الرؤية الاستشراقية للمسألة الشيعية

د. عاطف عبد الحميد

د. عاطف معتمد عبد الحميد

*تلخيص لأهم الأفكار الواردة في كتاب: "الشيعة في المشرق الإسلامي.. تثوير المذهب وتفكيك الخريطة" للدكتور عاطف معتمد عبد الحميد.

موقع مدارك / 16-02-2010

المستشرق جولدتسهيرارتباك .. تخليط .. تشتت .. هذه هي السمات الرئيسة التي تميز الدراسات الغربية في الموروث الشيعي حيث يختلط النص القرآني في الوعي الغربي بالتأويلات، والأساطير والمفاهيم الفلسفية والواجبات الدينية ... إلخ

وتحتل فكرة الإمامة مكانة هامة في هذه الدراسات،حيث يبدوالإمام "رجلا سماويا نورانيا" تتبلور حوله فكرة الولاية الباطنة لنبوة ظاهرة. وتصنع ثنائية موازية بين النبوة والولاية، وبين الظاهر والباطن، والتنزيل والتأويل.

وتبحث مثل هذه الدراسات عن الأبعاد المانوية ( الصراع الكوني بين النور والظلمة و قوى الخير والشر)التي يمثل فيها الإمام ومريدوه النور بينما يمثل أعداؤه الظلم والظلمات!!

وعلى كل لم تكن تهمة المانوية لتلصق بالشيعة وحدهم،  ففي القرون الأولى من ظهور الإسلام وجد الأوربيون في المسلمين طاعونا نزل على العالم المسيحي ناشرا الخراب أينما حل، ولم يكن المسلمون في نظرهم أكثر من شعوب وثنية أرسلها الرب ليعاقب المؤمنين، ويمتحنهم، ولم يجدوا أية فروقات بين الهرطقة المانوية وبين ديانة محمد!!

ولأن المسيحيين يقدسون المسيح باعتباره ابن الرب فقد كانت تصوراتهم عن المسلمين بشكل عام تنطلق من هذا الفهم ، إذ اعتبروا أن المسلمين يقدسون محمدا وتوقعوا أنهم جعلوا منه إلها وثنيا !!، وراجت مفاهيم – وبصفة خاصة خلال فترة السيطرة الإسلامية على إسبانيا - مفادها أن محمدا ربما كان قسا مسيحيا ارتد عن دينه، وربما كان كاردينالا قادته رغبته المحبطة في السلطة إلى السعي للانتقام من الكنيسة بنشر تعاليمه الخبيثة، وروجت هذه الكتابات إلى أن موته كان مزريا حيث افترسته الكلاب".!!

وفي الوقت الذي يرفض فيه كثير من المسلمين (سنة وشيعة) مناهج أغلب المستشرقين الطاعنة في الدين الإسلامي عقيدة وشريعة، يرفض الشيعة على وجه خاص كثير من الانتقادات التي وجهها المستشرقون إلى المذهب الشيعي بحجة أن اغلب هذه الانتقادات جاءت من ترجمة المصادر السنية حتى في أهم سند "شرعي" يعتمدون عليه وهو القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نص على أن خليفته في المسلمين هو على بن أبي طالب في يوم غدير خم، فقد استبعد مارجليوث في كتاب "محمد وظهور الإسلام" (1905) هذه التوصية المزعومة، وبروكلمان في "تاريخ المسلمين" (1939)، وكذلك المستشرق ذائع الصيت جولدتسهير الذي أورد رواية غدير خم بصيغة التشكيك.

بعيون صليبية

يمكن اعتبار القرن الثاني عشر الميلادي بداية المعرفة الغربية بالشيعة كتنظيم سياسي مع الحملات الصليبية زمن الدولة الفاطمية، وتواتر الأخبار المشوقة عن فرقة الحشاشين وبعض من الأخبار عن شيعة سوريا وفلسطين، وهؤلاء لم يمتلكوا تلك الرائحة المثيرة التي امتلكها الحشاشون.

وصاغ هؤلاء الكتاب المعلومات المحدودة التي توفرت لهم عن الشيعة بكثير من الخلط والتعميم، فقد نسب وليم الصوري - أهم مؤرخي الحملات الصليبية في القرن الـ 12 - إلى الشيعة الاعتقاد بأن عليا هو نبي الإسلام الحقيقي، لولا أن الملاك جبريل أخطأ وأوصل الرسالة إلى محمد !!!.

