة الأوروبية دون أدنى مراعاة لخصوصية الثقافة العربية ، وبعدهم عن التجديد والإبداع وتقديم المناسب للحالة العربية،ومصالح ما يصطلح على تسميتهم بعمائم السلطان ، الذين لا يهمهم سوى رضى الحاكم أيا كان توجهه وإن قتل وأباد شعبا بأكمله، كما هي الحال في سوريا ومصر وباقي بلاد العرب الممزقة ، سكتوا عن التشريد والسجن والحرق، بل زاد عليهم الوافد الجديد للمنطقة إيران وما جلبته من طائفية أتت على الأخضر واليابس.

هذا التماهي المصلحي البائس أنجب لنا هجينا فكريا ،تمثل في فتاوى إجازة المجازر بدم بارد والذي راح ضحيته أطفال سوريا قتلا وحرقا وتقطيعا تحت وابل الرصاص والبراميل المتفجرة ، وتمثل في التناقض الصارخ والتطرف البغيظ والإنتقائية أيضا في فتاوى التحليل والتحريم، فمن أجاز المظاهرات أمس والخروج على محمد مرسي الرئيس المصري المنتخب بالصناديق ، يحرمها اليوم بدعوى عدم جواز الخروج على الحاكم، وعدم إثارة الفوضى والبلبلة والتشويش ؟ وتابعنا في تصريحات من ساهم في تشريد الشعب السوري ورفع رايات الطائفية فوق المساجد، يبكي الشعب اليمني ويستنكر «عاصفة الحزم» و»إعتداءها السافر» على اليمن شعبا وحضارة ؟

وتمثل كذلك في تهيئة مناخ أقل ما يقال عنه، أنه ملبد بسحب التفرقة والعصبية لغرس بذور الإجتياح الثقافي الفارسي للجغرافيا العربية والوصول إلى الكعبة ، بإستغلال إرتفاع الأصوات المتصاعدة والمنادية بـ «الثورة الدينية»، ومحاربة كتب الصحيحين البخاري ومسلم وإتهامهما بالكذب والفساد ، فأي هرطقة تخدم المشروع الإيراني أنسب من هذه؟ وإحكام قبضة صفوية تنتقم لأمس بائد مندثر لم تنسه ولن تنساه وتسعى سعيا حثيثا للإنتقام له.

إن الميليشيات الفكرية الحديثة التي إكتسحت عالمنا العربي ، والتي طاوعتها نفسها بأن تقيم موازين القسط على مقاسها ، وتسحق كل معارض رافض لعتمتها ، والتي إشتهت لأمة بأسرها الغرق في الدماء مادامت عصية على الطاعة،و تقيم طقوس الجهل السحيقة بإقامة محرقة لكتاب ؟ لن تصمد أكثر مما مضى ،لأنها تستمد بطشها الإيديولوجي من الإستبداد، وهذا الأخير يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن إستنزفته الشعوب المظلومة ولم يعد يجدي معها الرصاص.