تأمّلات فلسفيّة في الحبّ الإنساني (2)

د. سامي الشّيخ محمّد

د. سامي الشّيخ محمّد

[email protected]

أودُّ الإشارة إلى موضوع آخر في ذات السّياق ، يخصُّ علاقة الصّداقة بالحبّ ، ذلك أنّني أعتقدُ بأنَّ  ثمّة رابطة وجدانيّة عقليّة تجمع الصّداقة بالحبّ ، لنخلص في نهاية التّحليل إلى أنّ كلّ صداقة تنطوي على قدرٍ مّا من الحب ، أو إن شئت القول عاطفة الحبّ ، فالأصدقاء محبّون لبعضهم البعض ، سواء كانوا ذكورأ أم إناثاً أم من الجنسين معاً ، فبالصّداقة يتحقّق نوعٌ من الحبّ يَسِمُها بدرجةٍ رفيعةٍ من الخلقيّة ، تنمّ عن الشّعور بالإعجاب والاحترام والتّقدير، آخذين بالاعتبار حالة القلق والتّوتّر النّفسيّ المصاحبة للصّداقة بين الجنسين ، بفعل جملة من العوائق الاجتماعيّة والثّقافيّة والقيميّة الّتي تنكر هذا النّوع من الصّداقة من كلا الجنسين ، في بعض المجتمعات ومنها مجتمعاتنا الشّرقيّة المحافظة ، من هنا كان الفضاء الإلكترونيّ هو المنفذ الأوسع لبناء الصّداقة الآمنة بين أفراد الجنسين على نطاق واسع في العالم . نظراً لتوفّر السّريّة ، والحفاظ على الخصوصيّة بين الأصدقاء المعجبين والمحبين لبعضهم البعض .

والسّؤال المطروح أليست عاطفة الحب الشّعوريّة أقرب إلى الطّبيعة الافتراضيّة الإلكترونيّة منها إلى الطّبيعة المحسوسة في الواقع ، مع أنَّ الطّبيعة الإلكترونيّة هي طبيعة واقعيّة ، والدّليل على ذلك أنَّ ثمّة صداقات مشفوعة بالحب تنشأ بين الأفراد عبر التّواصل الإلكتروني كثيراً منها ما ينتهي بفاعليّات اجتماعيّة مشتركة ، بما فيها الزّواج الفعليّ بين أفراد الجنسين .

فإذا كان لسماع كلمة الحبّ المنطوقة وقعه في النّفس والعقل والقلب والوجدان ، فإنَّ للكلمة المكتوبة أثراً لا يقلُّ عن ذلك . 

أمّا الانتقال بالحبّ إلى مستوى الألوهيّة ، وإعلان التّماهي في الحبّ بين الإنسان والله ، فهو قضيّة تحتاج إلى تأمّلٍ ينقلنا للحديث عن مفهومنا لماهيّة الله ، الّتي يمكننا الشّروع بها ، إذا ما وجدنا أنّنا قد بلغنا مستوىً مقبولاً من الكلام عن الحبّ وإن لم يكن نهائيّاً .

  الشّخص الإنسانيّ كائن (مركّب) من عناصر عدّة ، بيولوجيّة ، فيزيولوجيّة ، نفسيّة ، عقليّة ، أخلاقيّة ، وروحيّة ، حريٌّ بنا التعمّق فيها ، بقصد الوقوف على فهم طّبيعة الإنسان ، الّتي يعدُّ الحبّ والصّداقة أبرز عنصرين فيها .