وسار على نهج الصوري يعقوب دي فيتري مطران عكا فيما بين 1216 و1228م والذي روج فيما كتب أن عليا كان نبيا مرموقا تكلم إليه الله كتقدير تمييزي عن النبي محمد !!

وبالمثل روج المنصر الشهير ريكولدو ديمونتو كروس أن الشيعة يعتقدون بأن محمدا اغتصب حقوق علي. واعتبر ريكولدو أن اتباع علي يحتفظون بقدر من اللطف وانهم "أقل شيطنة من الأغلبية السنية" !!

واعتبر بعض الدارسين الغربيين الأفكار الشيعية (وبالأحرى الفرق المهرطقة المحسوبة على الشيعة) انتحالا للأفكار الوثنية الإغريقية والفارسية القديمة، بل اعتبروا أن المكانة المقدسة للخمر لدى فرقة النصيرية (العلوية) دليل على محاكاة المسيحية، وأن عليا بن أبي طالب لديهم هو مسيح الإسلام.

كما كان احتفال النصيرية بالأعياد المسيحية مثل عيد الميلاد وعيد الغطاس والفصح وتقدير بعض القديسين المسيحيين تأكيدا لبعض المستشرقين والمنصرين بأن الفرق الشيعية (أوالمحسوبة على الشيعة) انتحلت أفكارا كثيرة من المسيحية، أو أنها ليست أكثر من طائفة مسيحية متنكرة بأقنعة شيعية.

ولم تكن لدى كثير من المستشرقين القدرة على تصنيف بعض الفرق بشكل قاطع، من ذلك ما ذكره أحد الرحالة في العام 1697م بشأن فرقة النصيرية حين سأله أحدهم: هل هؤلاء مسلمون؟ فأجاب " إنه لسؤال صعب، بوسعنا فقط أن ننفي تشابههم مع بقية العقائد، إذ هم ليسوا مسلمين، وليسوا مسيحيين، وليسوا دروزا، وليسوا يهودا، كما أنهم بالتأكيد ليسوا زرادشة، وإذ قابل هؤلاء القوم سنيا اقسموا له أنهم مسلمون يصلون مثله ويصومون، وإذا دخلوا مسجدا صلوا كما يصلي الناس، وإذا خلوا إلى أنفسهم يتمتمون بلعن أبي بكر وعمر، إنهم يقولون إن الكتمان جهادنا" !!

لقد كان علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- أكثر الشخصيات الرمزية التي جذبت الدارسين الغربيين، ونظروا إليه ليس فقط باعتباره محورالمذهب الشيعي، بل وكشخصية حكيمة وسياسية وقائد بارز في الإسلام، وانتشرت في عدة دول أوربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر حكم ومقولات علي بن أبى طالب وتأثر بها بعض الحكام والأمراء في أوروبا.

كما قدم جوزيف آرثر - الذي خدم دبلوماسيا فرنسيا في طهران فيما بين 1855 و1858م – معلومات جديدة للغرب ليس فقط عن الانشقاق السني الشيعي بل عن الاتجاهين الرئيسيين بين علماء فارس: الإخباريين والمجتهدين (النقل والعقل) وهي فروقات أرجعها لأسباب اجتماعية قبل أن تكون دينية. وأشار جوبينيو إلى أن الملالي الفرس حاولوا من خلال التشيع الاحتفاظ بدور القديسين في الديانات الفارسية القديمة حتى لا يفقدوا امتيازاتهم.

وقد رأي جوبينيو في هؤلاء الملالي الورثة الشرعيين لكهنة الزرادشتية، وأن كافة المنظومة الشيعية ليست سوى تلفيق جيد التنظيم لاستعادة نفوذهم، وشكل من أشكال الاعتراض المبطن على الغزو العربي لأراضيهم.

