حرية الحوار وحق الاختلاف

حرية الحوار وحق الاختلاف

م. أسامة الطنطاوي

[email protected]

نحن أمة في أغلب أحوالها تفتقد إلى ثقافة الاختلاف.

إذ ان الاختلاف سنة كونية من سنن المولى عز وجل، بداية من اختلاف الليل والنهار، والفصول الأربعة، واختلاف ألوان البشر..

من هذا المنطلق يجب علينا ترسـيخ فـكرة الاخـتلاف، بداية من الـخلق وصولاً إلى أقـوالنا وأفـعـالنا. ومـن المـهم جـداً دراسة وفهم رأي الإمـام الـشافعـي، رضـي الـله عـنه، عندما قال: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب». إذا أخـذنـا هذا في الاعتبار، فلن يثور كل منا من أجل رأيه بل سيـكون عليه أن يستمع إلى رأي الآخرين، وإذا أصر على رأيه فعليه أن يقـدم الأدلـة والبـراهين على صدق كلامه، هذا إن لم يقـتنع برأي الآخـرين لأن لـديه مـا يـثبت خـطأ هذا الرأي. وأهم من إثبات الرأي طريقه إثباته، فيجب أن يكون هذا باللين والرفـق في الـكلام، لأن الكلام الليّن يغلب الحق البـيّن. أما في ما يتعلق بالأمور الاجتهادية التي تحتمل أكثر من رأي، فكل إنسان يستطيع أن يأخذ بالرأي الذي يميل إليه قـلبه. وهـناك ما يسمى بالقاعدة الذهبية في فقه الاختلاف لدى علماء المسلمين، حيث يقولون: «نجتمع في ما اتفقنا فيه ويرحم بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه».

وإذا كان حال العلماء الاختلاف، فما بال غير العلماء؟ ما بال كل إنسان منا يتشبث برأيه ويتعصب له ويفترض الكذب فى الآخرين ويقلل من آرائهم؟ ولننظر معاً إلى بعض من أقوال السلف الصالح، لنتعلم فكرة الاختلاف:

روي أن هارون الرشيد قال للإمام مالك رضي الله عنهما: «يا أبا عبدالله، نكتب هذه الكتب ونفرقها في آفاق الإسلام لنحمل عليها الأمة».

قال: «يا أمير المؤمنين، إن اختلاف العلماء رحمة من الله على هذه الأمة، كلٌّ يتبع ما صحّ عنده، وكل على هدى وكل يريد الله».

إن الاختلاف هنا هو مـجرد اختلاف فـى آراء حياتية وليس عقـائد ثابـتة. إذاً، لا بـد لنـا من تـرسـيخ هذا المفهوم لدى الـجميع ألا وهـو أن نتـفـق في الـجوهر ونختلف في المظهر وأن نتعلم ثقافة الحوار والاختلاف، وفكرة الرأي والرأي الآخر، لأن لكل منا عقله وتفكيره، ولا يحب أحد منا أن يقلل الآخرون من شأنه أو يسفهوا رأيه.

 

وثقافة الاختلاف لن تولد في يوم وليلة ولكنها تنمو مع شخصية المجتمع، تنمو داخل كل فرد فيها ولكنها لكى تنمو تحتاج إلى من يرويها داخل الأسرة والمدرسة، تحتاج أن نزرعها داخل أولادنا، نعلمهم أن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، والاختلاف يصل بنا إلى التكامل .

تختلف الأجيال في الثقافة والفهم، ليكمل كل جيل ما بدأه سابقه، ويقوِّم السلبيات وينمى الإيجابيات.

نختلف فى مذاهبنا الدينية لكن دون ابتداع.. نختلف في التفصيلات التي جاز الاختلاف فيها دون المساس بقواعد الدين الراسخة، نختلف في توجهنا السياسي لبناء الوطن لا لهدمه.

ولكن على مايبدو فإن ثقافة الحوار والاختلاف قد بدأت بالانحسار، خصوصاً في السنوات الأخيرة، قبل أن تترسخ وتتجذر في الحياة اليومية للناس، وتقلُّصت ألوان الحوار المجتمعي لتحل محلها الثقافة المونولوجية، ثقافة الصوت الواحد واللون الواحد التي لا تقبل الاختلاف، بل تُلقي بالمختلف الأخر في حظيرة التآمر أو الخيانة، فغابت الحوارات حول القضايا الصغيرة والكبيرة في شتى المجالات السياسة أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافة حتى الأدبية...

ولم يكن ليحدث ذلك لولا ضعف ثقافة الحوار والديمقراطية والمواطنة في المجتمعات العربية وانعدامها في كثير من الأحيان، ليس فقط في بنية الأنظمة الحاكمة، بل في بنية التوجهات والحركات والمنظمات السياسية والفكرية القائمة على الساحة العربية، التي نتجت أساساً عن صراعات لا عن حوارات، وأمتد ذلك الأمر حتى بين الناس العاديين أنفسهم الذين تحولوا إلى وقود للصراعات العرقية والطائفية بعد أن  أصبحوا مجرد صدى ومتلقي للتوجهات الفكرية والسياسية التي تصدر سواء عن الأنظمة أو الحركات السياسية والفكرية القائمة دون أي تفاعل معها أو تأثير فيها.