   فبالنّظر إلى الشّخص الإنسانيّ من زاوية الطّبيعة العضويّة ، بوسعنا القول بأنّه كائنٌ بيولوجيٌّ عاقلٌ بحدود طبيعته العضويّة والاحتياجات المرتبطة بها ، أمّا العناصر الّتي يتكوّن منها فهي : الجسد (عظاماً ، لحماً ، دماً، أدَمَة ، شعراً ، والحواس والأحاسيس المتّصلة بها ) ، أمّا الطّبيعة الفيزيولوجية الدّاخليّة ، فتنطوي على عناصرُ عدّة ، أبرزها الهرمونات والغريزة ، والأداء الوظيفيّ للأعضاء الدّاخليّة ،  كالقلب والدّماغ .. الخ ، أمّا الطّبيعة النّفسيّة فتشمل العواطف والمشاعر والأحاسيس الدّاخليّة ، فضلاً عن وظائف العقل المُتعدّدة من تأمّل وتذكّر وتخيّل وإدراك .. الخ . ثمّ الطّبيعة الأخلاقيّة وتتمثّل في نزوع الإنسان للقيم الأخلاقيّة وممارساتها العمليّة ، انتهاءً بالطّبيعة الرّوحيّة الّتي ميدانها التديّن والقداسة ، والسموّ المتعالي باتّجاه الملكوت السّماوي والله .

   أمّا الجسد فله احتياجاته العضوية الّتي يتحقّقُ بتلبيتها نوع من التّوازن الجسديّ والنّفسيّ لدى الإنسان ، (من قبيل الطّعام والشّراب والجّنس والأبوّة والأمومة ، والكساءٍ والمسكن .. الخ )، فالجسد يجوع ويظمأ ويتأثّر بالحرارة والبرودة ، وينزوع نحو الأبوّة والأمومة ، وهي بجملتها أمورٌ مشروعةٌ ، ليس بوسعنا التنكّر لها أو إنكارها على الجسد ، لكن ربّما ينصبُّ خلاف البعض فيها ـ ونحن منهم ـ ، على الأسلوب والطّريقة والكيفيّة الّتي يتمّ بوساطتها الحصول عليها ، وإشباع الجسد منها ، كأن يتمّ التّعاطي معها بطريقةٍ وكيفيّة حضاريّة أو بكيفيّة همجيّة بدائية، وفي هذا يكمن الفارق النّوعيّ بين الإنسان المتحضّر وغير المتحضّر الّذي ربّما يتشابه سلوكه مع الكائنات البيولوجيّة الصّرفة .

  على الرغم من أنَّ بعض الكائنات غير العاقلة ، يتّصفُ سلوكها بأوصاف جماليّة وأخلاقيّة تتراوح بين آداب التصرّف والّلياقة ، والشّعور بالغيرة والأنفة ، كبعض أنواع الطّيور ، والجمال ، والفرس الأصيلة وغيرها .

   فالكيفية الرّاقية الّتي يتمّ تلبية احتياجات الجسد بها ، تشير إلى بعدها الجماليّ والفنيّ الخليق بسلوك الإنسان والكائنات الّلطيفة من حولنا ، فتنتفي بذلك مظاهر السّلوك السّيّئة ، في تعامل الإنسان مع حاجاته الجسديّة المختلفة . لاسيّما أنَّ الجسد كما قال القدّيس بولس يشتهي ما هو ضدّ الرّوح ، والرّوح يشتهي ما هو ضدّ الجسد ، فتغدو المعادلة صعبة وشاقّة ، في المواءمة بين متطلّبات الجسد واحتياجاته ومتطلّبات الرّوح واحتياجاتها .

   إذاً لا انفصال بين الجسد والرّوح ، إلاَّ على المستوى الذّهنيّ المجرّد ، ذلك أنَّ أجسادنا وأرواحنا تشكّلُ شخوصنا الإنسانيّة ، بمعنى أنَّ الكائن الإنسانيّ لا يكون شخصاً إنسانيّاً إلاَّ باتّحاد الرّوح بالجسد ، ولكنّ ثمّة ثقافات شائعة ومتوارثة ، شعبيّة وغير شعبيّة ، ترذل الجسد ، وتعلي من شأن الرّوح ، فتنظر إلى الجسد بعين الرّيبة والحذر ، فترقب حركاته وسكناته ، وتخلع عليه لبوس التّحريم ، لا لشيء إلاَّ لأنّهُ مسكون بالعاطفة والغريزة والشّهوة والّلذّة ، الّتي يُخشى التّعبير عنها وممارستها خارج نطاق الشّرعيّة الاجتماعيّة والأخلاقيّة المتمثّلة بالزّواج ، فالعاطفة والغريزة والشّهوة والّلذّة وممارسة الحبّ الجنسيّ ، أمورٌ محرّمةٌ ومنهيٌّ عنها خارج نطاق الحياة الزّوجيّة .