القومية والدين ؟

لم يكن جوبينو الوحيد الذي يقع في محظور التعميم عن الإسلام الشيعي. فقد كتب الفريد فون كريمر في عام 1868 عن "التعصب المفرط للشيعة وعدم تحملهم لغيرهم من أتباع الطائفة المحمدية". وعلى النقيض كتب المستشرق الفرنسي كارا دي فو بعد ثلاثين سنة من ذلك التاريخ أن الشيعة "لديهم تفكير ليبرالي حر" ويكافحون في مواجهة العقلية السنية المتحجرة ضيقة الأفق. وأن العزلة التي يعيشها الشيعة تنبع من خوفهم من الاحتكاك بالآخر نتيجة نجاسته.

 وبالمثل اعتبر جولدتسهير – صاحب كتاب العقيدة والشريعة الإسلامية- حرص الشيعة على عدم الاحتكاك بالآخر المختلف دينا وعقيدة خوفا من نجاسته بمثابة استمرار للتقاليد الزرادشتية واليهودية.

 ووضع الدبلوماسي البريطاني جيمس مورير معلوماته عن فارس من خلال مراقبته للمجتمع الفارسي إبان فترة عمله وترك أثارا أدبية مفيدة. وكانت أكثر أعماله الأدبية أهمية رواية "حجي علي بابا الأصفهاني" والتي نشرها في عام 1824 وقدمت صورة "كاريكاتورية" عن المجتمع  الفارسي وعلماء قم تهكم فيها مورير على الحالة الدينية بقوله " في كل مكان تمر فيه يقابلك رجل دين يدعي أنه من نسل الرسول".

وفي سبيل تدعيم مكانتها الاستعمارية في الهند، قام رجال الإدارة البريطانية في كلكتا بنشر كتاب "شريعة محمد" في 1805. وجاء من مصادر شهيرة للشيعة الإثنى عشرية وأهم ما اعتمد عليه هذا العمل كتاب "تحرير الأحكام وإرشاد الأذهان" للقاضي الشهير في القرن الرابع عشر الميلادي  بن المطهر الحلي، وقام باختيار هذه النصوص الضابط الإنجليزي جون بيلي الأستاذ في الشريعة الإسلامية واللغة العربية والفارسية، وقد سعى بيلي إلى نشر عدد أوسع من الأسس الشرعية للشيعة الإمامية.

وفيما بعد نشرت دراسات مقارنة بين الشريعة لدى المذهب الحنفي والإثنى عشري. ولم يكن الأخير سوى مختارات من كتاب "تحرير الأحكام "  المتعلقة بأمور الزواج والطلاق والرق والهبات والعطايا والوقف والميراث. كما تمت ترجمة كتاب "حياة القلوب" من الفارسية إلى الإنجليزية وهو كتاب يعتني بسيرة الرسول ، كتبه محمد باقر المجلسي.

ومن أهم الكتب التي نقلت إلى الغرب في تلك الفترة كتاب "بحار الأنوار" وهو عمل شيعي تقليدي يعتبر أبرز الأعمال الدينية التي أنتجت خلال فترة الحكم الصفوي ومؤلف من 16 جزءا. كما نقلت بعض المعلومات عن كتب الشيعة الفارسية وبصفة خاصة أعمال مثل " معراج السعادة " و" قصص الأنبياء ".

لمس جولدتسهير قضية التقية لدى الشيعة من خلال مقابلته مع جمال الدين الأفغاني. كان الأفغاني لدى جولدتسهير شيعيا إيرانيا أخفى أصوله وادعى أنه أفغاني سني لكي يؤثر على العالم الإسلامي الأوسع، كان الأفغاني لدى جولدتسهير محرضا وداعية محترفا.

وبينما أعجب جولدتسهير بتقية الأفغاني مدح المستشرق رينان في الأفغاني تحرره من تحيزات الإسلام لأنه ينتمي إلى تلك العروق الفارسية ذات الروح الآرية الخلاّقة وإن تدثرت بلباس إسلامي سطحي.

 وبالتالي فقد اعتبر رينان الأفغاني " أفضل مثال يثبت تلك البديهية العظيمة القائلة بأن قيمة الدين تتحدد بقيمة الأعراق التي تعتنقه . ومن ثم فإن الأفغاني هو " أنقى حالة يمكن أن نستشهد بها للاحتجاج الفارسي على الغزو العربي".

قراءة يسارية وتحليل ماركسي

ماسينون..يمينا يقرأ، ويسارا بالزي الأزهري

 وفي مطلع القرن العشرين اتجهت الدراسات الاستشراقية الغربية نحو التوجهات الفلسفية والروحية في الفكر الشيعي وربط بعضهم – مثل المستشرق لويس ماسينون - بين السيدة مريم العذراء والسيدة فاطمة الزهراء، وقابل بين صلب المسيح واستشهاد الحسين.

