ولكِنَّكُم غُثاءٌ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

ولكِنَّكُم غُثاءٌ

د. حامد بن أحمد الرفاعي

قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"يُوشكُ أن تتداعى عليكُم الاممُ كما تتداعى الأكلَةُ إلى قصعتِها..قالَ قائلٌ:أومِنْ قِلَةٍ نحنُ يومئذٍ يا رسولَ اللهِ..؟قالَ:بل أنتم يومئذٍ كثير..ولكنَّكم غُثاءٌ كَغُثاءِ السيلِ..ولينّزعنَ اللهُ المهابةَ منْ قُلوبِ اعدائِكم منكم..وليَقّذفنَ اللهُ في قُلوبِكم الوهن..قالوا:وما الوهنُ يا رسولَ اللهِ..؟قالَ صلى الله عليه وسلم:حبُ الدُنيا وكراهيةُ الموتِ"هذا الحديث يؤكد أمراً مهماً وهو أنَّ الغُثائيِّةُ هي عِلةُ ضَعفِ الأمَةِ المُسلمَةِ وهوانِها على النَّاسِ..ولكنْ ما المقصودُ بالغثائيِّةِ..؟أهي غُثائيِّةُ إيمانٍ..؟أم غُثائيِّةُ تخلُّفٍ في ميادينِ الحياةِ..؟المشهدَ التوصيفي"غثاءٌ كغُثاءِ السيلِ"يُوحي بأنَّها غُثائيِّةُ قوةٍ ومكانةٍ وأداءٍ..فالغثاءُ هو ما خفَّ من حُمولةِ التيارِ المائي الجارفِ يُلقي به على جوانبِ مجراه..وهي الزبدُ في قولِه تعالى:"فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا"ومما يستبعد احتمال غُثائيِّةَ الإيمانِ عن الأمة قولُه صلى الله عليه وسلم:"بل أنتم يومئذٍ كثير"ولم يُحذّرهم من ضَعفٍ في الإيمانِ يعتريهم..وهذا ممَّا يُرجحُ بفهمي أن الغثائية:غُثائيِّةَ القوةِ والمهابةِ والتخلُّفِ في ميادين المشي والإنتاج والإبداع..وليست بحالٍ غثائيِّةَ إيمانٍ وبعدٍ عن اللهِ تعالى..وجواب الرسول صلى الله عليه وسلم "بل أنتم يومئذٍ كثير"يؤكدُ الحالةِ الإيمانيِّةَ السليمةَ للمسلمين..ولم يتضمن الحديثُ إشارةً إلى خبر عن تراجعِ حالتِهم الإيمانيِّةِ..بل جاءَ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما يؤكدُ إشادتَه بالمسلمين كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"أتدرونَ منْ إخواني..؟قالوا:نحنُ يا رسولَ اللهِ..!قالَ:بل أنتُم أصحابي..أمَّا إخواني فهم أولئك الذين يؤمنون بي دونَ أن يَروني ووصفَهم بأوصافٍ حميدةٍ"لذا فإنَّ حالةَ هوانِ الأمةِ وانتزاعِ مهابتِها من قلوب أعدائِها - بفهمي-لا تتعلقُ كما يَحلو للبعضِ بمسألةِ تراجعِ إيمانِها وبعدِها عن اللهِ..بل تتعلقُ بالضعفِ والتخلفِ في ميادينِ الحياةِ..ويؤكدُ ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:"ولينزِعنَّ اللهُ من قلوبِ أعدائِكم المهابةَ منكم"فالمهابةُ لا تسقطُ إلا معَ سقوطِ القوةِ والمنَعةِ كما في قولِه تعالى:"قلْ هو منْ عندِ أنفُسِكم"وحالةُ الوهنِ تُنتجُها حالةُ سُقوطِ المهابةِ..حيثُ تظهرُ حالةُ تبرير عجزِ الأمةِ عن مواجهةِ التحدياتِ..اتكاءً من بعضهم على فهمٍ مُخلٍّ لقولِه تعالى:"لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"فينكفؤاعلى ذواتِهم ويسترخون استئناساً بفهم اختاروه لأنفسهم لمعنى قوله تعالى:"إِلَّا وُسْعَهَا"فتنمو عندهم ظاهرةُ:"حُبُ الدُنيا وكراهيةُ الموتِ"لأن الذي لا يحيى في سبيل الله يتخوف من الموت ويكره لقاء الله تعالى..فالغثائيِّةُ:هي هجرُ عبادةِ اللهِ تعالى في محاريبِ النهوضِ بمسؤولياتِ الاستخلافِ في الأرضِ..والغياب عن التنافسِ في ميادينِ البحثِ والإنتاجِ والإبداعِ والارتقاءِ..وبهذه الغثائيِّةِ يُرتبُ اللهُ تعالى على الأمةِ عقوبتين:(انتزاعُ مهابتِها منْ قُلوبِ أعدائِها،وهيمنةُ الوهن على قُلوبِ أجيالِها)..ولا نجاة للأمةِ من هذه الغثائيِّةِ المدمرةِ..إلا بالعودةِ إلى التكاملِ والتلازمِ بين محاريبِ عبادتِها الروحيِّةِ ومحاريب عبادتها العمرانية..والتواصلِ بينَ محاريبِ المسجدِ ومحاريب السوقِ.