    والسّؤال من أين جاءت هذه النّظرة الحذرة والدّونية للجسد ، والّتي تسود معظم الأوساط الاجتماعيّة في مجتمعاتنا الشّرقيّة المحافظة ، هل من الثّقافات والعادات والتّقاليد السّابقة على ، المرحلة الدّينيّة السّماوية ؟ أم أنّها مستمدّة من النّصوص والتّشريعات الدّينية اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة ؟ .

    في الحقبة ما قبل الّلاهوتيّة الدّينية ، حقبة المثيولوجيّة الأسطوريّة ، حظي الجسد الإنسانيّ بمكانةٍ مرموقةٍ ، وكان معياراً للتّفاضل بين الأفراد ذكوراً وإناثاً ، فالقوّة البدنيّة والإفراط في حبّ الجنس والممارسة الجنسيّة بين الجنسين ، كان يُعَدُّ من الأمور الشّرعيّة المقدّسة ، فانتشرت ظاهرة عاهرات المعابد الّلواتي يتقاطرن إلى كهنة المعابد ، لممارسة الجنس معهنّ ، حتّى أنَّ ُ بعضهنُّ يضطرّ للانتظار فترات ليست بالقصيرة ، لعلَّ أحداً يدخل فيهنّ . وبالتّالي كان الجنسُ مبعثاً للتّباهي والتّفاخر بين كلا الجنسين ، وفي العصر الرّوماني كان يتخيّرُ بعض الرّجال ، رجالاً يدخلون بزوجاتهم من ذوي البنية البدنيّة القويّة من الفرسان ، لكي يُحسّنوا نسل نسائهم .

  ومنذ تلك الحقبة حتّى يومنا هذا نجد معيار التّفاضل الجسديّ بين النّساء والرّجال ، يتّصل بحجم الجسد وأعضائه الأنثويّة والذّكوريّة  ، بين أفراد الجنسين بالنّسبة للغالبيّة السّاحقة من البشر ، وهذا دليلٌ عمليّ على أهميّة مواصفات الجسد بالنّسبة لأفراد الجنس البشريّ قاطبة ، وهو تعبيرٌ فطريّ لحاجة فطريّة متأصّلة وراسخة في بنية الإنسان الدّاخليّة .

    فهذه الإلهة عشتار تتنقّلُ بين أحضان الرّجال ، وتتفاخر في ذلك . حتّى الميثولوجيا اليهوديّة ، ضربت عرض الحائط بالوصايا التّوراتيّة العشر الّتي نزلت على النبيّ موسى : " لا تقتل ، لاتسرق ، لا تزن ، لا تشهد شهادة زور ، لا تشته امرأة قريبك أو أي شيء ممّا لقريبك .....الخ " . عندمّا أضفت طابعاً سلوكيّاً عامّاً على الممارسات الجنسيّة الخاصّة بشخصيات محوريّة في العهد القديم ، كـ : داود الملك الّذي مارس الجنس مع بتشابع زوجة أوريا الحثّيّ ، وأبشالوم ابن داود الّذي مارس الجّنس مع أخته تامار ، وسليمان الملك الّذي تزوّج أكثر من سبعمئة زوجة ، ويهوذا الّذي مارس الجنس مع كنّته تامار - زوجة ابنه المتوفّى (شيلة)-  على غير علم منه ـ  وابنتا لوط الكبرى والصّغرى الّلتان مارستا الجنس مع أبيهن لوط بعدما سقتاه خمراً ، لأنّهنَّ لم يجدن رجلاً يدخل عليهنّ .... الخ .