ومن هذه الزاوية نظر إلى طقوس عاشوراء كامتداد لطقوس فارسية قديمة كانت تتباكى على "سيافيتش" الشهيد في الملحمة الفارسية القديمة. وحظيت احتفالات عاشوراء في العقد الأول من القرن العشرين باهتمام ملحوظ. وقدمت بعض الدراسات الألمانية عن الشيعة الزيدية والإمامية.

 وتطورت الدراسات الغربية حول الشيعة بشكل جيد التنظيم مع ستينات القرن العشرين حين نشرت العديد من الكتب الشيعية.  وعلى الرغم من أن التقدم كان بطيئا في العقد التالي إلا أن الدراسات الخاصة بالشيعة اكتسبت قوة دافعة مع نشوب الثورة الإيرانية في نهاية سبعينيات القرن العشرين.

ونجحت ترجمة أعمال المفكر الإيراني علي شريعتي في توضيح بعض الأفكار المهمة والتعرف على المنهج الساخر الذي اتبعه شريعتي للهجوم على ركود الفكر الشيعي في إيران الشاه، وبصفة خاصة في كتابيه "دين ضد الدين" و"التشيع العلوي والتشيع الصفوي".

وقد حمل شريعتي للقراء في الغرب ( وكذا في المشرق العربي) مفاهيم لم تكن مطروقة على شاكلة "التشيع الأحمر" مقابل "التشيع الأسود" مفرقا بين "تشيع علي" و "تشيع الدولة الصفوية"

وقد اكتسبت أفكار شريعتي أهميتها من استشرافها للثورة الإسلامية في إيران حينما عمل على ترويج مفهوم "تغيير المجتمع لا إصلاحه" بل يصنفه بعض الدارسين أحد مفجرات هذه الثورة وواحدا ممن أحسنوا تشخيص دور الطليعة المثقفة وعلماء الدين في إصلاح المجتمع بعد تشخيص أمراضه .

كانت كتابات شريعتي بالغة الأثر وافتتن البعض فيها بأدبيات الاستشهاد والتمرد التي بلورها شريعتي في نصوصه الجميلة حول التجربة الحسينية، وفي استخدامه البارع لرموز التراث الشيعي في اتجاه قراءة يسارية لما سماه بالتشيع العلوي (تشيع الفقراء والثوار) في مقابل التشيع الصفوي (تشيع المستكبرين والمستبدين). ومن ثم فقد ألهمت أفكار شريعتي قطاعا واسعا من اليسار العربي، كما ألهمت اليسار الإيراني نفسه.

مدرسة برنارد لويس

ومنذ منتصف القرن الـ20 بدأ المفكر البريطاني اليهودي الأصل برنارد لويس دراساته الجادة عن الفرق الشيعية وبصفة خاصة في كتابيه "الإسماعيلية" و"الحشاشون". وفي غضون عقدين من اشتغاله بهذه المهمة انتقل لويس إلى زاوية المراجعة النقدية للصورة النمطية الموروثة عن الشيعة والتشيع التي أرستها ترجمات وملاحظات القرون الماضية.

وينتقد لويس ما يقوم به بعض الباحثين الغربيين من استخدام مفهوم الأرثوذكس والهيترودوكس (الهرطقة) على الفرق الإسلامية، فثنائية الأرثوذكية/ الهرطقة مفهوم مسيحي  لا علاقة له بتاريخ الإسلام الذي لم يعرف كنائس أو مجالس كنسية، كما يرفض لويس مقارنة السنة والشيعة بمنظار مسيحي ضمن ثنائية الكاثوليكي/ البروتستانتي، وذلك لأنه ليس في قدرة أحد من الباحثين الغربيين تحديد من الكاثوليكي ومن البروتستانتي في الإسلام.

ينتقد لويس ما قام به الدارسون الغربيون في النصف الأول من القرن العشرين(بمنهج أوربي قلق من النزعات القومية والعرقية) من رؤية الفرق بين الطائفتين تمثيلا للسامية والآرية. فالسنة وفق هذه الرؤية يمثلون سامية الإسلام العربي، بينما يمثل الشيعة آرية إيران الصاعدة اعتراضا على الهيمنة.

