رحلة ممتعة في أعماق سورة الأعراف

(المغتربون العائدون)

د. فوّاز القاسم / سوريا

لقد انطلقت البشرية من هناك . . من عند ربها سبحانه . . انطلقت إلى الأرض . تعمل وتسعى , وتكد وتشقى , وتصلح وتفسد , وتعمر وتخرب , وتتنافس وتتقاتل , وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد . .

ثم ها هي ذي تؤوب ! ها هي ذي ترجع إلى ربها الذي أطلقها في هذه الأرض . .

ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال الرحلة المرسومة . . من ورد وشوك ، ومن غال ورخيص ، ومن ثمين وزهيد ، ومن خير وشر ، ومن حسنات وسيئات .

ها هي ذي تعود في أصيل اليوم . . بعد أن انطلقت في مطلعه ! . .

وها نحن أولاء نلمحها من خلال سياق سورة الأعراف موقورة الظهور بالأحمال .. ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها . تضلع في الطريق , وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير . حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان , ووقف يرتقب في خشية ووجل. . كل فرد قد عاد بحصيلته فرداً . .

( وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ) !

وكل فرد على حدة يلاقي حسابه , ويلقى جزاءه . . ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية , فوجاً فوجاً . إلى جنة أو إلى نار . حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين .

( كما بدأكم تعودون . فريقاً هدى ، وفريقاً حق عليهم الضلالة , إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ، ويحسبون أنهم مهتدون). .

وبين الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل . معارك الهدى والضلال . معارك الرهط الكريم من الرسل ، والموكب الكريم من المؤمنين أتباع الرسل ، مع الملأ المستكبرين وأتباعهم الغافلين . ويعرض الصراع المتكرر ; والمصائر المتشابهة . وتتجلي صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها ; وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها . وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين . حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير . . وهذه الوقفات تجيء وفق نظام ملحوظ في سياق السورة . فبعد كل مرحلة هامة يبدو كما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة ! كلمة تعقيب . للإنذار والتذكير . . ثم يمضي .

إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهاباً وإياباً . تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية , ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول . . حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأولى ...

وتمضي الرحلة , وتجري القصة , ويبرز الموكب الإيماني الجليل  ، من الرسل وأتباعهم ، يهتف بالبشرية الضالة , يذكرها ، وينذرها , ويحذرها سوء المصير . والبشرية الضالة تلوي وتعاند , وتواجه الدعوة الخيرة بالعناد والتمرد ; ثم بالطغيان والبطش . . ويتولى الله سبحانه المعركة بذاته العليا ، بعد أن يؤدي الرسل وأتباعهم  واجبهم من التذكير والإنذار , فيقابلوا من قومهم بالتكذيب والإعراض , ثم بالبطش والإيذاء . ثم تأتي النهاية الحتمية ، تدمير الظالمين ، وتمكين المؤمنين .

( وكان حقاً علينا نصرُ المؤمنين ) صدق الله العظيم ...

فإلى أعماق سورة الأعراف الباهرة ...