   ولكن مع مجيء السيّد المسيح عليه السّلام ، والإسلام  لاحقاً ، أصبح للجسد ضوابط وقيود ، حدّدت المجالات المشروعة الّتي ينبغي للجسد عدم تجاوزها ، حتّى لايقع في الإثم والحرام ، فالتّفكير في ممارسة الجنس مع المرأة غير الزّوجة ، أو النّظر بشهوة لجسد المرأة وعيونها ، أو لمس أيّ عضو من أعضاء جسدها ، والحال نفسه بالنّسبة للمرأة في تعاطيها مع الرّجل ، أضحت مسائل محظورة ومحرّمة ، إن حصلت يقع الحرام ويكون الزّنا . كذلك الخمرة الّتي كانت شراباً يتغذّى به النّاس ويروّحون به عن أنفسهم ، في المرحلة ما قبل الدّينيّة ، أصبحت إثماً وحراماً في المرحلة الدّينية الدنيويّة ولا تزال هذه النّظرة واسعة الانتشار في بعض المجتمعات في أيّامنا هذه ، عبر النّظر للخمرة بوصفها رجساً من عمل الشّيطان يجب اجتنابه والابتعاد عنه كي لا يقع الحرام .

   بالمقابل هناك نظرة مختلفةٌ جذريّاً للجسد في المجتمعات الغربيّة المعاصرة ، قوامها منح الجسد الحريّة الكاملة ، في تلبية احتياجاته وإشباعها ، لا سيّما ما يتّصل منها بالحاجة لممارسة الجنس ، دون عوائق أو قيود ، فالحاجة لممارسة الجنس وتحقيق الإشباع الجنسي بين أفراد الجنسين أو بين المثليّين من أفراد الجنس الواحد ، تُعضدُّ حاجةٌ إنسانيّةٌ مشروعة تماماً من جانب أفراد تلك النّظرة ، تماماً كالحاجة للطّعام والشّراب والكساء . فالشبّان والفتيات يمارسون الجنس في سنّ باكرة ، ويتقنون فنونه قبل الحياة الزّوجيّة ، الّتي لا تحول ـ الحياة الزوجية ـ دون ممارسة الجنس خارج نطاق الزّوجيّة من جانب معظم الأزواج والزّوجات ، وهناك نوعٌ من الزّواج الجسديّ القائم على المساكنة ،في تلك المجتمعات ،  الزّواج من غير  إنجاب ، وهذه أمورٌ مشروعة في ثقافة تلك المجتمعات ، ليس هذا فحسب بل إنَّ الفتيات الّلاتي يحتفظن بعذريّيتهن لا يشكّلن إلاَّ نسبة ضئيلة في عداد فتيات المجتمعات المذكورة .

   والسّؤال لولا وجود منظومة القيم الدّينيّة والأخلاقيّة المستمدّة في معظمها من التّشريع الدّيني والاجتماعيّ ، كيف سيكون التّعامل مع العلاقات الجسديّة الجنسيّة بين أفراد النّوع الإنساني في مجتمعاتنا الشّرقيّة  المُتَديّنة منها خاصّة ؟ .

    نعتقدُ أنّهُ لولا الثّقافة التّحريميّة المتأصّلة فينا ، لألفينا أجسادنا حرّة من كلّ قيد في التّعبير عن حاجاتنا الجسديّة وممارسة الحبّ الجنسيّ على نطاق واسع مع الجنس الاخر المحيط بنا ، انطلاقاً من حبّ التنوّع والاستزادة .

  ولكن ما يمنع أفراد تلك المجتمعات من السّعي لممارسة ذلك هي : القيم الدّينيّة والأخلاقيّة والثّقافيّة والاجتماعيّة  السّائدة ، الّتي تشغل الحيّز الأكبر من وجداننا الأخلاقيّ  وضميرنا الفرديّ الّذي يتحكّم سلوكنا من النّاحية العمليّة . 

  لنخلص بالنّتيجة إلى أنَّ الجسدَ حقّ ، وله الحقّ في التّعبير عن احتاجاته  ، والسّعي لإشباعها ، واكتساب الفنون والمهارات الّتي تجلب له أكبر قدرٍ من الّلذّة والسّعادة ، سواء اتّصل ذلك في حاجتنا للطّعام أوالشّراب أوالجنس . بالطّريقة الّتي تحقّق لنا الاتّزان والّلياقة البدنيّة والأخلاقيّة والرّوحيّة ، حيث يتحقّق الرّضا والسّرور ، بعيداً عن الشّعور بالنّدم . ما يجعلنا مطالبين بمراعاة الشّرعية الأخلاقيّة والرّوحيّة المتجذّرة فينا . ..

يتبع ...