وفي العصر الذي كانت أوربا تنتابها هواجس الصراع الطبقي والحرب الأيديولوجية بين الطبقات، نظر إلى الشيعة كممثلين للجماهير المقهورة، بينما كان السنة مثالا للمؤسسات البرجوازية. ويقر لويس أن مثل هذه المقاربات أقرب للخطأ منها للصواب فإسقاط التجربة الماركسية على تاريخ نشوء الفرق في الإسلام جد خاطئ. ففي كل زمن كانت هناك أفكار بالغة التباين يصعب معها إطلاق التعميمات.

ويسخر لويس من استشهاد بعض الدارسين الغربيين بخطب الخميني ومنها قوله "  لقد عاش السنة طوال تاريخهم خانعين خنوع التصوف للسلطة أيا كانت طبيعتها الشيطانية، بينما مثل الشيعة المقاومة والاعتراض، سعيا وراء التخلص من الحكم الطاغوتي المخالف للشرع ".

ويرى لويس في هذا تبسيطا مخلا للأشياء، فالخانعون والثائرون كانوا على كلا الجانبين. بل إن الشيعة يضربون مثلا بليغا في الخضوع والانصياع من خلال مبدأ التقية، الذي يجعل المرء يدعي عقيدة غير عقيدته طالما كان في ذلك مصلحة لبقائه.

وحينما هددت الشيوعية الغرب بالتوسع في العالم الإسلامي وطُلب من لويس البحث عن موقف الإسلام من الشيوعية، وجد بينهما عوامل مشتركة ( وإن اعتبرها عارضة). فالشيوعية "المصمتة" تشبه الإسلام "المصمت" والإسلام كالشيوعية تجمعهما الكراهية المتنامية للقوة والامتياز الذي يتمتع به الغرب، كما يجمعهما الفقر المذل الذي تعيشه الجماهير.

وعاد لويس إلى نصوص إسلامية من القرون الوسطى تطلب من المسلمين " الطاعة الكاملة والدائمة لولي الأمر بمقتضى الشريعة المقدسة " ومن ثم فقد اعتبر أن " مجتمعا ربي علي هذه التعاليم لن يصدمه الاستخفاف الشيوعي بالحرية السياسية أو حقوق الإنسان" بل ربما يجذبه نظام يقدم قوة لا ترحم وفعالية في خدمة القضية.

كما وجد لويس عوامل تشابه بين مفكري الشيوعية وعلماء الإسلام فالطرفان "يدعوان لمذهب شمولي له إجابة كاملة ونهائية على كل الأسئلة في الدنيا والآخرة، وكلاهما يقدم لأتباعه إحساسا بالانتماء إلى رسالة، فالإسلام مثل الشيوعية جماعي بدوره". النتيجة المهمة أن الإسلام يشجع على الخضوع للسلطة بينما روح المقاومة للطغيان والحكم الفاسد متأصلة في القيم العميقة للحضارة الغربية". [ملاحظة : برنارد لم يفهم شمولية الإسلام التي تجعل الآخرة الهدف والدنيا سبيلٌ مؤقت حين قارنها بشمولية الشيوعية التي لا تؤمن بالآخرة مطلقاً ]

ولأن لويس يجمع بين الشيء ونقيضه في تحليله من فترة لأخرى ، نجده في موضع آخر يرى أن الإسلام كان في حد ذاته ثورة. فقد قام ثائرا على النظم القائمة بالفعل في مكة. فأقام في زمن وجيز نظما اجتماعية وسياسية جديدة .

لقد بدأ الرسول محمد حياته في مكة كزعيم معارض ومشارك لبعض الوقت في كفاح مضاد لشعبه ونظم حكمهم. وحين لم يتمكن من تنفيذ هدفه ترك مسقط رأسه متجها إلى مكان جديد ليشكل – يمضي لويس- ما نسميه اليوم "حكومة المنفي". ومن هناك استجمع القوى حتى تمكن من العودة و"قلب" نظام الحكم في مكة عنوة.