إن تلك المظاهر والمعوقات، التي إن بقيت فسوف تقودنا في نهاية الأمر إلى الهاوية، ولن يكون بمقدورنا التخلص منها، وإزالة أثارها التي حفرت عميقاً في حياة الناس، إلا من خلال نشر ثقافة الحوار المبنية على التسليم بحقّ الاختلاف والتنوع، وترسيخ أدبيات الحوار لدى الحكام والمحكومين على السواء، والخطوة الأولى لتحقيق ذلك هي تأكيد حقِّ الاختلاف ليس على مستوى الكلمات أوالشعارات فحسب، بل وعلى مستوى الممارسة الفعلية، بدءاً من البيت والمدرسة والجامعة والمعمل وأماكن العبادة وصولاً إلى البرلمان والحكومة والرئاسة..إلخ. وتشجيع الكبار للشباب على التميُّز والاختلاف، وتقبُّل الاختلاف بين الأجيال المتعاقبة، بصفته سُنَّة الحياة؛ بل تقبُّل الاختلاف بين المتحاورين من أبناء الجيل الواحد، بصفته الأمر الطبيعي والشرط الأول لاغتناء المعرفة والإبداع.

ولن يكتمل معنى هذه الخطوة إلا بإشاعة الممارسة الديمقراطية في كلِّ مستوياتها ومجالاتها وبالأخص منها في المجال السياسي، والقضاء على كلِّ أشكال التعصب، وإشاعة قيم التسامح والمرونة والانفتاح على الجديد، خصوصًا لدى الأجيال الشابة التي ينفر الكثير من أفرادها اليوم من الحوار لأنهم نشأوا في غيابه، واعتادوا على ثقافة اللون الواحد، ولم يجدوا أمامهم سوى ثقافة العنف والقهر والتسلط، ولا سبيل إلى مواجهة هذه الثقافة التي تجذرت في حياة الناس على مدى مئات السنين من الاستبداد والقمع ومصادرة الحريات، إلا عن طريق نقيضها الذي يفيض بالتسامح، ويَعْمُر بالانفتاح على الآخر، ويؤمن بالتقدم الدائم إيمانَه بالمعرفة التي تزدهر بحرية التفكير والتجريب، من خلال تأسيس ونشر أخلاق الحوار، وممارسة حقّ الاختلاف، بصفته مبدأً أصيلاً من مبادئ الديمقراطية، وعلامةً دالَّة على حيوية الثقافة الصاعدة إلى الأمام، لا المنحدرة إلى الوراء.

ولا يمكن لأي دولة من الدول أو مجتمع من المجتمعات القائمة على هذه الأرض، أن ينهض أو يتقدم إلى الأمام من دون أن تتوفر فيه ثقافة الحوار، وحرية الفكر والتفكير وحق الاختلاف في الرأي، وفي الوقت نفسه نبذ العنف والتخلي عن ثقافة التهميش والتغييب والإقصاء والاستئصال، باعتبار أن ذلك يشكل الأساس الأول لتقدُّم المجتمعات وتطورها، وأن نهضة أي مجتمع لن تتم ولن تندفع إلى الأمام، إلا من خلال إيجاد أرضية للتعددية والتعايش، والاتفاق على صياغة مجموعة متناسقة من القيم الروحية والأخلاقية التي تأخذ في الاعتبار التنوع الإنساني الخلاق في المجتمع، والتفاعل الحر بكل مكوناته السياسة والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وفتح أبواب الحوار والاجتهاد الحر على مصراعيه، واستبدال ثقافة الإتباع بثقافة الإبداع، وممارسة التجريب الذي لا يتوقف في كلِّ مجال.

باختصار، يمكن القول إن الحوار لا يمكن أن يقوم بقرارات أو أوامر من فوق، ولا يمكن فرضه بالقوة، فهو كالحب والصداقة لا يولد بالضغط ولا بالترغيب. إنما يولد بالتسامح والانفتاح على الأخر المختلف عنا واحترام وجهة نظره، وتفهمه وعدم رفضه، وقبوله كما هو وكما يحب أن يعيش وكما يرغب أن يكون، لا أن نجعله صورة عنا أو ندمجه فينا، وأن نبتعد نهائياً عن التمترس وراء آراء ومواقف واجتهادات مسبقة، وكأنها مقدسات ثابتة غير قابلة لإعادة النظر فيها أو النقاش حولها.

فلن نستطيع استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف وآراء بعضنا البعض بدون الحوار والتلاقي, ولن نستطيع نحن أبناء الوطن الواحد أن نتقارب أو نتفاهم دون أن نتحاور في مواقفنا وآرائنا!. فإذا لم يكن هناك حوار بيننا، فسوف ينطوي كل واحد منا على ذاته وتقع القطيعة بيننا، لأن البديل الوحيد عن الحوار هو القطيعة بلا أدنى شك، التي سوف تؤدي إلى انتشار ثقافة الشك والحذر، التي سوف تقود نتيجة حتمية واحدة، هي العداء والتصادم والتقاتل.

إن عملية نشر ثقافة الحوار والاختلاف وتشجيعها في كل الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن أن تكون عملية موسمية أو منحصرة في جانب معين، بل هي عملية متكاملة مترابطة ودائمة ومستمرة، وشاملة لمختلف نواحي الحياة وميادينها، ولن تتحقق هذه العملية دفعة واحدة، بل تحتاج إلى وقت طويل حتى تؤتي ثمارها، المهم الآن أن نخطو الحطوة الأولى نحو الاعتراف النهائي بحقّنا جميعاً حكاماً ومحكومين في ممارسة حرية الحوار وحق الاختلاف.