الشيعة في لبنان: مسألة الولاء!

الشيعة في لبنان: مسألة الولاء!

محمد قواص

 في غياب مشروع عربي واضح، قَبِلَ العربُ العلاقة المصيرية الملتبسة بين الشيعة وإيران.

 ميدل ايست أونلاين

أجرى التلفزيون السوري، منذ أكثر من خمس سنوات، مقابلة مع الإعلامية اللبنانية مريم البسام (مديرة الأخبار في تلفزيون الجديد) تحدثت فيها عن تجربتها المهنية، لا سيما وأنها كانت قد أجرت بعد حرب 2006 في لبنان مقابلة مع أمين عام حزب الله السيّد حسن نصرالله، إعتبرت مكافأة لها ولتلفزيون الجديد على موقفهما الداعم للمقاومة أثناء تلك الحرب (انتكست هذه العلاقة هذه الأيام). تطرقت الزميلة البسام في حديثها لقلق والدتها من الاحتجاجات التي اندلعت في إيران عقب الانتخابات الرئاسية التي جددت لمحمود أحمدي نجاد عام 2009. روت البسام أن والدتها كانت تعتبر سقوط نجاد كارثة "علينا" (أي الشيعة) في لبنان.

وما لفتني حينها هو مدى الارتباط الذي بات يصل المواطن الشيعي العادي في لبنان بمصير نظام طهران، ودرجة قناعته أن أمنه وسلامته ومستقبل وجوده بات مرهوناً بصلابة وقوة الحاكم في طهران. وربما في تلك الخلاصة ما يطرحُ أسئلة حول الحيثيات التي قادت إلى هذا المآل، وجعلت الشيعي اللبناني في وعيه ولاوعيه مرتبطاً وجودياً بنظام الوليّ الفقيه.

أحدث انتصار الثورة في إيران عام 1979 زلزالاً في كل المنطقة، بالمعنى الإيديولوجي والجماهيري العام. باتت الخمينية منهجَ ثورة ينافسُ الطبعات والنمازج اليسارية الأممية، فيما باتت القومية (العربية أو السورية) تقليعة متقادمة قياساً بالظاهرة الإيرانية الجماهيرية. على تلك القاعدة تبدّلت الاصطفافات، واستقال المناضلون من خنادق عتيقة منتقلين إلى حضن خندق الثوار الجدد في إيران. تخلت أسماءٌ يسارية شهيرة عن يساريتها وراحت تلتحقُ بالرياح النافخة من الشرق، فيما سُجّل اعتناق بعض المسيحيين من تلك الشخصيات للمذهب الشيعي بصفته العنوان الإيديولوجي للحقبة القادمة.

قبل الحدث الإيراني الكبير، كان السيّد موسى الصدر، القادم من إيران الشاه، قد نجح بشكل لافت في انشاء حالة شيعية تستندُ على أبجديات الطائفة ومصالح الطائفة مهملاً ما شاع من سوّق الشيعة نحو مراتب أيديولوجية تحشدهم داخل صفوف الأمميين والقوميين وداخل معسكرات المقاومة الفلسطينية. بنى الصدرُ مداميك الصرح الشيعي المستقل بشيعيته عن المدارس السياسية التي كانت شائعة، وأسس في ندائه الشهير "السلاح زينة الرجال فتزينوا" لقيام كيان مسلّح، بصفته الطائفية، ليقارع بقية الحالات المسلحة في البلد.

في غياب عبدالناصر في مصر، وضمور المشروع العروبي، وهزيمة عام 1982 في لبنان، وانهيار اليسار الدولي لاحقاً، اختفت من أمام الشيعة كل الورش المحلية والإقليمية والدولية التي انخرطوا بها قبل ذلك. وفي تنامي الخطاب الإيراني الثوري الجديد، والعزم على تصدير الثورة، وجد الشيعةُ في لبنان في إيران ملاذاً يقيهم "جور" نظام بيروت ما بعد الاجتياح، كما جور الاحتلال في جنوب البلاد.

شُلّت المراكز الحزبية المعارضة لنظام الرئيس أمين الجميل المتداعي من "الاجتياح"، وحدها المساجد والحسينيات باتت مراكز الاعتراض الجديد. من تلك الحقبة نمت الشيعية السياسية مستفيدةً من غياب المنافسين (فلسطينيين ويساريين وقوميين) ومن ذلك الوهج الذي يُبث من طهران. ومذاك استولت الحركة (أمل) والحزب (حزب الله) على المشهد الشيعي العام.

ينتمي الشيعة في لبنان إلى ذلك الهلال الشهير الممتد نحو إيران مخترقاً سوريا والعراق والذي سبق لعاهل الأردن الملك عبدالله الثاني أن حذّر منه عام 2004. وأذكر، بالمناسبة، أني تبرمت من تصريح للرئيس المصري الأسبق حسني مبارك عام 2006 يتهم الشيعة العرب بالولاء لإيران، ودعوت شخصيات شيعية من لبنان والكويت والسعودية للردّ في أحد برامجي التلفزيونية على "مزاعم" الرئيس المصري. وما فاجأني بمداولات المتحدثين ما اختصره أحدهم: "وما الضير من الولاء لإيران؟" في ذلك أن الشيعة عامة، باتوا في سوادهم الأعظم مقرون بتلك العلاقة المصيرية التي تربطهم بمصير النظام الإيراني على ما عبّرت والدة الزميلة البسام.