ويرى لويس أن  المسلمين ينظرون إلى الرسول باعتباره القدوة والأسوة الحسنة فإن نمط مقاومته صار نموذجا يحتذى للحركات المعارضة في العالم الإسلامي المتحدية للنظام القائم وتسعى إلى الانقلاب عليه. هكذا كان العباسيون الذين ذهبوا شرقا إلى خرسان ثم عادوا إلى المركز ، والفاطميون الذين ذهبوا إلى شمال إفريقيا وعادوا إلى المركز، والخميني الذي أسس خرسانيته في "نوفل لوتشاتى"  وعاد إلى قم.

ويرى –أيضا- أن هناك حالات أخرى عديدة على مدار قرون التاريخ الإسلامي، وقد نجح البعض وفشل كثيرون. كما أن الفتوحات الإسلامية ، بمفهوم لويس ، ليست إلا قلبا لنظم الحكم في البلاد التي غزاها المسلمون.

الاستشراق الجديد

من زاوية أخرى تركت المقاومة الفلسطينية للاحتلال الصهيوني رائحتها في بعض القراءات التي وصلت إلى الغرب، حين حاولت بعض الأقلام اللبنانية في الدوريات الفرنسية إقناع القارئ أن الفلسطيني هو "حسين" هذا الزمان يلقى التعذيب والقتل على يد "يزيد" الإسرائيلي الذي "اغتصب" أرضه وأخضعه لحكمه الظالم.

ثم انتقلت الدراسات الغربية في الفترة التي تلت الثورة الإيرانية من نظريات التأصيل الفلسفي إلى تطبيقات الجغرافيا السياسية للأقليات الشيعية.

وكان شيعة الأحساء والقطيف في السعودية وشيعة البحرين والكويت وشيعة لبنان النماذج الأكثر أهمية في هذه الدراسات، ليس فقط لتفحص إمكانية نجاح النموذج الثوري الإيراني في هذه المناطق، بل لجمع معلومات بالغة التفصيل عن حياة المجتمع الشيعي، بدءا من طموحات الحصول على فرص متكافئة في العمل والمشاركة السياسية وصولا إلى خبايا الدور السياسي والديني للحسينيات وتوجهات علماء الدين الشيعة وارتباطهم الملتبس بالمرجعيات الإيرانية والعراقية.

وبعد سقوط بغداد أمام الغزو الأنجلو أمريكي في أبريل 2003 احتل والي نصر، الباحث الأميركي المهاجر من إيران، مكانة كبيرة على الساحة الإعلامية. وقد تمكن نصر من تقديم سلسلة من الدراسات عن الآثار الإقليمية لسقوط النظام السني في العراق وأثر تحول العراق إلى أول دولة شيعية في العالم العربي المعاصر، وما لذلك من إلهاب المشاعر السياسية والمذهبية في دول الجوار.

كرر نصر قبيل غزو العراق الإشارة إلى أن الغرب قد اكتشف أن حركات الإسلام السياسي الشيعية مثلت الخطر الأكبر على الغرب لولا الخدمة الجليلة التي قدمتها أحداث سبتمبر2001 وصرفت الأنظار نحو "الشياطين" الأكثر خطرا من السلفيين. وبعد سقوط بغداد توقع نصر  اختلال خريطة المنطقة بشكل درامي وهو ما لم يتحقق، فلم يقم التحالف السني المصري- السعودي -الأردني في مواجهة التحالف الإيراني –العراقي –السوري – اللبناني (حزب الله) وإنما اتخذ أشكالا أقل أهمية وأكثر تواضعا.

 واستمرت نفس النظرة الغربية التي رأت الشيعة في القوس الممتد من باكستان إلى لبنان ومن أهوار جنوب العراق إلى الغيتوهات في كاراتشي جماعات من المضطهدين والمهمشين على يد الحكم السني لولا الدور الذي لعبته طهران في استقبال مواليد شيعة جدد مثل حركة أمل وحزب الله في لبنان وحزب الدعوة الإسلامية في العراق وحزب الوحدة في أفغانستان والحركة الجعفرية في باكستان.

وقد فتح الإنترنت مجالا إعلاميا لا ند له في إطلال الشيعة على تغيير الرؤية الموروثة عن موقف المستشرقين منهم. وبوسعنا اليوم أن نعثر على عشرات المواقع على الإنترنت تنافح فيها عن "مذهب أهل البيت" باعتباره المذهب "الوحيد" الذي حفظ رابطة الهداية بين الله والخلق ، والمذهب "الوحيد" الذي آمن بختم نبوة محمد (ص) وآمن في الوقت نفسه بالولاية فحافظ على الدين حيا إلى الأبد".

وقد تبدو خريطة الاستشراق الاستعمارية مسؤولة عن قناعات معينة لبعض المفكرين الغرب تجاه التشيع. فقد رأى  فرانسو توبال في التشيع نزعة رومانسية وميلا لليأس والانتظار المهدوي الموعود. وأن الفكر الشيعي أقرب إلى الشيوعية العالمية. فالجماعات الشيعية تقاتل من أجل خلاص العالم من الظلم والاستبداد على نحو ما تناضل حركة البروليتاريا لتحرير البشرية جمعاء.

ويرفض بعض الكتاب الشيعة هذه الرؤية باعتبار  أن الفكر الشيعي ما زال مجهولاً في فرنسا، لأن الإسلام الذي عرفته فرنسا من خلال مستعمراتها هو الإسلام السني الرائج في المغرب العربي والشرق الأوسط، خلاف الإسلام الشيعي الذي عرفته المستعمرات الأنجلوساكسونية. ويتغاضى هذا الرفض الشيعي عن تاريخ الخبرة الفرنسية مع شيعة المشرق العربي وبصفة خاصة في سوريا ولبنان.

وفي العقود الأخيرة التي برز فيها التركيز على الأقليات المذهبية في العالم العربي ركزت بعض الدراسات الغربية على الشيعة كأقلية منسية. وقد حظيت هذه الدراسات باهتمام خاص نظرا لأن مقدميها شغلوا مناصب بالغة الأهمية في الإدارة الأمريكية مثل جرهام فوللر من وكالة CIA  الذي أكد أن الشيعة وقعوا ضحية التمييز نتيجة سقوطهم في موقفين متناقضين، فداخليا اضطهدهم الحكام السنة وخارجيا نظر إليهم الغرب كخاطفين وإرهابيين ، قديما في صورة الحشاشين وحديثا في صورة مقاتلي حزب الله والحرس الثوري الإيراني.

من زاوية أخرى التفت البعض إلى كيفية التلاعب بحقوق الشيعة والتغاضي عن إبادتهم طالما كان ذلك سيحقق مصالح تكتيكية للغرب. فقد كان بوسع الولايات المتحدة أن تقضي على صدام بعد إخراجه من الكويت كما كان بمقدورها تسليح الشيعة بدلا من تركهم يلقون الموت والتدمير على أيدي القوات العراقية.

وعبر بعض الكتاب بطريقة ساخرة عن موقف الغرب تجاه المذابح التي قام بها نظام صدام حسين في العراق تجاه الكرد والشيعة. فالكرد على نحو ما يصور تشومسكي " أصحاب بشرة بيضاء وأصول آرية ومن ثم لقوا التعاطف والتغطية الإعلامية والوعود والمساعدات المالية في مقابل إهمال متعمد للشيعة ذوي البشرة الداكنة والأصول العربية، وذلك حين كان السكوت عن جرائم صدام ضد الشيعة مفيدا آنذاك لأغراض جيوسياسية حتى لا تتفكك العراق أمام إيران.

لقد ساهم صعود الشيعة في العراق في ظهور مصطلحات تلقفها المجتمع المسلم بنفس درجة تلقف المجتمع الغربي للمفاهيم الاستشراقية. فقد ترسخت مصطلحات ترى في الشيعة "صفويين جدد" و "طابورا خامسا" لإيران  في العالم العربي.

وكانت مثل هذه المصطلحات كفيلة بإظهار الشيعة أقل عروبة وأضعف إسلاما، رغم دفاع الشيعة عن أنفسهم باعتبارهم ليسوا أقل وطنية من بقية المسلمين. فقد حاربوا ببسالة في العراق ضد الإيرانيين الشيعة أمثالهم ، كما تصدوا في الكويت للغزو العراقي.

كما أن مواقف حزب الله في الجنوب اللبناني في مواجهة إسرائيل وتحقيق نصر تاريخي بإجبار إسرائيل على الانسحاب تحت تهديد الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية في شمال فلسطين لا يحتاج إلى دليل على الدور الشيعي في حماية الأوطان.