لكن تصريحات مبارك تكشفُ أيضاً القدرية التي تعامل بها النظام السياسي العربي مع مواطنيه الشيعة. وبغضّ النظر عن صحة ذلك الولاء من نسبيته، فإن الحاكم العربي بات يعتبرُ الوجود الشيعي متواصلاً مع إيران وقد يمثّل امتدادا للسياسة الإيرانية في المنطقة. بالمقابل يتحركُ الشيعة في بلدانهم بصفتهم شيعة (البحرين مثلاً) يجاهرون بالعلاقة مع طهران ويتعاظم حراكهم وفق تعاظم الدور الإيراني وطموحاته.

لم يجدْ الشيعة اللبنانيون المعارضون لإيران ما يرفدُ سعيهم بالمستوى المطلوب داخل النظام العربي العام. فمقابل السخاء الإيراني على الاتباع داخل البيت الشيعي، لم يلاق من رفض تلك التبعية نفس مستوى الاحتضان من قبل العرب (رغم نعتهم بشيعة فيلتمان). كانت حسابات النظام العربي لا تريدُ مواجهة مباشرةً مع إيران، وهذا ما يفسّر أن مستوى الدعم العربي للمعارضة العربية في إيران (الأهواز) أو تلك السنّية في بلوشستان ومناطق أخرى لم تحظ بأي دعم عربي يذكر، مقارنة بالدعم السياسي والمعنوي والمادي واللوجيستي والعسكري الذي تقدمه إيران لشيعتها العرب.

بكلمة أخرى، وفي غياب مشروع عربي واضح، قَبِلَ العربُ تلك العلاقة المصيرية الملتبسة بين الشيعة وإيران. والقبول لا يعني الرضا، بل أن مقاربة الأمر تأخذُ هذا المعطى بالاعتبار لمجاراته أو مجابهته. في لبنان وإثر انتفاضة اللبنانيين على نظام الوصاية السورية في لبنان في "14 آذار" 2005، وقعت قيادات التحالف "السيادي" الجديد في ما وقع به النظام العربي بشأن شيعته، وراحت تتحالفُ انتخابياً مع الثنائي الشيعي الشهير بصفته ممثلاً وحيداً للشيعة في لبنان. وقف المعارضون الشيعة لحزب الله ولإيران مشدوهين محبطين من عجز "ثورة الأرز" على اختراق الثابت في طائفتهم.

قبل عدة أعوام جمعني مؤتمر في إحدى الدول العربية بالعلامة اللبناني الراحل السيّد هاني فحص. وكان السيّد من الأصوات الشيعية الكبرى المعروفة في العالم العربي بانتقاده لإيران وحزب الله. وقد تأثر بالثورة الخمينية وشدَّ الرحال للإقامة في دولة الثورة الاسلامية، ليغادر بعد سنوات عائدا باتجاه لبنان مجاهراً بلبنانيته وعروبته لا يقبل ان تنتقص منهما أمزجة طهران. لكن السيّد الذي صعد منبر المؤتمر في جلسته الختامية لمّح بألم إلى ما اعتبره "جائزه ترضية" لا أكثر تسمحُ له بالمشاركة بمداولات مؤتمر لم تحضره شخصيات دينية شيعية أخرى.

في مرارة الراحل ما يعكسُ معاناة من تواري مشروع جامع يتيحُ للشيعة الشعور بـ "العادية" لا الاستثناء. كما أن الشيعة الذين يرفضون تبعية الوليّ الفقيه في إيران يواجهون عصبية ومذهبية عدائية تناصبهم الخصومة وتعتبرهم "رافضة" يجوزُ تكفيرهم. ثم أن الإسلام السياسي الذي كاد يسطو على النظام السياسي العربي تحت راية الربيع العربي، لطالما روّج لمناخ يزيدُ من غربة الشيعي في بيئته ويرفعُ من منسوب "عادية" ولائه لإيران.

على أية حال ليس يسيراً الخروج بخلاصة لمقاربة الأمر. في لبنان من انتقد أداء تيار "14 آذار" لجهة عجزه عن تقديم خطاب يتوجه للطائفة الشيعية، لا بل اعتبارها طائفة مصادرة القرار لا تجوز عليها نِعَمُ السيادة والاستقلال. وفي لبنان من رفض تخصيص الشيعة بخطاب، ذلك أن التغيير والتطوّر وجب أن يأتي من داخل البيت الشيعي وليس انزالاً عليه. لكن الثابتَ أن المزاج الشيعي (رغم الضغوط المعيشية التي تهددُ فرص عملهم في الخليج) لن يتبدل إلا بتبدل حقيقتين. الأولى تتعلقُ بمستقبل النظام الإيراني داخل إيران (وقد كادت تربكُه انتفاضة 2009)، وبالتالي تبدّل خياراته الإقليمية. والثانية تتعلقُ بمستوى الفعل العربي المضاد لإيران (وفي عاصفة الحزم ارهاصات من هذا القبيل)، وبالتالي نضوج حالة عربية طموحة. بانتظار تحقق ذلك سيبقى الشيعة العرب المعارضون لإيران يجهدون بجدّ، وربما على هامش المشهد العام للطائفة، ولا شك بعيداً عن أية رعاية عربية معتبرة، من أجل إعلاء صوت يخرج عن ترانيم القطيع.